دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية
الناشر
عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية،المدينة المنورة
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
مكان النشر
السعودية
تصانيف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة معالي مدير الجامعة الإسلامية
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أشرف ما تتجه إليه الهمم العالية هو طلب العلم، والبحث والنظر فيه، وتنقيح مسائله، وسلوك طريقه، لأن ذلك هو الذي يوصل إلى السعادة، كما قال الرسول ﷺ: "من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة". وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
وأول ما بدئ به رسول الله ﷺ هو وحي الله إليه بالعلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ وقال تعالى يخاطبه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ …﴾ وقال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾.
وما قامت الحياة السعيدة في الحياة الدنيا والآخرة إلَّا بالعلم النافع.
ولذا كان التعليم هو الهدف الأعظم المؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز ﵀، ولأبنائه كذلك من بعده، ففي عهد خادم الحرمين الشريفين، أول وزير للمعارف بلغت مسيرة التعليم مستوى عالية، وازدهر التعليم العالي وارتقت الجامعات، ومن هذه الجامعات العملاقة، الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، فهي صرح شامخ، يشرف بأن
1 / 5
يكون إحدى المؤسسات العلمية والثقافية، التي تعمل على هدي الشريعة الإسلامية، وتقوم بتنفيذ السياسة التعليمية بتوفير التعليم الجامعي والدراسات العليا، والنهوض بالبحث العلمي والقيام بالتأليف والترجمة والنشر، وخدمة المجتمع في نطاق اختصاصها.
ومن هنا، فعمادة البحث العلمي بالجامعة تضطلع بنشر البحوث العلمية، ضمن واجباتها، التي تمثل جانبا هاما من جوانب رسالة الجامعة ألا وهو النهوض بالبحث العلمي والقيام بالتأليف والترجمة والنشر.
ومن ذلك كتاب: "دراسات نقديّة في المروّيات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب له وسياسته الإدارية"، تأليف: الدكتور عبدالسلام بن محسن آل عيسى.
نفع الله بذلك ونسأله سبحانه أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معالي مدير الجامعة الإسلامية
د/ صالح بن عبد الله العبود
1 / 6
مقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهير الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فإن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين أمر في غاية الأهمية وذلك لما للخلفاء الراشدين من منزلة رفيعة في الدين، فهم من أجلَّة صحابة النبي ﷺ الذين أثنى الله عليهم في كتابه. قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (^١).
_________
(^١) سورة الفتح الآية (٢٩).
1 / 7
وهم أيضًا ممن شهد لهم النبي ﷺ بالفوز في الآخرة برضوان الله ﷿ ودخول جنته (^١).
وأمرنا النبي ﷺ بالاقتداء بهم، قال ﷺ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" (^٢).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فقرن سنة خلفائه بسنته، وبالغ في الأمر بها حتى أمر أن يعض عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة، وإن لم يتقدم فيه من نبيهم شيء، وإلا كان ذلك سنة ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم، لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد، فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو سنة الخلفاء الراشدين" (^٣).
كلّ هذا يعطي الفترة التاريخية التي عاش فيها أولئك الخلفاء الراشدون مزية ومكانة هامة ليست للفترات التاريخية التي تليها.
ثم إن دراسة خلافة عمر بن الخطاب ﵁ لها أهمية أخرى فعمر ﵁ أفضل هذه الأمة بعد النبي ﷺ وأبي بكر.
_________
(^١) ثبت ذلك في حديث العشرة المبشرين بالجنة، وهو حديث صحيح، انظر: ص: ٣٤٧.
(^٢) صحيح انظر تخريجه في ص: ٤٢٩.
(^٣) أعلام الموقعين ٤/ ١١٨، ١١٩.
1 / 8
قال عمرو بن العاص ﵁: "أتيت النبي ﷺ، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة". قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها"، قلت: ثم من؟ قال: "عمر" … الحديث (^١).
وقال عبد الله بن عمر ﵄: كنا نخير بين الناس زمن النبي ﷺ فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان (^٢).
وشهد النبي ﷺ لعمر ﵁ بسعة علمه وصوابه وصدق حدسه.
قال ﷺ: "بينما أنا نائم إذ أتيت بقدح لبن، فقيل لي: اشرب، فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر". قالوا: فما أولت ذلك؟
قال: "العلم" (^٣).
