زربة اليمني
الضحى
الظهيرة
الزوال
الأصيل
الغروب
زربة اليمني
الضحى
الظهيرة
الزوال
الأصيل
الغروب
زربة اليمني
زربة اليمني
تأليف
أحمد قاسم العريقي
زربة اليمني
كم اشتقت إليك يا زربة وأنا أكتب حياتك للعالم. قيل: إن في كل إنسان ملاكا وشيطانا، فلا يوجد أحدهما دون الآخر، لكن الشيطان فيك كان تحت وطأة الملاك. كنت قويا، رحيما، مخلصا، تحب الحياة وعملت لأجل الحياتين. كنت تعرف مصير يومك الأخير، ومن هو قاتلك الذي أحببته كنفسك. كانت لك طاقات خلاقة لكنها هدرت كما هدرت عن غيرك، ولم تستطع أن تحقق ما تصبو إليه، فعشت في زمن يتوارث فيه الإنسان الهدر والقهر.
قريتك التي تعانق السماء في جبال الحجرية، ما أجملها والسحب تحتضنها، في الصباح الباكر، وهي مقبلة من جهة الجنوب كأنها مدرجات سماوية! يكاد المرء يفقد بوصلة توجهه وهي تعانق الجبال. بدأت قريتك من بضعة بيوت يسكنها الحب والوئام، إلى أن صارت قرية كبيرة، وانتهى بها المطاف إلى عروش خاوية بعد أن هجرها سكانها إلى المدن. لم يتبق فيها إلا أسرتك وبضع أسر، في ظل عالم مادي طغى على صفاء ونقاء القرية.
ما زلت أذكر حين قلت للكثير من الناس وأنت تضحك كعادتك، إنك ستموت مع من تحبه وتهواه، سألتك حينها: لماذا تريد لنفسك هذا المصير؟ ضحكت كثيرا وطار من فمك رذاذ القات إلى وجهي وقلت: لكي أقوم يوم القيامة على ما أنا عليه، مخزن
1
بالقات. وفعلا تحققت أمنيتك، وكان يومك الأخير يوم أن سقطت في سوق القات صريعا وأنت تشتري دفعة أخرى من القات. لكنك لم ترحل وحيدا في تلك اللحظة، فقد رحلت معك أنفس كثيرة.
كنت طاحون قات كغيرك من الناس، لكنك كنت الأكثر إدمانا فيهم. سألتك ذات مرة: كيف ستعيش يا زربة لو منع القات من البلاد؟ فضحكت ضحكة هستيرية، وحين توقفت عن الضحك قلت لي: لا تحلم كثيرا، من يحاول قلعه سيقلع هو أولا. لقد تأخرت ثلاثين عاما عن كتابة قصتك، بعد أن شق كل منا طريقه في الحياة. وجدت دنياك وجنتك حول شجرة القات، وأنا هجرت مهنة الطب بعد أن أخل الطبيب بقسمه العظيم، وذهبت لشحذ أقلامي لأكتب عن أوجاع الآخرين، وأبث فيها وجعي أنا أيضا. سأروي حياتك للناس من أول يوم بكيت فيها حقا، يوم أن عرفت بمقتل صديقك ناصر.
الضحى
تستوي قامة الشمس ضحى؛ لتحتضن العالم بفرح طفولي غامر. ***
1
كان زربة هو وعمال آخرون يقومون ببناء منزل في الضاحية الغربية من صنعاء مع المقاول عبد المجيد العريقي، في تلك الساعة المشئومة من يوم الأربعاء الثاني من يونيو (1976م) سمع زربة بمقتل ناصر أخي المقاول، على يد أبيه بجنبيته (خنجر) في القرية. تفاجأ بالخبر وبقي برهة شارد الذهن ودموعه تنهمر دون أن يتوقف عن العمل. أخرج قطعة الشمة المحشوة تحت شفته السفلى، وأخذ يحدث نفسه والحزن يدمي قلبه: «الآن عمل وفي المساء نداوي الحزن بالكأس.» وأخذ يردد بصوت مسموع: الله يرحمك يا ناصر ...
في الساعة الخامسة مساء أخذ يتحسس جيوبه تتقمصه سحابة من الحزن يحدث نفسه «ستكفي لشراء قارورة جان ويكر؛ أطفئ بها حزني على صديقي، فالقات لن يكفي لذلك.» ذهب واشترى قارورته المفضلة من بقالة تبيع الخمر خفية ... ثم تناول وجبة العشاء: خمس «كدم»، مدرة
1
فول، كوب شاهي، فلفل أحمر. ثم ذهب هو ورفيقا السهرة سعيد النجار ومحمد مدهش إلى سكن ثابت ناجي، وهو دكان إيجار في شارع ترابي قريب من عمله، فغالبا عمال البناء يسكنون في أطراف المدن. كان الدكان دون حمام، ضيقا ومنخفضا قليلا عن مستوى الشارع، بابه الخشبي حفر الزمان فيه آياته، فيه ثقب يمكن للمرء أن يتلصص من خلاله. أربعتهم من قرى متجاورة من جبال الحجرية، وقد سمعوا بمقتل ناصر على يد أبيه، تلك الجرائم التي لا تحدث إلا نادرا في قراهم المسالمة.
سدوا ثقب الباب بقطعة قماش، وفاجأهم ثابت بقارورة أخرى. وقتذاك كان الجو ممطرا وما زالت الشمس عند المغيب. بدءوا يشربون مشروبهم الروحي. أخذ كل يتناول كأسه واحدا تلو الآخر وهم يذكرون ناصر بالرحمة؛ فقد كان خامسهم: الله يرحمك يا ناصر ... كنت طيبا يا ناصر ...
كان زربة أكثرهم حزنا عليه، لم يتوقف عن ذرف الدموع. كانت عيناه المترعتان بالحزن تشاهدان الدموع تتدفق من مقل أصدقائه وتتسرب من تحت الباب إلى الشارع. تقدم نحو الباب ببطء محدقا من خلال الثقب إلى الشارع، فشاهد السماء تساقط لؤلؤها بكثافة، حدق أكثر وهو يشرب من كأسه، رأى مجنون الحي يجمع اللؤلؤ في كيس بلاستيكي. تناول كأسا آخر ليرى بوضوح أكثر، فشاهد الأطفال وبعض الرجال يجمعون اللؤلؤ أيضا في أوان صغيرة.
حاول فتح الباب فلم يستطع، أخذ اللؤلؤ يطفو فوق الماء ويزداد لمعانا ويتجمع في كتلة صغيرة. حاول فتح الباب مرة أخرى فلم يستطع سحب المزلاج.
اقترب ندماء الفرح والحزن مندهشين، ينظرون ماذا يشاهد زربة، شاهدوا السماء تمطر بردا والشارع يطفح بالماء يتسلل إلى أرضية الدكان. بقي زربة صامتا يضحك في نفسه مما رأى وهو ينظر إلى القارورة، لم يتبق منها إلا القليل.
أكملوا نصف زجاجتهم الثانية، وهم يذرفون الدموع على صديقهم ونديم كأسهم، ثم بدءوا يشتمون أبا ناصر؛ لماذا قتل ابنه وهو أصغرهم وأحب أولاده الثلاثة إليه. وساروا يعددون مميزات ناصر كان وكان وكان ... لطم زربة جبينه فقد تذكر حدثا مهما، مما فاجأ أصدقاءه وقال: عرفت ليش
2
قتل ناصر، لما سافر رأيته يخبي
3
ثلاث قوارير جان ويكر في شنطة سفره. يمكن أبوه حصله
4
سكران وطعنه بالجنبية.
قال محمد مدهش: لا، لا، الأب مش ممكن
5
يقتل ابنه بسبب شرب الخمر، الكثير يسكرون هذه الأيام. - يا أخي، أبوه ذقنه إلى صدره يشوف
6
نفسه شيخ القرية، راءه يشرب وعاقبه، وناصر لما يسكر يكون عصبي، يمكن صاح فوق والده أو شتمه ...
بعد جدالهم حول الخمر، هل هي محرمة كالزنى ولحم الخنزير، وعن سبب مقتل ناصر، قرروا الانتظار حينما يحضر داءود الطبل (مراسل القرية) ليعرفوا منه الحقيقة.
2
أكملوا زجاجتهم الثانية وهم يلعنون: الدنيا، أبا ناصر، الخمر وصاحب الزريبة التي يجلسون فيها؛ لأنه بنى بيته تحت مستوى الشارع فأغرق الماء فراشهم. قبل منتصف الليل فتح زربة باب الدكان بصعوبة فاصطدم رأسه في الباب، وهو يهم بالخروج يرقب الشارع الخالي من العابرين وأخذ ينظر يمنة ويسرة، بعد ليلة ماطرة باردة. خرج الثلاثة من دكان ثابت ناجي، يسند بعضهم بعضا ويضحك كل على الآخر بأنه هو الذي يترنح. وهم يسيرون في الشارع يترنحون قليلا، صادفهم حارس الحي، فجلسوا في عرض الشارع يتبولون. طالت فترة تبولهم، وشك الحارس في أمرهم؛ ظنا منه أنهم مخربون من أفراد الجبهة الوطنية. اقترب منهم، فرأى البول يسيل في الشارع. حاولوا الوقوف بثبات أمامه، لكن الخمر كانت تدير رءوسهم وكل يميل في اتجاه الآخر. عرف العسكري أنهم سكارى، فقال لهم: للمه
7
تترنحون، أنتم سكارى؟
رد عليه زربة ضاحكا وهو يحاول الوقوف بثبات ورائحة الخمر تفوح من فمه: لا، ما نحناش
8
سكارى. أنت رأسك يدور ههههههه.
فكر الحارس أن ينادي زملاءه؛ ليقودوهم إلى قسم شرطة الحي، ولأنه يعرف أن شرطة القسم سيطلقون سراحهم بعد تفتيش جيوبهم جيدا، أخذ فقط يخوفهم بقسم الشرطة. تحسس ثلاثتهم ما في جيوبهم، وأعطوه خمسة ريالات كانت معهم. مشوا قليلا ثم اتجه كل إلى سكنه، بعد ليلة باردة.
