لكن جوليان لم تكن تخشى فحسب انتهاك خصوصيتها، وامتهان كرامتها. كانت تعتبر زان شريرا. كان للكلمة وزن لديها. لقد رأت بعين بصيرتها ما يكمن وراء قوته وجاذبيته وذكائه وحس فكاهته النابع لا من خواء روحه بل من ظلمتها. أيا ما كان يخبئه المستقبل لطفلها، كانت لا تريد أن يحضر ولادته أي شخص شرير. كان الآن يفهم تمسكها باختيارها الذي بدا له وهو يجلس وسط تلك السكينة والهدوء صائبا ومنطقيا. لكن تصلب رأيها ذلك كلف شخصين حياتهما، أحدهما والد طفلها. قد تزعم أن الخير يمكن أن يولد من رحم الشر؛ فأن تزعم أن الشر يمكن أن يأتي من رحم الخير كان بلا شك أصعب. كانت تثق في رحمة وعدالة إلهها الواسعتين، لكن هل كانت تملك خيارا آخر؟ فهي لم يعد لديها القدرة على التحكم في حياتها مثلما لم تكن تملك القدرة على إيقاف أو التحكم في قوى الطبيعة التي كانت، في تلك اللحظة، تمدد جسدها وتعتصره ألما. إن كان إلهها موجودا، فكيف له أن يكون إله محبة؟ كان ذلك السؤال قد أصبح مبتذلا وشائعا، لكنه لم يسمع إجابة مرضية عنه قط.
أصغى مجددا للغابة، لأصوات حياتها السرية. كانت الأصوات، التي يبدو أنها كانت تزداد كلما أصغى، مخيفة ومرعبة؛ صوت حيوان جارح يعدو وينقض على فريسته، والقسوة والرضا في الاقتناص، والصراع الغريزي على الطعام، وعلى البقاء. كان الألم هو النسيج الذي يربط جميع أجزاء العالم المحسوس، صرخة الحلق وصرخة القلب. إن كان لإلهها يد في ذلك العذاب، إن كان هو خالقه وحافظه، إذن فهو إله الأقوياء لا الضعفاء. تأمل الفجوة التي تفصل بينه وبين جوليان، فجوة صنعها إيمانها، لكن دون ارتياع. لم يكن يملك أن يسدها، لكنه كان يملك أن يعبرها. وربما في النهاية، سيكون الحب هو الجسر الذي سيمكنه من عبورها. كم كانت معرفته بها ضئيلة وكذلك معرفتها به. كانت مشاعره تجاهها غامضة وغير منطقية. كان يحتاج لأن يفهمها، لأن يحدد طبيعتها، لأن يحلل ما لا يقبل التحليل. لكن بعض الأمور كانت جلية له الآن، وربما كانت تلك الأمور هي كل ما كان يحتاج إلى معرفته. لم يكن يتمنى لها إلا الخير. ويقدم مصلحتها على مصلحته. لم يعد قادرا على فراقها. وكان مستعدا للموت من أجلها.
اخترق السكون صوت أنين تبعه صرخة حادة. في السابق كان يمكن أن تثير خجله، وخوفه المهين من أن يعتبر غير كاف. أما الآن، فلم يشعر إلا بحاجته لأن يكون إلى جوارها، فهرع إلى السقيفة. كانت مستلقية مجددا على جانبها بهدوء، وابتسمت ومدت يدها إليه. كانت ميريام جاثية بجوارها.
قال: «ماذا بإمكاني أن أفعل؟ دعيني أبقى معك. هل تريدين أن أبقى؟»
قالت جوليان بصوت متزن كأنما لم يصدر عنه للتو تلك الصرخة الحادة: «بالطبع يجب أن تبقى. نريدك أن تبقى. لكن ربما كان من الأفضل أن تبدأ في جمع الحطب للنار الآن. كي يكون جاهزا لإشعاله عندما نحتاج إليه.»
رأى أن وجهها كان متورما، وحاجبيها كانا متعرقين. لكنه كان مندهشا من سكونها وهدوئها. الآن صار لديه ما يفعله، لديه مهمة يثق في قدرته على أدائها. إن استطاع أن يجد نشارة أخشاب جافة تماما فسيكون ثمة أمل في أن يستطيع إشعال نار دون دخان كثيف. كان الهواء ساكن تماما في ذلك اليوم، ومع ذلك يجب أن يحرص وهو يصنعها على ألا يتطاير أي دخان على وجه جوليان أو وجه طفلها. الجانب الأمامي من السقيفة سيكون أفضل مكان؛ حيث السقف مكسور لكنه يظل قريبا كفاية لتدفئة الأم وطفلها. وسيحتاج لأن يحتويها وإلا فقد تتأجج وتحرق كل شيء. ستصلح بعض الحجارة من الجدار المتهدم لصنع مستوقد جيد. خرج ليجمعها، مختارا إياها بعناية حسب أحجامها وأشكالها. خطر له أن بإمكانه استخدام بعض الحجارة المسطحة لصنع مدخنة. عاد، ورص الحجارة في حلقة، وملأها بأجف نشارة وجدها، ثم وضع فيها بضعة غصينات. وأخيرا وضع الحجارة المسطحة فوق الحلقة، موجها الدخان إلى خارج السقيفة. عندما انتهى من مهمته، شعر برضا طفل صغير. وعندما رفعت جوليان رأسها وضحكت مبتهجة شاركها الضحك.
قالت ميريام: «سيكون من الأفضل إن جثوت بجوارها وأمسكت بيدها.»
خلال نوبة الألم التالية قبضت على يده بشدة جعلت براجمه تطقطق.
عندما رأت ميريام وجهه، وحاجته الملحة إلى الطمأنة، قالت: «هي بخير. هي على ما يرام. لا يمكنني إجراء فحص داخلي. لن يكون ذلك آمنا في الوقت الحالي. فليس معي قفازات معقمة وقد نزل ماء الولادة. لكني في تقديري أن عنق الرحم قد تمدد تماما. وستكون نوبة الانقباضات القادمة أسهل.»
قال لجوليان: «عزيزتي، ماذا أستطيع أن أفعل لك؟ أخبريني ماذا بإمكاني أن أفعل.» «فقط ابق ممسكا بيدي.»
صفحة غير معروفة