قال ابن القيم: ومن أبعد الأشياء أن يكون الصواب مع من خالفه في فتيا أو حكم لا يعلم أحدا من الصحابة خالفه فيه، وقد شهد له رسول الله ﷺ بهذه الشهادة (^٤).
_________
(^١) صحيح النظر تخريجه في ص: ٣٩١.
(^٢) صحيح. انظر تخريجه في ص: ٤٤٠.
(^٣) صحيح. انظر تخريجه في ص: ١٨٠.
(^٤) أعلام الموقعين ٤/ ١٤٥، ١٤٦.
1 / 9
وقال ﷺ: "إن الله وضع الحق على لسان عمر وقلبه" (^١).
وقال ﵊: "إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدِّثُون (^٢)، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم، فإنه عمر بن الخطاب (^٣).
ولمكانة عمر ﵁ الدينية والعلمية وكثرة الآثار المروية عنه في فترة خلافته والتي تتناول جوانب هامة من حياة المسلم في علاقته بر به وعلاقته بولاة الأمر وعلاقته بإخوانه، وأهل بيته، وكانت هذه الآثار موضع القدوة والأسوة الحسنة، كان لا بد من التحقيق والتدقيق في ثبوتها وصحة نسبتها لعمر ﵁.
وإن مما ساعد على حفظ هذه الآثار وتخليصها من الكذب والدس وبيان حقيقة ثبوتها من عدمه أن سلفنا الصالح من المحدِّثين والمؤرخين نقلوها إلينا مسندة، وكانوا ﵏ ورضي عنهم، لا يقبلون شيئا من الأخبار إلَّا مسندًا.
_________
(^١) صحيح، انظر: ص ٢١٧.
(^٢) محدثون: أي ملهمون. ابن الأثير/ النهاية في غريب الحديث ١/ ٣٥٠.
(^٣) صحيح انظر تخريجه في ص: ٢١٧.
1 / 10
ومن أقوالهم في ذلك:
١ - قول محمّد بن سيرين (^١) ﵀: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم (^٢).
٢ - قول شعبة (^٣) بن الحجاج ﵀: كل حديث ليس فيه حدثنا وحدثنا فهو مثل الرجل بالفلاة معه البعير ليس له خطام (^٤)
٣ - قول عبد الله (^٥) بن المبارك ﵀: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء (^٦).
وقال: إن بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد (^٧).
٤ - قول بهز (^٨) بن أسد ﵀: لا تأخذوا الحديث عمن لا يقول ثنا (^٩).
_________
(^١) محمد بن سيرين الأنصاري، ثقة، ثبت، عابد، من الثالثة. تق ٤٨٣.
(^٢) مسلم الصحيح / شرح النووي ١/ ٨٤.
(^٣) شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، ثقة حافظ متقن، كان النووي يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، من السابعة. تق ٢٦٦.
(^٤) ابن حبان / المجروحين ١/ ٢٧.
(^٥) عبدالله بن المبارك المروزي، ثقة ثبت، عالم جواد، مجاهد جمعت فيه خصال
الخير من الثامنة. تق ٣٢٠.
(^٦) مسلم الصحيح / شرح النووي ١/ ٨٧، ٨٨
(^٧) المصدر السابق.
(^٨) بهز بن أسد العمي أبو الأسود البصري، ثقة من التاسعة. تق ١٢٨.
(^٩) ابن حبان / المجروحين ١/ ٢٧.
1 / 11
فبالإسناد يعرف حال نقلة الخبر من القوة والضعف، فيؤخذ ما نقله أهل الصدق والأمانة والعدالة ويترك ما نقله الضعفاء والمتروكون.
قال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (^١).
ولقد كان كبار المؤرِّخين من كبار علماء الحديث، وممن تكلموا في الرجال كعروة بن الزبير، والزهري، وابن سعد، وخليفة بن خياط، وابن أبي شيبة، وابن شبة، والفسوي، وابن أبي خيثمة، وأبي زرعة والطيري، وابن عساكر، والذهبي، وابن كثير، وممن عنوا بسرد الأخبار التاريخية بأسانيدها، إبراء لعهدتهم من المسؤولية عن صحة ما ينقلونه من عدمها، لأن من أسند لك فقد أحالك.