حين بلغ العشرين سنة كانت امرأته قد ولدت له ثلاثة أطفال: نجيب، نصرة، جميلة. هو رجل متوسط القامة مفتول العضلات، كفاه متخشبتان، له وجه طفولي ضحوك وقلب طفل، يشذب شاربه دائما، نهما على الأكل، قوته الجسدية جعلته يضاهي ثلاثة بنائين في إنتاجهم للعمل؛ لهذا كان المقاولون يفضلونه على غيره، أما شرب الخمر فكان ذلك في فترة حياته الأولى لتوفره بكثرة في تلك الحقبة الزمنية. اعتاد على لبس مئزر وقميص عليه معطف، وعمامة على رأسه. توقف عن التعليم في مدرسة القرية، وهو في المرحلة الإعدادية وبدأ يعمل مع أبيه في البناء، إلى أن تعلم البناء في عمر مبكر من حياته، وأصبح بناء ماهرا. كان أصدقاؤه يفضلون العيش معه؛ لما لديه من روح طيبة مرحة؛ حتى إن مجنون الحي كان يحبه، ذاك الرجل الغامض لا يعلم أحد عنه شيئا، هل هو مخبر أو مجنون حقا؟ كان كثيرا ما يتلصص عليهم من شقوق الباب هو وزملاؤه، حين يجتمعون ليلا.
كان زربة يرى أن حياة الإنسان قصيرة في هذه الدنيا، ويمكن أن تقصر أكثر بالقتل، سواء كان قتلا فرديا أو جماعيا في المعارك الدائمة، التي تدور رحاها بين فترة وأخرى في البلاد، شمالا وجنوبا، وما زالت أحداث أغسطس (1968م) عالقة في الأذهان، حين راح الإخوة شركاء الثورة يتقاتلون فيما بينهم على الانفراد بالسلطة في صنعاء. لم يكن يريد هذا النوع من الحياة لنفسه، تلك التي تذهب مقابل لقمة عيش تسد رمق أسرته، فكان شعاره أن يتمتع المرء في كل لحظة من حياته، وراح يسعد نفسه بملذات الحياة والتعامل مع الناس بالحب، وجعل الحياة جنة من حوله ولو جهنم تطفو على سطحها.
3
نام زربة في دكانه الصغير المستأجر من يحيى المطري، يحتوي على فرش زهيد ضمن دكاكين ضيقة دون حمامات يؤجرها للعمال، وحين يريد التبول يستعمل قوارير فارغة. في تلك المرحلة الزمنية كانت دكاكين أطراف المدينة دون حمامات؛ فالشوارع الترابية تتكفل بذلك. هي عادة نقلت من بعض القرى فالكثير من بيوتها بدون حمامات؛ لذا يقضون حاجاتهم بجوار منازلهم، يكتفون بجدار حقل يسترهم، ويخصصون مكانا بسيطا للاستحمام في منازلهم.
في ليلة باردة تبول زربة في قارورة جان ويكر فارغة، وكان لهذه القارورة حكاية ظريفة فبعد أن أحكم غطاءها جيدا، تركها في دكانه تحت ثيابه ونسي أمرها. زاره أحد أصدقائه وأخذها خلسة، ثم ذهب يدعو أصحابه ليسكروا معا. اجتمعوا حولها وهم يضحكون على زربة؛ بأنهم سرقوا زجاجته التي يخفيها عنهم. نام في تلك الليلة المحزنة والباردة حتى أيقظه أحد أصحابه فجرا بطرقات قوية على الباب؛ لتناول وجبة الإفطار والذهاب إلى العمل. وصل إلى المطعم وهو مزدحم بالعمال ولم يضحك كعادته، تناول وجبته ومضى نحو عمله؛ ليعوض مائة وخمسة وسبعين ريالا ثمن قارورة الخمر التي احتساها ليلة البارحة، يعادل ثمنها أجرة خمسة أيام عمل في البناء. وقف فوق أحد جدران المنزل الذي يقوم ببنائه، وضع الشمة السوداء تحت شفته، شعر بنشاط وباشر عمله مع العمال. كان المقاول عبد المجيد يخصص له عاملين يزودانه بالأحجار عكس البنائين الآخرين، الذين يستكفون بعامل واحد معهم، فسرعته في البناء تتطلب ذلك، لكن حزنه على صديقه ناصر في هذا اليوم منعه من العمل بنشاط كما تعود، فاستكفى بعامل واحد. لم يضحك مع العمال ويتندر كعاداته أثناء عمله. كان هذا الصباح يتمنى لو بقي نائما في سكنه حتى الظهيرة، لكن حاجته للمال دفعته إلى ذلك. أكمل دوامه حتى صلاة الظهر بفتور، وذهب يداوي حزنه بتناول نصف كيلو لحما، وقطعة حلوى كبيرة بعد أن اشترى ثلاث حزم قات صوطي، وهي كمية تكفي لثلاثة أشخاص. هكذا كان سلوكه حين يكون حزينا، يكثر من تناول الطعام والقات والحلاوة، وحينما يزداد حزنه يداويه بالكأس. صادف مجنون الحي بلباسه الرث في طريقه، خاطبه بصوت مرتفع: يا زربة، كيف كانت سكرة أمس، ها، كيف كانت؟
أعطاه زربة سريعا ربع ريال؛ ليصمت. أخذها المجنون وقال: والله، أنتم السكارى طيبون هههههه.
4
جلس زربة في سكنه بعد الظهر، ورفض أن يشاركه أحد في جلسته، على الرغم من أن عادته الترحيب بكل من يأتيه، فأصدقاؤه يفضلون الجلوس معه؛ لظرفه ومعرفته بالحكايات الشعبية والألغاز والمقالب، التي حفظها عن جدته «نعم». قال لهم: أشتي
9
أجلس وحدي، ما ششتغلش
10
بعد الظهر.
بقي وحيدا يتذكر الأيام التي قضاها مع صديقه ناصر وكم مرة سكرا سويا. حدث نفسه: «لم أتخيل أن يأتيك الموت يا صاحبي من حيث تأمن. ترى لماذا قتلك أبوك وهو يحبك كثيرا؟» انهمرت دموعه على خده المنتفخ بالقات الصوطي ككرة صغيرة. هذا النوع من القات عادة ما يجلب الأحزان لمتعاطيه. في تلك اللحظة تمنى بوري مداعة
11
من يد زوجته صفية، ليكتمل التعبير عن حزنه. وهو يمضغ القات ويحلق على بساط سحره والدمع يترقرق في عينيه، شاهد صديقه ناصر يخرج من قبره إلى منتصفه مادا يديه، والدم ينزف منه، حتى تكونت بركة حول القبر، وشاهد والد ناصر بدون خنجره الذي تعود على التحزم به يمشي مسرعا إلى البركة، يحاول متلهفا أن ينتشله من قبره، لكنه غرق في دم ناصر وكاد أن يهلك. فجأة جفت البركة وعاد مخضبا بالدم، منكسا رأسه يجر أقدامه إلى داره. أخذ زربة يقول في نفسه: «تستحق يا قاتل ...»
حضر أصدقاؤه وأخذوه لتناول العشاء المعتاد لكن حزنه ما زال يهصره، ولن ينسى مقتل صديقه إلا بقارورة شراب أخرى من أجود أنواعه. ذهب هو وصديقه محمد مدهش إلى أحد الفنادق واشتريا قارورة ويسكي وعادا إلى سكن زربة. جلسا يشربان شرابهما ويتحدثان عن قرار الرئيس إبراهيم الحمدي بتعيين الشيخ ابن الأحمر سفيرا لليمن في الصين. كان محمد مدهش ملما بما يدور في الساحة السياسية اليمنية، فقد أخبر زربة أنه ضابط يساري سابق في معسكر الصاعقة، متخف، أما الآن فيعمل في البناء بعد أن شرد هو والكثيرون من زملائه، بعد مقتل النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب. ضحك محمد مدهش وقال: كيف صدق الرئيس الحمدي أنه تخلص من الشيخ؟
وراح في كركرة طويلة، والكأس يهتز في يده، وهو يمده ليلتقي بكأس زربة. قال زربة: مو
12
يشتي الشيخ من اليمن الغبراء، الصين بلاد خضراء جنة الله على الأرض، والنسوان مثل الموز المقشر ههههه. - يا سلام عليك يا زربة، تقول موز مقشر ههههه، أمانة وصفك جميل.
ثم سأل بلسان متثاقل: قل لي يا زربة من أسماك زربة؟ - اسمي أحمد صالح عمر، لكن نسيته ههههه بعد ما نهلني
13
عمي قاسم بزربة بسبب حبي القات. كان عمي لما ينهل أحدا يسبط
14
لقبه مثل جلده، نهل نصف سكان القرية. وأنت قل لي لمو
15
هربت من معسكر الصاعقة وأنت كنت ضابطا؟
جرع مدهش كأسا آخر من الشراب، ومسح فمه بظهر كفه وقال بحسرة: فشلت الثورة يا زربة. أرى أن الحمدي يحلم بمستقبل زاهر لليمن. لو كنا بقينا إلى جواره سيرى كيف ستكون اليمن، لكنه في أحداث أغسطس (1968م) وقف مع قادته والقبائل ضدنا. عرف الطريق الصحيح بعد فوات الأوان، وهو يقف الآن وحيدا يصارع الأطماع الداخلية والخارجية.
بقي الاثنان يذرفان الدمع على ناصر، ويحتسيان آخر قطرة خمر، ثم ناما في الدكان بعد أن أفرغا كل ما في جوفيهما إلى الشارع.