ولا يعني إيرادهم للأخبار الباطلة والضعيفة قبولهم لها واعتقادهم ثبوتها.
قال الطبري ﵀: فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يوت في ذلك من
_________
(^١) المصدر السابق.
1 / 12
قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا (^١).
وقد انتقد أهل العلم من لم يتحر من المؤرِّخين في نقله للأخبار وروايته لها، وقبوله إياها وبينوا أن كتب التاريخ تحتوي على الحق والباطل، والصدق والكذب، وأنها مشتملة على الأخبار الموضوعة التي وضعها الكذابون من أجل مصالحهم.
قال السخاوي رحمه الله تعالى: وبالجملة فالمؤرخون كغيرهم من سائر المصنفين في كلامهم الحمير العفين … نعم قد ظهر الكثير من الخلل، وانتشر من المناكير ما اشتمل على أقبح العلل، حيث انتدب لهذا الفن الشريف من اشتمل على التحريف، والتصحيف لعدم إتقانهم شروط الرواية والنقل، وائتمانهم من لا يوصف بأمانة ولا عقل، بل صاروا يكتبون السمين مع الهزيل، والمكين مع المزلزل العليل (^٢).
وقال القاضي أبو بكر بن العربي ﵀ عند كلامه على خبر التحكيم بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان ﵃: هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه
_________
(^١) تاريخ الرسل والملوك ١/ ١٣.
(^٢) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ ص: ١٠٤/ ١٠٥.
1 / 13
المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانية والمهارة بمعاصي الله والبدع (^١).
وإن مما يستنكر ويستغرب ظهور بعض من يدعو في وقتنا الحاضر المقاومة الدراسات النقدية للتاريخ الإسلامي والتي تهدف لتمحيصه وتخليصه من كذب الضالين، وافتراء الحاقدين بدعوى أن ذلك يؤدي الرفض الكثير من الأخبار التاريخية وبالتالي فقدان الأمة لتراثها وتاريخها، وهذه دعوي باطلة فإن الدراسات النقدية والتي تتبع فيها طرق الحبير من مصادر متعددة حديثية وتاريخية وأدبية، وغيرها تؤدي لزيادة توثيق الخبر. وإبراز معلومات جديدة لم تكن معروفة من قبل، وقد تؤدي إلى دفع التعارض والإشكال الذي يقع فيه كثير من المؤرِّخين الذين لا يتحرون صحة الخبر من عدمه بدراسة الإسناد، فيكون أحد الخبرين ضعيفًا وباطلًا فيترك ويؤخذ الصحيح والثابت، ودراسة الأخبار دراسة نقدية لا تعني تطبيق المنهج الحديثي على جميع الأخبار التاريخية بل إن هناك من الأخبار ما تعتبر دراسته دراسة نقدية من قبيل العمل الذي لا فائدة فيه، ولا طائل من ورائه ولذلك تساهل في قبوله السلف الصالح، ومن أمثلة ذلك:
_________
(^١) العواصم من القواصم ص: ١٧٧.
1 / 14
تحديد أماكن الغزوات والمعارك، وعدد الجند، وعدد القتلى والجرحى، وتحديد زمان المعركة، وكيفية سيرها والتخطيط لها، وما شابه ذلك.
ولكن هناك من الأخبار التاريخية ما يجب التحري في قبوله ومعرفة ثبوته من عدمه وذلك مماله تعلق بالعقيدة والأحكام والحلال والحرام وعدالة الصحابة، وقادة الأمة وعلمائها، وكذلك ما نقل عن السلف الصالح، وهو موضع الأسرة والقدوة في شتى المجالات.
إذ كيف يبيح للمسلم دينه وورعه نسبة قول أو فعل لحليفة من الخلفاء أو لأمير من الأمراء أو حتى لأي أحد من الناس دون توثق وتحقق؛ فإن الله ﷿ قد نهانا عن ذلك، قال تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (^١).
وقال ﷺ: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" (^٢).
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إذا روينا عن رسول الله ﷺ في الحلال والحرام، والسنن والأحكام، تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن
_________
(^١) سورة الحجرات الآية (٦).
(^٢) رواه مسلم الصحيح / شرح النووي ١/ ٧٣.
1 / 15
النبي ﷺ في فضائل الأعمال، وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد (^١).
وإن مما يطيب الخاطر ويحيي الأمل دعوة بعض مفكري الأمة وعلمائها لتطبيق المنهج النقدي الحديثي على الروايات التاريخية.
يقول الدكتور محمد رشاد خليل: وما فتئ العلماء المدققون ينبهون إلى مراعاة المنهج العلمي الفريد في الجرح والتعديل المعروف لدى علماء الحديث في علاج الروايات التاريخية، وفي مصر كتب الأستاذان الجليلان محب الدين الخطيب، ومحمود شاكر فصولا متعددة يدعوان في حرارة وأمانة للأخذ بهذا المنهج العلمي السلفي الدقيق (^٢).
ويقول الدكتور فتحي عثمان: إن من أعظم المفارقات في دينا أن نكون أغنى الأمم بالنصوص السليمة التي نستطيع أن نصحح بها تاريخنا، فنبنية على أساس قويم من الحقائق العلمية التي لا يتطرق الشك إليها، وأن نكون مع ذلك أشد أمم الأرض إهمالًا للإفادة من ذلك ليبقي تاريخنا مضطربًا كما أراده الذين دسوا فيه ما ليس منه، وشوهوا جماله مما جعل المسلمين يسيئون الظن بأمحد صفحات ماضيهم، ويجهلون أن الجيل المثالي
_________
(^١) انظر: الخطيب البغدادي الكفاية في أصول السماع والرواية ص: ٢١٣.
(^٢) المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره ص: ٦٠.
1 / 16
الوحيد الذي عرفته الإنسانية في تاريخها منذ وجد الإنسان في الأرض إلى الآن هو الجيل الذي شوه المغرضون سيرته، بما دسوه من باطل وما اختزلوه من حق (^١).
ويقول الأستاذ محب الدين الخطيب: إنما ينتفع بأخبار الطبري من يرجع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل …، ولا نعرف أمة عني مؤرخوها بتمحيص الأخبار، وبيان درجتها، وشروط الانتفاع بها كما عني بذلك علماء المسلمين، وإن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي، أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم، ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلى الطبري رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني، ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من ألوف الأخبار، ولو أنهم تمكنوا من علم مصطلح الحديث، وأنسوا بكتب الجرح والتعديل، واهتموا برواة كل خبر اهتمامهم بذلك الخبر لاستطاعوا أن يعيشوا في جو التاريخ الإسلامي، ولتمكنوا من التمييز بين غث الأخبار وسمينها، ولعرفوا للأخبار قدرها بوقوفهم على قدر أصحابها (^٢).
_________
(^١) أضواء على التاريخ الإسلامي ص: ٢٩٢.
(^٢) أضواء على التاريخ الإسلامي ص: ٧٢.
1 / 17
بهذا تتبيَّن أهمية ودراسة الأخبار التاريخية من ناحية السند، وأهمية مراعاة منهج المحدِّثين في ذلك.
ومما لا شكّ فيه أن مما تتحقق به أيضًا معرفة صحيح الأخبار من سقيمها تطبيق الشق الآخر من منهج المحدِّثين في دراسة الأخبار التاريخية وهو نقد المتن أو النص وكذلك الاستفادة من منهج المؤرِّخين في ذلك.
يقول الدكتور مسفر الدميني وهو يعرض لذكر نقد المحدِّثين للنصوص وعدم اقتصارهم على نقد الأسانيد:
"اعتناء المحدِّثين بالإسناد ليس لذاته بل لمصلحة المتن فمتي كان رواة الحديث من الثقات الأثبات كان الاطمئنان إلى صحّة ما نقلوه أكثر، وهذا أمر طبيعي في البشر أن يقع الخبر الذي ينقله الصادق من أنفسهم موقعا حسنا، وما ينقله الكاذب المستهتر موقع الشكّ والريبة، وعلى هذا فاعتناء المحدِّثين بالإسناد هو من صميم اعتنائهم بالمتن" (^١).
ويقول: "ليس ما صحَّ سنده صحّ متنه هذه قاعدة للمحدثين أكَّدوها جميعًا، وعملوا بها في نقد الحديث من جهة متنه حيث لم يلههم عن صحة الإسناد غرابة المتن أو شذوذة ونكارته، ولم أجد واحدًا منهم يخالفها أو ينكر العمل بها".