5
لم يستطع زربة البقاء في صنعاء بعد موت ناصر فقرر السفر إلى القرية، كان عذره أن وقت الحصاد قد اقترب موعده، ولا بد عليه أن يسافر خاصة أن زوجته حامل في شهرها الأخير، ولن تقدر أن تقوم بالحصاد وجمع المحصول بمفردها. تناول زربة جرابه الصغير الذي يحوي عدة البناء: مطرقة، متر، ملعقة للإسمنت، وميزان البناء وخيط قياس. حمله على كتفه ومر أمام أصدقائه صامتا. اتجه نحو الفرزة (محطة سيارات) ثم استقل سيارة بيجوت إلى مدينة تعز، ومن ثم إلى مدينة الراهدة، وهناك اشترى اثني عشر كيلو حلاوة، وكيس قمح بلدي - خمسين كيلو - وست حزم قات كبيرة من نوع «جدة»، والتبغ الجيد المجلوب من عدن. افترش التراب واتكأ على حجرة صغيرة قرب فرزة المسافرين إلى مديرية حيفان، وبقي يمضغ القات بصمت، يتخيل دم ناصر يسيح أمامه. بعد ساعة استقل سيارة لندروفر عليها اثنا عشر راكبا. انطلقت السيارة تصعد الجبال الشاهقة، والمسافرون واقفون يتزاحمون على موضع قدم لأرجلهم. وصلوا آخر نقطة لطريق المركبات في حيفان الساعة الرابعة عصرا. حمل زربة هديته على ظهره، حوالي سبعين كيلو، وانطلق يعبر المنحدرات والمرتفعات الوعرة، إلى أن وصل قريته «القرن» الساعة الثامنة مساء. استقبلته زوجته ببطن منفوخ بحياة جديدة. ضحك زربة وقال لها: الحمد لله روحت
16
في الوقت المناسب.
ضحكت زوجته صفية فهي تعرف قصده ... هي امرأته قصيرة القامة، بجمال مقبول، نحيفة، ولود ودود، كفها خشن. لم يعرفها زربة إلا في ليلة العرس حين جلست بجواره أمام الأهل، بعد أن دفع لها والده المال لتكشف الحجاب عن وجهها. فرحت الأسرة بالقمح؛ فهم لا يتناولونه إلا في الأعياد. أحاط به أولاده فرحين بالهدية. أخذت صفية مكيالا من القمح وذهبت بقنديلها الزيتي إلى حجر الرحى المقابل لزرب البقرة (دوجع) وقامت بطحنه، ثم صعدت إلى المطبخ في سطح الدار، دخلته منحنية على الرغم من قصر قامتها وقد اشتكت مرارا انخفاض باب المطبخ، وزربة يعدها برفع سطح الباب، لكنه لم يفعل. سال لعاب الأولاد وهم يشمون رائحة خبز القمح البلدي، فشعروا بالجوع على الرغم من أنهم قد تناولوا العشاء قبل قليل.
قدمت صفية وجبة العشاء، فتة
17
القمح باللبن والسمن. أخرج زربة نثارة القات من فمه، وبدأ يلتهم الفتة وترك قليلا منها للأطفال. في نفس الوقت ذهبت زوجته تعد العدة لسهرة الليلة، بعد أن حلبت بقرتها وأطعمتها مسبقا. قدمت له المداعة
18
عليها بوري كبير، فيه كمية لا بأس بها من التبغ يعلوه جمر متراص بعناية. وبدأ صوت المداعة يعلو ... سمع والد زربة صوت المداعة وهو في داره من الجهة المقابلة القريبة، فعرف أن ابنه وصل من المدينة. أخذ معه «أتريك» يعمل بالكورسين وذهب إليه، فأضأ بيت زربة بنور ساطع.
والده هو الابن الأكبر لإخوته الخمسة، طويل القامة، عريض المنكبين، يعمل بناء، ضحوكا، يحب فعل الخير، مسرف بالمال. عرف أهل القرية أن زربة عاد من السفر، وتوقعوا أنه أحضر قاتا معه كعادته حين يعود من المدينة. حضر تباعا حفاة الأقدام على ضوء النجوم كل من: سالم الحطاب، عبده غالب، عبد القوي قارئ الموالد، ناجي أحمد المقشش وراجح الوطواط، ما عدا عثمان سالم كان ينتعل حذاء مطاطيا، اشتراه ابنه من مدينة عدن.
6
ذهبت صفية إلى حجر الرحى مرة أخرى، وقامت بطحن مكيالين من القمح، بينما زربة يتحدث مع ضيوفه وهم يمضغون القات، ويناولون المداعة فيما بينهم من فم إلى فم. زودتهم صفية ببوري آخر؛ ليحلو سمرهم وأخذ كل يسرد ما عنده من خبر. تحدثوا عن محصول السنة الماضية، وكم باعوا من الذرة والدخن والأحطاب إلى قرية نجاد المجاورة لهم، فأهلها لا يمتلكون الكثير من الحقول، يعملون في التجارة والجزارة وبيع القات، تعلموا التجارة منذ نعومة أظافرهم، لديهم دكاكين صغيرة في بيوتهم، ومنهم من يعمل في شراء الفضة والمرجان والعقيق من النساء اللاتي أخذن يتخلين عنها كزينة، بعد ظهور بريق الذهب في حياتهن الآتي من الخارج، ويبيعون تلك التحف في المدينة للسياح الأجانب. أثناء تجاذبهم أطراف الحديث، كان ناجي المقشش يحدث نفسه بصوت مسموع، يمسح عينيه أكثر من اللازم . اقترب من النافذة وخيل إليه بزوغ الشمس، وصياح الديكة وسقسقة العصافير؛ حتى إنه رأى مجموعة من نساء القرية تجلب الماء فوق رءوسهن من السقايات والراعية حسناء تقود أغنامها إلى المرعى. قال لمن حوله: هيا، قوموا صلوا صلاة الفجر.
كان زربة والحاضرون يضحكون وهم يلاحظون المقشش مصرا على رأيه أن الوقت فجرا ولم يستطع أحد ثنيه عن رأيه. تأكد زربة من ساعة الصليب التي حول يده اليسرى، وجدها الساعة العاشرة ليلا. هذه عادة ناجي حين يمضغ هذا النوع من القات (جدة)، يجنح بعيدا في هلوسته كبعض الآخرين حين يمضغونه. ومن المألوف أن متعاطي القات أثناء تناولهم يدخلون في نوع من النشوة والنشاط واليوفوريا، وخيالات أحلام اليقظة، لكنهم يدركون أن ذلك خيال، يخرجهم من واقعهم المعاش والهروب منه، لكن ناجي كان يرى ذلك الخيال حقيقة. خرج ناجي المقشش قبل الآخرين مستنكرا أنهم لم يؤدوا الصلاة. وصل إلى بيته وذهب إلى الحمام يتوضأ، ثم اتجه عكس القبلة تماما وأدى صلاة الفجر. بعد تأدية الصلاة نادى زوجته لتعطيه نقودا للذهاب إلى سوق الثلاثاء، وراح يستعجلها لكي يعود قبل شمس الظهيرة، على الرغم من أن الليلة كانت ليلة الأحد. عرفت زوجته جليلة أنه مضغ قات جدة فذهبت تقدم له اللبن الرائب، وأخبرته بأن ينتظر قليلا إلى أن شعر بالنعاس ونام.
7
خرج الضيوف من دار زربة وهم يضحكون على ناجي، ودخل هو على زوجته يزيل ما تبقى من حزنه على صديقه ناصر؛ فالمتعة لديه تزيل الأحزان. نام حتى الساعة الثامنة صباحا، ولم يسمع صوت ديك صفية الذي ربته منذ سنتين حتى صار أكبر ديك في القرية، يذهب عصرا إلى القرية ولا يعود إلا قبل مغيب الشمس، بعد أن يقوم بواجبه نحو الدجاج.
تناول زربة وجبة فطوره على سطح داره، فتة القمح مع الحليب والسمن، وهو يشاهد الزرع المصفر وقد أينعت سنابله وحان قطافها. أكمل وجبته وأخذ قليلا من الشمة التي لا تفارق جيبه، ضغط عليها بين السبابة والإبهام وحشاها تحت شفته السفلى، وأخذ يفكر كيف يجلب القات لجلسة بعد الظهر، أما اللحم فهو يعرف أن الجزار مقبل الدسم من قرية نجاد سيتكفل بها. في الساعة التاسعة والنصف صباحا، أقبل ابن الجزار مقبل يحمل ثلاثة كيلو لحما، فالجزارون في تلك القرية أناس طيبون، حين يعود أحد من المدينة يتسابقون بإيصال اللحمة إلى بيته، دون أن يكلفوهم عناء المجيء إلى سوق قريتهم ثم بعد ذلك يلحون بطلب الدين. استلمت صفية اللحم وبعد نصف ساعة أقبل ابن الجزار شاهر ومعه اثنان كيلو لحما، فقالت له: سبقك ابن مقبل، يكفي ما معانا اليوم.
حاول معها ابن الجزار أن تقبل منه اللحم لكنها رفضت، وكان زربة يستمع إليهما، فخرج واستلم اللحم وهو يقول: يا صفية في واحد يرجع طعام الجنة من باب داره هههههه.
صاحت صفية: ضيعت فلوسك على القات واللحمة، شيرسلوا لنا كل يوم، أنت تعرفهم. شتأكل خمسة كيلو يا طاهش؟
19
8
قبل الظهيرة ذهب زربة إلى سوق قرية نجاد لشراء القات، وأخذ معه مائتي ريال ليدفع ما عليه من دين للجزار مقبل الدسم، أما بائع القات عبد الفتاح الملوق يعرف أن زربة يتأخر في سداد الدين، فلا يبيعه إلا نقدا، لكن قاته شراري نوع جيد. لقب بالملوق؛ لأنه ادعى أن شيطانا لطمه في منتصف الليل وهو على قمة جبل عصران المخيف. كان على حماره ذاهبا لشراء القات إلى منطقة شرار في عزلة بني يوسف، ولم يعد فمه إلى وضعه الطبيعي، إلا بعد أن صفعه السيد عبد التواب بحذاء على خده الأيمن. وصل زربة قرية نجاد بعد ربع ساعة. بيوتها متقاربة كقلعة حصينة، تتوسط القرى المجاورة، تقع عرض جبل وتنساب إلى تل صغير في آخره بيوت متباعدة تتوسطها مقبرة وعلى جزئها الغربي شجرة كبيرة ظليلة. سلم زربة على الفقيه عبد الجبار وهو تحت الشجرة، يعلم الفتيان حفظ القرآن على الألواح الخشبية.
حين وصل السوق استقبله الجزار مقبل الدسم وصاحب الدكان عصام الحنش بالحفاوة وغيرهم ... لكن الترحيب الأكثر كان من قبل مقبل الدسم، فقد بنى له داره مقابل القات واللحم والحلاوة. التقى زربة في السوق بالكثير من أصحابه، يأتون من القرى المجاورة في هذا الوقت من اليوم، ينتظرون وصول القات.