_________
(^١) مقاييس نقد متون السّنّة ص: ٢٤٥، ٢٤٦.
1 / 18
ثم ذكر من كلام علماء الحديث ما يدلّ على تلك القاعدة ومن ذلك:
قول الإمام ابن الصلاح ﵀: "قد يقال هذا حديث صحيح الإسناد ولا يصحّ لكونه شاذًا أو معلَّلًا".
وقول النووي ﵀: "لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد دون المعين لشذوذ أو علّة"
وقول الصنعاني ﵀: "إعلم أن من أساليب أهل الحديث أن يحكموا بالصحة والحسن والضعف على الإسناد دون متن الحديث فيقولون: (إسناد صحيح دون حديث صحيح) ونحو ذلك، أي: حسن أو ضعيف لأنه قد يصح الإسناد لثقة رجاله ولا يصح الحديث لشذوذ أو علّة"
وقوله: "والحاصل أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن إذ قد يصح السند أو يحسن لاستجماع شرائطهما، ولا يصح المتن لشذوذ أو علّة وقد لا يصح السند ويصح المتن من طرق أخرى" (^١).
ويقول الدكتور مصطفى الأعظمي: "ويبدو للوهلة الأولى أن جهود المحدِّثين كانت منصبة حول الأسانيد وقلما تكلموا على المتون أو
_________
(^١) المصدر السابق ص: ٢٤٧ - ٢٤٩.
1 / 19
بمعنى آخر قلما استعملوا عقولهم في نقد المتون والأمر على عكس ذلك، إذ ما من عملية نقد النص إلَّا وقد استعمل فيها العقل لكن ما كان اعتمادهم على العقل فقط في قبول الحديث أو رده إلَّا في أقل النادر، ولا يمكن أن يكون المنهج العملي في نقد الأحاديث إلَّا هكذا إذ من المستحيل استعمال العقل من الناحية العقلية نفسها في تقويم كل حديث" (^١).
وقال في موضع آخر: "ومن ناحية أخرى إن المحدِّثين لم يقفوا على الأسانيد فقط وأصدروا أحكامهم على الأحاديث بل دائمًا كانوا ينظرون إلى المتن، حتى حكموا على الأحاديث بالبطلان بالرغم من نظافة الأسانيد. ومن أمثلة ذلك:
قول الذهبي: "محمد بن الفضل البخاري الواعظ عن حاشد بن عبد الله روي بإسناد نظيف مرفوع: قيام الليل فرض على حامل القرآن. فكذا فليكن الكذب".
ثم قال الأعظمي في ضوء هذه النصوص: "يفهم بوضوح أن المحدِّثين راعوا العقل وأعطوه حقه في كافة منازل الرواية والراوي، وعلى هذا يمكن القول بكل وثوق أن منهجهم علمي بكل معنى الكلمة، ولا يبدو أن منهج النقد في العالم تمكن حتى الآن أن يضيف إليه شيئا قيمًا"
_________
(^١) منهج النقد عند المحدِّثين ص: ٤١ - ٤٢.
1 / 20
لكن الذين يرون عكس ذلك يدعون إلى الاستفادة من مناهج المؤرِّخين وتطبيق قواعدهم" (^١).
أما منهج المؤرِّخين في نقد النصوص فقد لخصه ابن خلدون ﵀ في مقدمته، ومن ذلك قوله:
"إعلم أن فنّ التاريخ فنّ عزيز المذهب، جمّ الفوائد إذ يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم حتّى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط. لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحديث عن جادة الصدق وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها محرد النقل غثًا أو سمينًا لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط
_________
(^١) المصدر السابق ص: ٨٣، ٨٩.
1 / 21
سيما في إحصاء الأعداد من الأحوال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنة الكذب ومطية الحذر، ولا بدّ من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد" (^١).
وقد جاءت كتابات المتأخرين من المتخصصين في الدراسات التاريخية موضحة ومفصلة لمنهج المؤرِّخين، ومما ذكروه في ذلك أنهم قسموا النقد التاريخي للنصوص التاريخية إلى قسمين: نقد ظاهر، ونقد باطن. وقسموا النقد الباطن إلى قسمين: نقد إيجابي، ونقد سبي.