حين لاح عبد الفتاح الملوق بحماره من بعيد، صاح زربة: ورد، ورد
20 ... وحينما وصل السوق تزاحم الناس حوله، ولم يكن بائع القات الآخر ابن مقبل الدسم قد وصل بعد.
فتح عبد الفتاح حزمة من القات أمام الحاضرين ثم راح يتغنى بغنيته المعهودة:
سلامي لك يا قات يا شراري
خليتني
21
جنب الحبيب سالي
يا ليتني طول الزمان داري
إنك مليح طعمك غصين حالي
شاسهر معك ليلي مع نهاري
واعزف بعودك فوق برج عالي
لما تكون جنبي والحبيب جواري
أشوف بك خلي
22
قمر هلالي
يا سيد القات أنت يا شراري
شسعى لوصلك
23
لو تكون غالي
خليتني
24
أمير وسط داري
فارد جناحي ع البلاد والي
ثم قال للمتزاحمين حوله: القات اليوم غالي. الزربة بخمسة ريال.
كان يتحدث مع المشترين بنوع من الغرور، كأنه سيدهم. أعطاه المشترون ما فرضه من سعر، وراحوا يتفحصون أوراق القات ببهجة ومسرة. انتظر زربة وصول حسن ابن مقبل الدسم بقاته الجدة وحين وصل على حماره وهما يتصببان عرقا، ساعده زربة في إنزال حمولته من القات. قال وهو يحل رباط الحمولة: قاتك جاهز يا زربة. ما فيش
25
أحد يجيب
26
قات مثلي.
سأله زربة عن السعر فقال: كم ما شيقول رأسك يا راجل
27
والفلوس لحين ميسرة.
في ذلك اليوم كان سعر القات غاليا ولم يشتر صاحب الدكان ناصر المسحور، المعروف لدى أسرته أنه إذا لم يتعاط القات يكون عصبي المزاج وحاد الطباع، ولا بد على أسرته حينها أن تكون حذرة منه، لا تغضبه، ولا تناقشه حتى يمر وقت تناول القات بسلام. ذات يوم لم يتناول القات فيه، أخذ يشتم زوجته ويرمي بالصحون إلى خارج المطبخ لأسباب عادية، كبعض الذين لا يجدون قيمة القات، لكنهم في آخر النهار يعودون إلى حالتهم الطبيعية.
شاهد زربة المجنونة زعفران المحبوسة في غرفتها منذ عشرين عاما، وهي تخرج رأسها من نافذة صغيرة تشتم وتلعن، لم ينفع معها تمائم الشيخ عبد الله، أو ميسم السيد عبد التواب لطرد الجن. أهلها عادة ينزلون غذاءها من فتحة صغيرة في سقف غرفتها. أما المجنون الشاب راشد المقيد في كوخ صغير أمام دار أبيه، فزاره زربة فطلب منه سيجارة. وجد حالته تزداد سواء يعجن برازه ويسد به ثقوب الكوخ. أصيب بالجنون نتيجة رجال الأمن حين هاجموه فجأة وهو يمارس عمله الحزبي.
جلس زربة أمام باب دكان ناصر المسحور في بيته المجاور للمقبرة، وسأله عن حاله، رد غاضبا: مرتي
28
تسرقني يا زربة، تعطي أصحابها، طلقتها عشر مرات وهي ما رضيت تخرج من البيت، اللعين بنت اللعين. لقب بالمسحور لفقدانه التركيز للحظات يسبب ذلك له خسارة أحيانا، ولولا مراقبة ابنه محمود البالغ العاشرة من العمر وهو يبيع، لتعرض لخسارة فادحة. وصادف منصور النحال ووجهه متورم؛ بسبب لسعات الدبابير عندما كان يخرب خليتهم في جرف قريب من القرية، وقد قضى خمسة أيام غير قادر على الرؤية؛ بسبب الورم حول عينيه.
9
بينما كان زربة في السوق يضحك على ما جرى للنحال، سمع عويلا وصياحا مفاجئا في القرية، واتضح أن ثور الجزار مقبل الدسم قد نطح زوجته الثانية زعفران وهرب كالمجنون من الزرب. أسرع الحاضرون يهرولون خلفه في الحقول المزروعة. كان مقبل يصيح: يا خلق الله، الثور قتل زعفران، يا غارتاه، خدعني صاحب قرية «المعزاج»، الثور حقه مجنون.
استخدموا الحجار لإرجاع الثور وهو يدهس الزرع. كان هائجا والزبد يخرج من فمه. حاصروا الثور في نهاية أحد الحقول، لكنه عاد يجري في اتجاههم فهربوا من أمامه، ووثب بعضهم إلى الحقل الأسفل، ومنهم من تسلق كالقرد جدار الحقل، وبقي بعضهم يجرى أمام الثور في رعب. توقف زربة عن كركرته واستعد لمواجهة الثور معهم. أخذ حبلا وهو في الحقل الأعلى وعقد فيه دائرة، كما شاهد رعاة البقر يفعلون في الأفلام الأمريكية، وبعد عدة محاولات من رميه للحبل التف حول رقبة الثور، فجذب الحبل إلى الأعلى، وساعده الجميع حتى كاد الثور أن يختنق، ثم قفز زربة مسرعا وقبض على فكه الأسفل، وأخذ يلوي رقبته بقوة إلى أن طرحه أرضا، وحلق الناس معه يكبلون الثور بالحبل. صاح مقبل الجزار: شنكلوه، شنكلوه
29
هذا المجنون، المكلف
30
ما تقدرش تتنفس.
كان ذلك اليوم حافلا بالضحك، كل يتحدث عن نفسه عما جرى له من الثور، ويضحك على سلوك الآخرين وهم يفرون مذعورين منه.
10
عاد زربة إلى داره يحمل حزمتين كبيرتين من القات مجانا من الجزار، الذي وعده بخمسة كيلو من لحم الثور مجانا يوم الجمعة. أثناء دخول زربة المطبخ اصطدم رأسه بأعلى الباب فسقطت عمامته، وكرر عبارته التي يقولها كلما اصطدم رأسه بالباب: سأرفع سقف المطبخ. وجد اللحم على النار، سكب ملء جفنة قدر كيلو ليطعمه. وبعد نصف ساعة قدمت صفية ما تبقى من اللحمة مع الفتة وتبقى قليلا للعشاء، ثم تناول كمية كبيرة من الحلاوة. ذهب يتفحص القات ثم رتب مجلسه المعتاد، أمام المداعة التي توضع في كوة داخل الجدار طولها متر ونصف، ومد قصبتها طولها حوالي أربعة أمتار لتصل إلى أطراف الغرفة. حضر والده ووالدته والحطاب وزوجته مريم وجلسوا معا، أتت صفية تشاركهم وقد أحاطت حول خديها بمشقرين
31
من زهور النرجس. جلست كل زوجة بجوار زوجها، وأخذوا يمضغون القات ويناولون المداعة من شخص إلى آخر. كان زربة يشعر بالنشوة حين يعلو صوت المداعة، يمج دخان التبغ وينفثه سحابة كبيرة من فمه وأنفه كتنين. لا يستطيع أحد في القرية أن يخرج كمية ذلك الدخان من أنفه مثله. كان يراهنهم ويكسب الرهان، فلم يعد أحد يراهنه على شيء، ففي أحد المرات أكل ثلاثة كيلو حلاوة. ومرة التهم عشرة علب من الخوخ، ومرة شرب عشرين بيضة دجاج. في أحد المرات قال لمنصور النحال: أيش
32
رأيك تراهنني على شرب رطلين عسل من عسلك؟ شدفع ضعف القيمة لو ما قدرتش.
33
رفض منصور فهو يعرف مقدرة زربة. قامت صفية من جوار زربة بعد أذان العصر مثقلة بحملها، فلحقت بها بقية النساء، ولم يشعر زربة بانصرافهن؛ فقد كان يحلق في سموات القات، يضع حجر الأساس لقصر على أرض واسعة ، ويزرع حوله الفواكه والقات الهرري الذي طال حتى أخذ يقطف منه وهو مطل على النافذة. ذلك القات الذي تذوقه ذات يوم، ولم ينس طعمه، فتمنى أن يأخذه بساط الريح إلى الحبشة. سعل بقوة بعد أن مج كمية كبيرة من دخان النارجيلة، فأخرجه من التحليق في عالمه. خرج والده والحطاب عند غروب الشمس، وذهب هو يتناول عشاءه، ثم صعد إلى سطح الدار مرتديا ثيابا خفيفة ليتأمل النجوم. نزل بعد ساعة وقد جهزت له صفية النارجيلة مرة أخرى وبدأ سهرته الليلية.
حضر سعد الوطواط ليسمر معه، هذا الرجل لا توجد مشكلة في القرية إلا وله يد فيها. يجد سلوته في زرع الفتن بين الأهالي. وحضر أيضا سعيد فارع، الرجل الطيب الملقب بالإبرة، لحيائه الذي يمنعه من المطالبة بما يتبقى له من أجرة عمله عند أرباب العمل، وهو بناء ممتاز، وعبد القوي قارئ الموالد، وناجي أحمد المقشش، وثابت المداح أتى بدفه؛ ليطرب زربة بعد غيابه الطويل عن القرية بمديحه للرسول، والتغني بسيرة الزير سالم وعنترة بن شداد، وغيرهم من أبطال العرب القدماء، وكذلك حضر عبده راجع ومنصور النحال، وعلي الدحان. تحدثوا بأشياء كثيرة ثم دار الحديث عن اللص «عبادة»، وسرقاته خلال الشهرين الماضيين، وعن المتعاونين معه من أبناء القرية، كخالد ابن المرحوم عبده ناصر الذي يقدم له الطعام والماء، حين يمر على القرية ليلا، لكنه ينكر تعاونه معه.
عبادة رجل أسود شجاع، قوي وعداء سريع، له قصص كثيرة في السرقة أشبه بالبطولات، لا يسرق البيوت الفقيرة. يفتخر بعنترة بن شداد ويراه قدوته. يعيش في قرية «زهمق» للمهمشين قرب وادي خوالة الأخضر بفواكهه ونخيله، قبل أن يتحول الوادي إلى مزارع للقات كغيره من الوديان. هذه القرية لها عاداتها الخاصة كغيرها من قرى المهمشين، لهم شريعتهم الخاصة فهم لا يذهبون إلى محاكم الغير ومقابرهم خاصة بهم. يعرفون بقذارتهم، ليس لديهم ملكية يتوارثونها، بدلا من ذلك يتقاسمون القرى بينهم ويوثقونها بصكوك شرعية يتوارثونها فيما بينهم، فلا يمر هذه القرى في الأعياد والأعراس لضرب الطبول إلا صاحب الصك؛ لينال قدرا من المال. في أحد المرات حاول سرقة الراديو حق صالح عاقل قرية القرن من نافذة الدور الثالث لداره، لكنه سقط وحلف أنه لن يسرق القرية؛ لادعاء أهلها بأنها محمية بالأولياء الصالحين؛ لصلتهم بآل البيت. بعد أن انتهى حديثهم عن مغامرات عبادة، تحدثوا عن الحصاد واتفقوا على البدء بعد ثلاثة أيام، وأخيرا سخن ثابت المداح دفه فوق بوري النارجيلة، إلى أن اقتنع برنته، وبدأ يطربهم بمدحه المعتاد.
خرج الجميع من بيت زربة الساعة العاشرة ليلا كل إلى داره، ودخل هو على زوجته وهي نائمة، والقات ما زال محشوا في خده. استيقظت بفتور وهو يتنسم شذى عطرها. استمر اللقاء الحميمي والقات ما زال في خده، وامتزجت النشوتان ثم عاد يكمل سهرته حتى منتصف الليل يسامر نارجيلته وحيدا.
11
في الصباح الباكر، ذهب سعد الوطواط إلى دار صالح محمد عاقل القرية وحكيمها. هذا الرجل له منطق جيد والناس تسمع له فخبرته في الحياة جيدة. طاف عدة مدن في العالم على باخرة فرنسية وهو في العشرين من العمر، بعد أن هجر قريته إلى عدن. كان يوقد الفحم لمحرك الباخرة، وبعد سنتين ترك الباخرة في ميناء مرسيليا وقد تعلم القليل من اللغة الفرنسية، وعاش هناك بعد أن حصل على حق اللجوء الإنساني. عمل مساعد طباخ في مطعم لبناني، تعلم كل فنون الطبخ الشامي. كان كريما مع زواره العرب في سكنه. عاش مغتربا عشرين عاما، تزوج بسعدية امرأة مغربية تحمل الجنسية الفرنسية. كانت تكبره بثمان سنوات، لكن صالح لم يشعر بهذا الفرق خصوصا عندما يقارنها بنساء قريته. لم تنجب له أطفالا كما لم تنجب لزوجها الأول الذي توفي في الحرب العالمية الثانية. عاش صالح عشرين عاما هناك وحصل على الجنسية، لكنه اشتاق إلى قريته، فعاد بثروة لا بأس بها. بنى أكبر دار في القرية وكان مضيافا. وهو يتحدث عن دول العالم الثالث توقع انحراف مسار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر. كان يقول: «القبيلة قد تبني دولة هشة لكن لا تبني أوطانا.»
أخبره الوطواط باتفاق زربة والآخرين عن ميعاد وقت الحصاد دون الرجوع إليه، وكان يريد بذلك زرع الفتنة بينه وبين زربة، حتى إن زوجته تفاحة ابنة خاله تزوجها بفتنة جعلتها تطلب الطلاق من زوجها الأول، فقد كانت تفاحة فتاة جميلة، متزوجة من رجل آخر ومقتنعة بنصيبها. يقع دار زوجها الأول بجوار الطريق المؤدي إلى سوق الثلاثاء. حين كان الوطواط يمر بجوار دارها وهو ذاهب إلى السوق، ينفرد بها بصفته قريبها ويسألها عن حالها، فتشكو له جور عمتها والدة زوجها في معاملتها. أقنعها الوطواط أن تتطلق منه، وسيكون وكيلا لها دون مقابل. لم تمر سنة حتى حصلت تفاحة على الطلاق عن طريق المحكمة وتزوجها.
كان الوطواط ثاني إخوته، في الثلاثين من عمره. ساعدهم في الصغر، بعد موت أخيهم الأكبر بالطاعون، وغياب أبيهم خارج الوطن. منهم من قال: إنه هاجر إلى الحبشة. ومنهم: إلى فرنسا ومن قال: رآه جنديا مع الإيطاليين. هكذا كان الكثير من أهالي القرى حين يعملون في ميناء عدن، يرون البواخر بساط الريح، فيبقون عليها يعملون أعمالا متواضعة متنقلين حول العالم، أغلبهم يفضل البقاء في أي مكان ترسو فيه السفينة؛ فهم يرون أنهم خرجوا من الكهوف إلى العالم الحقيقي. ينسون بلدانهم، أطفالهم، زوجاتهم ولا يعودون إلا عند الشيخوخة؛ ليقبروا في مسقط رءوسهم. هكذا عاد عبده راجح والد الوطواط. يوم أن انفجر الوضع العسكري في صنعاء، في أحداث أغسطس (1968م) بين قيادات الثورة الذين تقاتلوا فيما بينهم بمختلف أنواع الأسلحة. كان راجح الوطواط يسكن في مستودع سيناء أمام مدرسة عبد الناصر في منطقة التحرير. كانت هناك دبابة تقذف حممها نحو منطقة العرضي، تبول الوطواط على سرواله؛ فهو لم يسمع في حياته مثل ذلك الرعد الذي يصم الآذان. كان يسافر إلى القرية كلما قامت القوات المسلحة بعرض عسكري مسلح في العيد الوطني للبلاد، يخيل إليه أن عرض الدبابات والمدافع سيتحول إلى معركة دامية.
12
في صباح اليوم الثالث من عودته كان زربة على سطح داره ينادي منصور النحال في القرية المقابلة من الجبل المنحني، يسأله عن سعر الرطل العسل. أجابه منصور بصوت مرتفع يشكو له هروب النحل من إحدى الخلايا. ضحك زربة وقال له: والله، يا منصور، حقك النحل شيهربن كلهن؛ لو ما تعطينيش رطل عسل أطعمه ههههه.
وقتذاك مر صالح عاقل القرية في الطريق المقابل لدار زربة. ناداه معاتبا: مو شتعمل
34
نفسك عاقل يا زربة؟ تحدد وقت النصيد
35
هذا شغلنا نحن عقال القرى، نجلس ونشوف
36
الوقت المناسب.
شعر زربة أن كلام العاقل صالح على حق، وقرر أن يذهب ليمضغ القات عنده في الدار كنوع من الاعتذار. ذهب في اليوم الثاني إلى سوق الثلاثاء؛ حيث يلتقي الناس من القرى المجاورة للشراء والبيع، وكذلك يلتقون بشيخ السوق ليحل النزاعات فيما بينهم. وصل زربة الساعة التاسعة صباحا والسوق يكتظ بالناس والدواب، منها الجمال التي تحمل الزيت من منطقة الصبيحة ... التقى بالكثير من أبناء قرية نجاد وهم يفترشون بضاعتهم في السوق، منهم مقبل الدسم الذي اشترى منه اثنين كيلو لحما، واشترى القات الشراري من عبد الفتاح الملوق واشترى البصل والجزر الصلوي ... وهو يغادر السوق تناهى إلى مسامعه صوت خادم جهوري، وهو يعتلي مبنى صغيرا يعلن عن جمع لولي الله «الوجيه»، وهو تجمع سنوي للأهالي يقيمه أتباعه، لمدة ثلاثة أيام حول الضريح.
وصل زربة القرية قبل الظهيرة فأسرعت صفية لطبخ اللحم. لم ينتظر حتى ينضج جيدا، فأخذ يتناوله من داخل القدر ولم يبق منه إلا المرق وقليلا منه لأولاده، ثم ذهب يلتهم قطعة كبيرة من الحلاوة وتوجه إلى دار العاقل صالح. استقبله ببسمة ماكرة، وأخذ زربة مكانه على متكأ بجانبه، فتح شاله وأخرج قاته وأعطى العاقل حزمة كبيرة من القات، فزربة كغيره يعتبر القات أفضل وسيلة للاعتذار؛ فالقات يصلح ما أفسدته اليد واللسان، حتى ولو كان بعد أشد القتال. به يعقدون الصداقات والأعمال والخطط؛ حتى إن أهم القرارات المصيرية للشعب تتم غالبا أثناء تناول القات. ابتسم العاقل وقال: مش
37
ضروري يا زربة تزورني بقاتك، مكاني متسع للجميع وهذي عادتي حتى لما كنت في فرنسا. وأنتم هنا في القرية أهلي أرعى مصالحكم، وأنت تعرف سذاجة أهل القرية يمكن أن ينخدعوا بسهولة.
أقبل الكثير من الأهالي بقاتهم بينهم سعد الوطواط إلى بيت العاقل. تحدثوا عن الأرض والأحطاب، والحدود والفواصل بين الأراضي، وقرروا ميعاد الحصاد. بدأ الصمت يسود المكان، وكل يعيش في حلمه الوردي، وهناك من تقوده أحلام اليقظة إلى البهجة ومنهم إلى الحزن، ويعود ذلك إلى نوع القات وكميته والحالة النفسية التي يكون عليها متعاطي القات.
13
بعد الغروب أنصت المجتمعون إلى صوت هرج ومرج في القرية. كان أحدهم يستغيث: عبده غالب الهندي قبصه
38
حنش، اسرعوا، ...
أسرع الرجال لنجدة الهندي، وجدوه في الطريق يصيح من الألم، ويتصبب عرقا، تتسارع أنفاسه، وأهله يبكون حوله، وأمه تنوح بصوت حزين. حملوه إلى بيته يظنونه لا محالة هالكا. عندما وصلوا أسرعت النساء ومعهن زبدة بقرة، قمن بطلي أثر اللدغة على إصبع رجله الكبرى، وأحضرن قطة تلعق أثر اللدغة، لاعتقادهن أن القطط تمتص سم الثعبان وتداوي نفسها بلعق مكان اللدغة. كان الهندي يصيح وهو يقول لمن حوله: سامحوني، أنا شموت، شموت ...
اعترف أنه ضم لأرض والده مسافة بطول متر من حقل عثمان سالم المجاور لأرض والده، وحدد المكان، ونصف متر من أرض ناجي، وكذلك استولى على شجرة صغيرة تخص قاسم سعيد، تقع بين حدودهما. أغمض عينيه والعرق يتصبب من جبينه، ظنوا أنه فارق الحياة فزاد نحيب النساء. اقترب عثمان مجبر الكسور من صدر الهندي فسمع دقات قلبه، وصاح: إنه حي، إنه حي. هيا أحضروا دجاجة كبيرة.