فأما النقد الظاهر فهو الذي يتناول عدة أمور هي:
١ - إثبات صحّة الأصل أو الكتاب أو النص التاريخي لمؤلفه، وسلامته من التزوير والانتحال، ومما يساعد في ذلك معرفة نوع الورق والقلم والخط الذي خط به، ولغة الكتاب، وهل هذه الأمور - وهي الورق، والخط، والقلم، واللغة - مما كان سائدا في عصر المؤلف؟ وهل هو خطه الذي عرف به من خلال كتبه الأخرى إن وجدت؟
٢ - التعرف على شخصية المؤلف ومنزلته العلمية، ومكانته الاجتماعية، وكونه ثقة مأمونًا فيما ينقله، ومدى مقدرته على تصوير الحديث التاريخي، بحيث لا يبعد عن الحقيقة.
_________
(^١) ابن خلدون / التاريخ ١/ ٧، ٨.
1 / 22
٣ - معرفة زمان ومكان الكتابة، فتدوين المؤرّخ الحدث التاريخي بعد وقوفه عليه، وقربه منه زمانًا ومكانًا يجعل كتابته أكثر قبولًا وأكثر مطابقة للواقع، بخلاف فيما لو كان التدوين عن ناقل للحدث التاريخي بحيث لم يعاصر الكاتب الحدث بنفسه بل كان بعيدا عنه زمانًا أو مكانًا، فإن هذا يجعل خيره أكثر عرضة لتطرق الوهم والمبالغة ومخالفة الحقيقة وبالتالي فقدان الكتاب أهميته ومكانته العلمية.
ثانيًا: النقد الباطن:
أوَّلا: النقد الباطني الإيجابي: وهو عبارة عن تحليل الأصل أو النص التاريخي بقصد تفسيره وإدراك معناه ويمر في مرحلتين:
١ - تفسير ظاهر النص وتحديد المعنى الحرفي له.
٢ - إدراك المعنى الحقيقي للنص ومعرفة غرض المؤلف مما كتبه لذلك يجب الإلمام بلغة الكتاب وأسلوبه، ومعرفة لغة عصر المؤلف ويمكن الاستعانة بمؤلفات المؤرّخ الأخرى أو مؤلفات عصره، ومعرفة البيئة التي عاش فيها أيضًا، وينبغي دراسة المعنى في جزئيات النص لفهم معناه العام كما أنه لا بد من دراسة معناه العام لفهم جزئياته.
ولا بد من معرفة غرض المؤلف من مؤلفه، والمعنى الحقيقي الذي يريده من كتابه، فمن الجائز أنه كتب بعض الأساليب والتراكيب غير الواضحة وفي هذه الحالة لا يؤدي ظاهر النص إلى المعنى المقصود،
1 / 23
وتعرض المؤرّخ حالات كثيرة من هذا النوع تحتوي على تشبيه أو محاز أو استعارة أو كنية أو رمز أو هزل أو مداعبة أو تلميح أو تعريض وعلى ذلك فإن فهم المعاني الحقيقة للعبارات الغامضة في الأصول التاريخية هو من أهم واجبات النقد التفسيري الإيجابي.
ثانيًا: النقد الباطني السلبي: وفيه يتحقق المؤرّخ من أمرين:
١ - التثبت من صدق المؤلف فيما نقله وهل كذب فيه أم لم يكذب؟
٢ - التثبت من صدق المعلومات التي أوردها ومبلغ دقتها، وهل أخطأ في نقله أو خدع بشأنها. لأن المؤلِّف قد يكذب طمعًا في نوال فائدة شخصية فيعمد بالكذب إلى خداع القارئ لكي يسوقه إلى استنتاج خاطئ، وأشد أنواع الكذب تأثيرًا في النفس ما احتوى على عنصر من الحقيقة، واحتوى على تبديل وتغيير وعرض بأسلوب خاص.
وقد يكذب المؤرّخ ويخالف الحقيقة لوجوده في ظروف اضطرته لذلك كالظروف السياسية أو الحربية أو الوطنية.
وقد يذكر جزء من الحقيقة حسب ما تقتضيه المصلحة، وقد يكره المؤلف أو يحب فئة معينة أو أسرة أو حزبًا أو طبقة اجتماعية خاصة أو شعبا أو دولة، وقد يكون من أنصار مبدأ أو مذهب معين، فيتصرف في الخبر ويصوره بما يوافق هواه.
1 / 24