أحضروا دجاجة كبيرة وأدخلوا إصبعه الملدوغة في مؤخرتها؛ لاعتقادهم أنها ستمتص سم الثعبان. مضت نصف ساعة وهم يتساءلون: هل ماتت الدجاجة؟ - لا، لم تمت. - إذا شيموت الهندي.
بقيت إصبعه في مؤخرة الدجاجة حتى الصباح وهي تملأ الغرفة نقنقة. قال صالح والد زربة: دعوني أسم مكان اللدغة وسترون كيف سيشفى، فقد اعتاد معالجة جميع الأمراض بالميسم، حتى الحمى والإسهال. حين اصفرت عينا أخيه قاسم وسمه على رأسه، وحين أصيب منير الابن الخامس لزربة بإسهال وعمره سنتان ونصف، وسمه حول السرة وشفي بعد ثلاثة أيام. وحين أصيبت الطفلة سليمة بنت قاسم بالمسلمة (سرطان جلدي) في الرجل اليمنى، قام بكي مكان الإصابة وحولها بمسامير ساخنة وماتت بعد ذلك، وهكذا كان يسعى لعلاج أغلب الأمراض بالكي.
عاد الأهالي من بيت الهندي إلى بيوتهم وهم يترحمون عليه، ويسامحونه على أفعاله. بعد يومين قام الهندي يمشي كأن شيئا لم يكن، ولم يعرف أحد أن الثعبان غير سام، وبقي الفضل في اعتقاد الناس للقطة والدجاجة. أنكر الهندي اعترافاته السابقة مدعيا بأنه كان يهذي بسبب الحمى.
عاش عبده غالب الهندي طفولته مع أبيه في مدينة عدن وتأثر بجيرانه الهنود. لقبه قاسم بالهندي؛ لأنه كان يتحدث ببعض مفردات اللغة الهندية عندما يبقى في القرية، وشعره كان أيضا يشبه شعر الهنود. كان يضع قبعة صغيرة على رأسه، يميلها قليلا نحو الجهة اليمنى فتغطي ثلثي رأسه. حين كان يمشي في القرية ببدلته الأنيقة وحذائه اللامع يحمل حقيبته الدبلوماسية كالسفير، ولا ينظر لمن يجده أمامه في الطريق. عندما انتقل إلى مدينة الحديدة استمر على حاله. تزوج هناك من ابنة رجل غني فتح له دكانا في حي المطراق، فزاده ذلك فخرا. اعتاد عند عودته إلى القرية أن يحضر معه مفرقعات لإشعالها على سطح داره إعلانا عن وصوله. عاش حياته في رغد من العيش، وما إن أفلس حتى عادت ضحكته الطفولية مع أهالي القرية.
14
يسود الود والتعاون بين أهالي قرية القرن بالذات بين النساء كبقية القرى. غالبا ما يحدث الخصام بسبب الحدود بين الحقول، أما إذا كان هناك خلاف حول شجرة، فيحل هذا الخلاف سالم الحطاب لمعرفته بالحدود جيدا، وإذا لم يقتنعوا يذهبون بعد ذلك إلى المحكمة. سالم رجل مسالم، يقول الحق ولو على نفسه، يمكن أن يخدعه طفل بكذبة بسيطة. حين يشاهد أحدا يعتدي على حدود حقوله يمنعه بقوله: بحجر الإمام
39
قف عند حدك، لا تعتد على أرضي.
على الرغم من مرور تسع عشرة سنة من قيام الثورة على آخر الأئمة في اليمن. حين نصحه والد زربة أن يضع رمادا على عينيه المصابتين بالرمد صدقه ، ثم أجريت له عملية بعد ذلك، حتى إنه عرف ساعته الأخيرة فقال لابنه: سأموت الآن، لا تدع أختك الصغرى تشاهد موتي، وتوقع لزوجته أن تموت بعده بستة أشهر، وفعلا ماتت بمرض السرطان بعد سبعة أشهر في أول جمعة من شهر رمضان (1438) هجرية.
حان وقت الحصاد فخرج الرجال والنساء والأطفال يجمعون الذرة والدخن والدجر الشبيه بالفاصولياء. حصد زربة أرضه وأرض أبيه خلال يومين. كان يحمل كيسين كبيرين معا مليئين بالسنابل، يصعد جبل طرماح دون أن يشعر بالتعب، ويتضاعف نشاطه بعد تناول القات. كان رجال القرية يحسدونه على قوته، أما نساؤها فيحسدن صفية. عادة تخرج النساء خلف الرجال للحقول وقد دهن وجوههن بالهرد
40
لحمايته من أشعة الشمس، يجمعن الأعلاف في حزم صغيرة، ثم يتعاون في نقلها مثلما يتعاون في نقل الأحطاب، والدمل من زرب البهائم إلى الحقول. يقمن في الريف بأعمال أكثر من الرجال، مشهدهن وهن يسرن معا يشبه سرب نمل يتحرك إلى قريته، وتجد القرية في موسم الزراعة والحصاد تشبه خلية نحل. يقوم الرجال برص أعلاف الأبقار فوق الأشجار أو بجوار ديارهم، لكن والد زربة لم يعد يرص الأعلاف إلا فوق الأشجار؛ خوفا من الثعابين التي تختبئ تحتها. في أحد المواسم قام برص الأعلاف بجوار بيته فالتهمتها النيران، وكادت أن تحرق داره. حدث ذلك عندما شاهد ثعبانا بقرنين صغيرين يدخل بين الأعلاف، فجلبت زوجته جمرا في الموقد، ووضعت عليه فلفلا أحمر؛ لتطرد الثعبان. وضعت الموقد بجوار الأعلاف، فهبت الريح واشتعلت النيران وأحرقت الأعلاف. أما الثعبان فخرج مسرعا واختفى عن الأنظار، وظل والد زربة ووالدته فترة زمنية خائفين من الثعبان الهارب. لم يستطع الأهالي الاقتراب من النار المتأججة، لكنهم ساعدوه بالأعلاف لسنة كاملة. هكذا أهل القرى يتعاونون فيما بينهم، حتى في بناء البيوت في عملية تسمى مضاهاة. وفي هذا الوقت من السنة أيضا يقوم منصور النحال بجمع العسل من الخلايا.
أثناء فصل الحبوب عن السنابل في البيادر، كان صالح والد زربة يعمل في البيدر مع صفية، حينها كانت تقوم بتنظيف الحبوب من القش، وهو يذرو الحبوب من مكان مرتفع على البيدر حين يهب الريح. جاءها المخاض فجأة فحضر زربة مسرعا وحملها إلى داره وتبعته جدته نعم وقامت بتوليدها، فهي قابلة القرية وتقوم أيضا بالمساعدة في ولادة الأبقار المتعسرة. هي امرأة طيبة يحبها الأطفال كثيرا، تلاعبهم في فناء القرية مستخدمة بعرات الأغنام في لعبة مشهورة في القرى تسمى «كسيبة». استمرت زيارة النساء لمدة أسبوعين بالسمن والبيض والدجاج إلى دار صفية ومساعدتها بجانب والدتها التي كانت تقوم بخدمتها.
15
كان في قرية القرن: القابلة، البيطري، مجبر العظام، المنجم، وكانت الجدة «نعيم» متخصصة بنزع اللوزتين بظفر سبابتها المعقوف، تركته لهذا الغرض. لها حكاية غريبة مع الجن؛ حيث تعتقد أن ابنها عبد الرحمن اختطفه الجن، ولم يمت كما يعتقد أهل القرية، ولم يدفنوه لكنهم دفنوا جذع شجرة بدلا عن جثته، تقول إن ابنها حضر بعد موته بشهرين وطلب منها شربة ماء، فأعطته وبعد ذهابه تبعته وهي تنادي: وا عبد الرحمن ارجع، وا ولدي ارجع ... هكذا ظلت نعيم طول حياتها تنتظر عودته، مثل زهرة التي ظلت تنتظر عودة ابنتها الجميلة سماح بعد موتها. كانت تعتقد أن الجن خطفوها كما أخبرتها حليمة إحدى المشعوذات.
المداح كان أيضا عرافا يقرأ المستقبل بواسطة كتاب سحري يخبرهم بمجرد معرفة اسم الشخص ووالدته ونجمه. وفي القرية المجاورة يعيش سعد أحمد الذي كان يداوي جميع الأمراض بخمسة أنواع من الأعشاب، ويصرف الجن عنهم، بورقة يحرقونها ويتنسم المريض عرفها. لديه الكتاب الثلاثي الذي يقال إنه وضعه في التنور لكنه لم يحترق. وهناك السيد عبد الرحيم الذي يقرأ القرآن على الذين أصابهم المس من الجن، ويستعمل الحذاء لعلاج اعوجاج الفم. أما من يصاب بالريح الأحمر (الشلل) فالعمة تفاحة تقوم بتدليكه بزيت الولي سعيد طه، فالزيت يساعد في طرد الجن من المشلول.
في اليوم السابع من مولد عبده وهو ميعاد ختانه، دعا زربة أهل القرية؛ لقراءة مولد للولي ابن علوان. اقترض المال من عمه قاسم. هو رجل نحيف، متوسط القامة، أسمر اللون، أهل القرية وأصدقاؤه يحبونه لظرفه وطيبته. امتهن البناء في بداية شبابه ثم غير مهنته وعمل في التجارة، ثم عاد يعمل في البناء مرة أخرى، إلى أن سافر إلى الخليج العربي للبحث عن فرصة أفضل للعيش. كان لا يخجل من عمل شيء يجلب السلوى إلى من حوله، يردد الأهازيج الشعبية المناسبة للموقف في أي مكان يكون فيه.
ذهب أبوه مساء إلى أحد مزارع القات في منطقة شرار في عزلة بني يوسف، تبعد عشر ساعات مشيا على الأقدام من قرية القرن، أول منطقة تزرع القات ناحية الحجرية. قيل إن شجرة القات أحضرت أول مرة من الحبشة وزرعت هناك ثم تكاثرت. اشترى والده قاتا وقر حمار. عاد اليوم الثاني قبل ظهيرة؛ فالمولد لن يقام إلا بالقات واللحم والفتة بالمرق والسمن. حضر رجال القرية وأطفالهم الذكور عند غروب الشمس، وكذلك حشد غفير من القرى المجاورة. جلسوا يتحدثون ويضحكون وهم يحدقون في كومة القات الكبيرة التي تنتظرهم.
قدمت للحاضرين عشرة جفان كبيرة من الفتة واللحم فتهافتوا عليها، وبعد تناولهم وجبة العشاء، غسلوا أيديهم ومسحوها في مآزرهم. جلسوا بلهفة ينتظرون توزيع القات، وبعد أن استلم كل واحد حصته من القات أخذ يزنه بكفه، ومن لم يقتنع بالكمية يظل صوته خافتا أثناء قراءة المولد.
بدأ عبد القوي يقرأ المولد بصوته الشجي، وكان المداح حاضرا بدفه، وعثمان سالم يقوم بالدعاء في آخر كل قصيدة مدح للرسول. أثناء قراءة المولد تتخلل فترة زمنية قصيرة لمضغ القات وشرب النارجيلة، وتستمر قراءة المولد حتى منتصف الليل.
16
خاتمة المولد في الليلة الثالثة يقرءونها وهم وقوف يسمى الترحيب، عندها يشتد ضرب الدف، فانتاب البعض حالة التجلي والجذبة، قفز عبد الرحمن أخو الهندي إلى وسط الحاضرين واختطف خنجر الوطواط من غمده، واستنجد بالولي ابن علوان بصوت جهوري «ألا يا ابن علواااااان» وبدأ يضرب فخذ رجله اليمنى بشفرة الجنبية الحاد؛ حتى تعب ثم عاد لقراءة المولد معهم كأنه لم يحصل شيء. أما ناجي المقشش كان يثب إلى الأعلى كالزنبرك، والشاب عبد القادر من قرية عصران راح يردع الجدار يصيح: يا حي، يا حي... حتى أوقفه الآخرون بالقوة. وعلى من يقف بجانب هؤلاء أن يكون حذرا منهم؛ لهذا قام زربة في هذا اليوم بأخذ كل ما هو قابل للكسر في الديوان؛ حتى لا يحدث معه كما حدث في مولد علي سعيد في قرية عصران.
لكل من عبد القوي قارئ الموالد وعثمان سالم قصته العجيبة؛ فعبد القوي لم يكن يعرف القراءة لكن أمه «حمامة» كانت الوحيدة في القرية التي تجيد القراءة من بين النساء، زوجها الأول الفقيه عبد العظيم علمها القراءة تعبيرا عن حبه لها فقد كانت تصغره بأربعين عاما. كانت دروسه تبدأ قبل الذهاب إلى النوم، يظل يعلمها وهو يمسح على رأسها بحنان إلى أن تشعر بالنعاس، وقيل إنها حين تزوجت والد عبد القوي بعد أن توفي زوجها الفقيه كانت بكرا، وأنجبت له ولدا منه أسمته عبد القوي، ومن حبها الشديد لابنها كانت تدعو له دعوة: الله يرزقك يا عبد القوي من الصفا (الجبل) الصحيح. وفعلا تحققت دعوتها التي يقال إنها كانت أثناء نزول ليلة القدر. وأصبح عبد القوي أقوى نقافا يقتطع الحجارة من الجبال للبناء. أما عثمان سالم هو رجل متصوف. اختلى في زاوية للمتصوفين لمدة واحد وعشرين يوما، في منطقة الأحكوم، تبعد عن قرية القرن مسيرة نصف يوم. في آخر يوم من خلوته أخرجوه وهو مغشي عليه، فقلة التغذية أحد شروط الخلوة، وكذلك عدم البوح بما يراه المتصوف في خلوته. حين صحا كان الجوع يعبث بأحشائه، ولم يقل لأحد بما رآه. كان بجانب عمله كمجبر للكسور، مؤذن القرية ومنجمها، عندما يولد مولود ينظر في النجوم ليبحث عن نجمه وعن ساعات عقد الزواج المباركة، ومتى تدخل العروس دار العريس. كان رجلا جبريا في معتقده الديني يرى أن الإنسان مجبر لا مخير، حتى إنه قال عن دولة إسرائيل إنه قدر من الله والله هو المتكفل به. حين هاجمه الثور في طرف الحقل وهو يحرث عليه وسط القرية، أتى الأهالي لنجدته فرفض مساعدتهم. قال وهو مستسلم لعبث الثور به: دعوه، دعوه ... هو مأمور من الله، دعوه ...
بقي الناس يتفرجون إلى أن تركه الثور. كان يمكن للثور أن يقتله لكنه لم يصب بأذى كبير، سوى كسر في يده اليسرى وضلعه الأيمن. كان يتألم ويقول: لا لوم عليك يا ثوري، نفذت أمر الله.
قام والد زربة بسحب يد عثمان اليسرى من معصمها، بتعليمات منه ووضع حول الكسر لحا شجر السدر الجاف المخصصة لتجبير الكسور، وربطها جيدا ثم ساعده في الوصول إلى بيته. أما زربة فقد نصح عثمان ببيع ثوره للجزار مقبل الدسم؛ لاحتمال تكرار فعلته ووالد زربة نصحه بكي رأس الثور بالنار؛ لإخراج الجني الذي تلبسه فرفض عثمان قائلا: الثور مأمور وطاعة الله واجبة.
لكنه قبل بالميسم على رأسه هو؛ لمعالجته من أثر الخوف.
الظهيرة
ترتدي شمس الظهيرة زهو الشباب فتمنح العالم حبها الأكبر. ***
1
علم المقاول عبد العزيز، في قرية الرجاع التي تبعد ساعة مشيا من قرية القرن أن زربة في قريته، فأرسل رسولا إليه ليخبره أن لديه عملا لبناء دار في قرية شرار، لرجل يمتلك مزارع قات، وأخبره أن يصطحب عمالا من قريته.
يفضل زربة العمل مع مزارعي القات؛ لأنهم يوفرون عليه شراء القات وكرماء به، فاستجاب للمقاول واختار ثلاثة عمال من قريته هم: سالم الحطاب، ناجي أحمد المقشش وشماس المطين. وصلوا إلى موقع البناء فوق تل صغير، يطل على جنة القات كما يراه زربة، الشجرة التي يقول عنها إنها أخرجت آدم من الجنة، وإن الله أنزلها مع آدم إلى الأرض؛ لهذا كان زربة يؤكد لأصحابه أن آدم نزل في الحبشة، حيث يوجد هناك القات الهرري أجود أنواع القات في العالم؛ لهذا صدق كلام محمد مدهش حين قال له: إن الإنسان وجد أولا في الحبشة.
بدأ العمال يحفرون الأساس، وكان عمال آخرون قد نقلوا الحجارة سلفا. ثم قاموا وقرها للبناء ويعدون حجارة الأركان، التي كانت الواحدة تأخذ يوما ونصفا في تشذيبها وتجهيزها. في التاسعة صباحا وزع صاحب المزرعة القات على العمال، أخذوا نصف ساعة استراحة لمضغه، ثم عادوا إلى العمل وهم يرددون المهاجل الشعبية حتى صلاة الظهر . تناولوا غداءهم الذي لا يخلو من اللحم، ثم افترشوا التراب واتكئوا على الأحجار تحت ظل شجرة قريبة، وأخذوا يمضغون القات حتى الساعة الثانية بعد الظهر، ثم قاموا للعمل حتى الساعة الخامسة مساء. تناولوا وجبة العشاء ثم جلسوا لمضغ بقية القات. أما زربة فيمنحه المقاول حزمة إضافية؛ لما يبذله من جهد كبير في العمل، حتى إن بعض العمال الكسالى الذين ينقلون الحجارة والطين إليه يرفضون العمل معه؛ لأنه لا يسمح لهم بالذهاب إلى التبول مرارا لمكرهم.
2
في اليوم الثالث أعد المطين شماس كمية كبيرة من الطين؛ لخبرته في هذا المجال وكثيرا ما كان زربة يصحبه في عمله. هو رجل طويل ونحيف، قدماه عريضتان، تغرق ساقيه حتى منتصفهما في الطين. كانت معهما أربع نساء تنقل الأحجار الصغيرة، وكان سالم الحطاب يساعدهن بوضع الأحجار على رءوسهن وهن متكئات على رءوس أصابع أقدامهن. المضحك أن سالم لم يعتد على لبس السروال الداخلي تحت مئزره المشدود بحزام عريض في مقدمته محفظة للنقود. كان حين يضع الحجارة على رءوس النساء يعلق طرف مئزره أحيانا بين رأس المرأة والحجرة، فيتدلى أيره الطويل أمام عيون النساء فيحمر وجوههن خجلا. اشترت العاملات سروالا داخليا لسالم، أخذه منهن وهو يشعر بالخجل، وراح يتذكر حين كان يتسلق الأشجار بخفة في القرية وفأسه بيده وبعض النساء يقفن تحته يجمعن الأحطاب في حزم كبيرة، ولم يكن يعرف سر ضحكاتهن.
كان العمال يقضون جزءا من الليل في مضغ القات ويتسلون بالفكاهة والفوازير والحكايات الشعبية، يعوضون ما ينقصهم من حرمان. لا يفكرون بشيء غير قوتهم ولباسهم وبيت يأويهم مع أطفالهم، يكسبون من كدهم، ليس كما يفعل الذين يطوفون في فلك الدولة والارتزاق منها. كان زربة يسرد لهم أحيانا بعضا من مقالب عمه قاسم التي اشتهر بها وكان يمكن أن تودي به إلى السجن لو أنه عملها اليوم. في هذه الليلة تناول ناجي المقشش قاتا قطف للتو، فلم يصغ إلى زربة وهو يروي أحد مقالب قاسم، كان يحلق بعيدا وهو يتسلق جبل «شوكة» الطرماح، حيث تسكنه القرود، التي لا تسمح لأحد أن يعلو قمته، فهي تنهال على المتسلقين بالحجارة.
حكى زربة لهم حكاية طريفة قام بها عمه آخر الليل حين عجن السخام بالزيت، ودهن وجوه العمال بخطوط مختلفة وهم نيام. ضحك العمال كثيرا إلا المقشش كان غاضبا يحدث نفسه، ويحرك رأسه بخفة يسرة ويمنة. استمر زربة يروي حكاية عمه، قائلا: بعد ما دهن عمي وجوههم، ووضع السابلة
1
في كف حزام العديني الذي يشتي
2
يلبسه التهمة، ووضع عمي خط صغير على أنفه وغسل يده. قام العمال في الصباح يغسلوا وجوههم، كان كل واحد يضحك من الثاني. جلسوا يفكروا من عمل لهم المقلب.
قال عمي قاسم: الذي بكفه السابلة هو الذي عملها فينا، فضربوا العديني وعرططوه
3
وملسوه بالسابلة وخلموه
4
أسود مثل الخادم سأله أحد العمال: هل دروا، منو
5
عملهم المقلب؟ - نعم، واستقضوا
6
اليوم الثاني. - ها، كيف استقضوا؟
فجأة سمعوا المقشش يصيح: القرود، القرود فوقنا اهربوا، ثم قام وخرج يجري من الغرفة وهو يصيح: القرود ...
تبعه سالم الحطاب وأعاده إلى السكن، ثم ذهبوا إلى النوم وهم يضحكون على هلوسة ناجي بعد القات الجدة. كان زربة حيثما يعمل في القرى يكسب ود الطباخين، فكان الطباخ صادق العردان يقدم لزربة وجبة إضافية مهروسا بالسمن خفية، أما الحلاوة فزربة يخفيها في مكان لا يعلم بها غيره. وسبب تلقيب توفق بالعردان
7
هو خوفه منهم. حين كان فتى صغيرا قتل سحلية كبيرة، وقالوا له «إنه قتل جنيا وسينتقم منه»، كما يعتقد ذلك الكثير من أهالي القرى. مرض صادق وأثناء نومه كان يحلم بتلك السحلية وهي تجري خلفه، فيقوم من منامه يصيح: العردااااان يجري خلفي سيأكلني. ولم يشف إلا بمعالجة السيد عبد التواب، الذي أمره بذبح تيس أسود في المكان الذي قتل فيه السحلية.
3
طلب العمال في الليلة الثانية من زربة إكمال حكاية عمه قاسم، فضحك قبل أن يبدأ الحكاية وقال: أخفى أصحاب عمي أربع بيض تحت حقه العمامة، وهم يلعبوا لعبة اكتشاف الخبيئة من أول مرة فكسروا البيض فوق رأسه . غسل رأسه بالعلب
8
ما نفعش، جلسوا يضحكوا ثلاث أيام على رأس عمي وهو جيفة والذباب حوله هههههه.
ذات ليلة كان زربة يحكي لهم حكاية أخرى من مقالب قاسم، قال وهو ينظر ببهجة إلى أغصان قاته الطرية ويمج النارجيلة بهدوء، وينفخ الدخان في وجوههم: شخبركم عن حكاية حدثت في سوق السبت. - يا رجال
9
أعميتنا بالدخان، هي خبرنا مو عمل قاسم؟ - كان مع عمي دكان في القرية، كل ليلة سبت يروح
10
على حماره هو وأصحاب قرية نجاد إلى السوق ويرقدوا هناك. في نص
11
الليل قام من نومه عمي يبول عند موقف الحمير، وربط ثلاثة أتناك
12
فارغة معا بحبل إلى ذيل حمار كبير، وأدخل بسباس
13
أحمر طويل في جحر
14
الحمار، ورجع يرقد بجوار أصحابه. قام الحمار يجري وينهق في وسط السوق، يجر الأتناك خلفه. قام الناس في السوق من النوم خائفين يعتقدوا أن عصابة هجمت عليهم شتسرقهم ههههه.
سأل المقاول: أيش
15
عملوا مع قاسم؟ - ما أحد عرف من عمل المقلب ذلك اليوم، لكن لما عرف شيخ السوق ضحك ولم يعاقبه. يا جماعة كانت قلوب الناس زمان طيبة مش
16
مثل هذه الأيام.
4
ذات يوم سأل زربة جليلة إحدى العاملات معهم، وهي تقدم له الحجارة، وعلى وجهها طبقة رقيقة من الهرد: لو تقدم أحد يتزوجك؟ ضحكت وقالت له: مهرنا نحن العاملات ضعفين ههههه، وانصرفت كغصن يداعبه النسيم، وفي المساء ذهب زربة إلى فراشه، حيث ينام عادة بجوار صادق العردان. أثناء نومه رأى الغرفة مضيئة بنور ساطع وخالية من العمال. ورأى جليلة تدخل عليه بثياب العرس تمشي رويدا، تساعدها المروحة
17
مزينة بمشقري النرجس على جانبي خدها، يفوح عطرها ملء الغرفة. قام يستقبلها وراح يحضنها ويقبلها، فصاح صادق العردان وقد حضنه زربة: ما نش مرتك.
18
أغضب الشيطان، قم روح
19
عند مرتك.
ضحك العمال على زربة، وعند عودتهم إلى النوم ثانية، سمعوا صياحا في القرية، قيل لهم إن السارق الأسود سرق راديو من نافذة الدور الثالث لأحد البيوت، وقد تكررت سرقاته ولم يستطيعوا إلقاء القبض عليه. عرف زربة أنه عبادة. انتهوا بعد أربعة أشهر من البناء ولم يبق إلا السطح، فأخذ سالم الحطاب يشذب الأخشاب لوضعه على السطح وشماس يعد الطين ليكون طينا لازبا حتى لا يتسرب المطر إلى الغرف، قام العمال ببسط الطين بعناية على السطح ثم وضعوا التراب الجاف عليه.
5
انتقلوا من قرية شرار في بني يوسف لبناء دار جديدة في منطقة قريبة من عزلة الأحكوم، تقع في منتصف جبل مستطيل، على ضفاف واد كبير تنمو فيه أشجار البن والخضراوات. كانت الأحجار جاهزة للبناء، بينها أحجار مستطيلة كبيرة بحاجة إلى عامل قوي لنقلها، فبحث المقاول عن عامل من أبناء المنطقة ووجد رجلا اسمه جمال محمد، قويا وطويل القامة.
نهض صادق العردان من النوم فجرا يعد طعام الفطور، فتة دخن باللبن والسمن البلدي، فتهافت العمال عليها. أضحكهم شماس المطين، حين أخذ يلقم فمه بلقم كبيرة، فقال له زربة: وا مطين هذي فتة مش
20
طين، شتختنق.
وفعلا اختنق شماس بالفتة وهو يضحك، فلاموا زربة بأنه أصابه بالعين. بعد تناولهم وجبة الإفطار راح كل مدمن على الشمة يلقم فمه بها ومن ضمنهم زربة، ثم اتجهوا إلى العمل بهمة كالعادة. كل عامل في موقعه. شماس يعد الطين وسالم الحطاب وناجي أحمد المقشش ينقلان الحجارة. كان جمال عمر يعمل بصمت، في وجهه حزن، يقوم بعمله بانضباط. وفي المساء جلس معهم يستمع إلى حديثهم وهم يمضغون قاتهم. في هذه الأمسية سرد زربة حكاية النوارة،
21
التي وضعها عمه قاسم داخل جدار أحد حقول القرية، وذهب يصيح: «هناك جوهرة في الجدار»، وكان من معتقدات أهل القرى أن الثعبان ينقل جواهر بفمه من مكان إلى آخر تضيء ليلا، ويضعها أمامه. ولأخذها منه تغطى الجوهرة بالطين. قال زربة وهو يضحك: لما رأى أهل القرية النوارة في جدار الحول
22
صدقوا وجروا إلى الأسفال
23
وشلوا
24
الضفع
25
وجروا يتسابقون. وصل كل واحد وبيده ضفعة كبيرة وكانت شتحدث مضرابة،
26
كل واحد يرمي بضفعته على النوارة من بعيد، لما انطفأ ضوء النوارة. شكوا أن الثعبان هرب بها. عرفوا بعد يومين أن عمي هو عمل المقلب ، ضحكوا على أنفسهم. كان الناس زمان يصدقوا كل حاجة، حتى الإمام أحمد لما كذب على الناس وقال الجني حق شيخروج، صدقوه.
في الليلة الثالثة، لم يكن زربة يسرد الحكايات، كان جمال عمر يحكي حكايته هو. بقوا تلك الليلة مشدودين لسماعها، وأخذ جمال عمر يتحدث بوجه حزين. قال: كنت جنديا في معسكر الصاعقة، في سرية يقودها محمد مدهش كان منتسبا لحزب البعث العربي الاشتراكي قطر اليمن. كنا نمشي في الشارع ونحن نرتدي بدلة الصاعقة، نشعر أننا أبطال، والناس تنظر إلينا بهيبة واحترام. تدربنا تدريبا قاسيا على مختلف أنواع القتال والسلاح، كانت أصواتنا تخيف أنصار الملكيين أثناء التدريب. كانت فرقنا تتوزع في كل الجبهات أثناء القتال لصد هجوم الملكيين على صنعاء؛ لشحذ همم الجنود الآخرين. كان النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب يطوف على كل الجبهات باستمرار ينادينا بالوحوش، فتشتد عزيمتنا أكثر. كانت الإمبريالية العالمية تظن أننا لن نصد هجوم الملكيين على صنعاء، بخطتهم اللعينة المسماة «الجنادل» التي وضعها الجنرال «كواندا» الذي كان يعمل مسئول المخابرات الأمريكية في الجزيرة العربية، هو ومساعده المرتزق بوب دينار. أثناء القتال انسحبت السفارات الأجنبية؛ ما عدا: روسيا، الصين، سوريا، الجزائر وهرب الكثير من المسئولين اليمنيين إلى الخارج؛ خوفا من أن يحدث لهم كما حدث لقيادات الثورة الدستورية عام (1948م). كانت الطائرات ميج 17 الروسية الصنع، التي تقلع ليلا من مطار الحديدة وتقصف مواقع الرجعيين تشد من عزيمتنا، وأخافهم أيضا الجسر الجوي الروسي، الذي كان بمعدل 18 طائرة في اليوم إلى مطار الحديدة، من أسلحة ومعدات حربية وقاذفات اليوشن.
حك سالم الحطاب رأسه وسأله فجأة: ما تحس بالذنب من القتل؟ - في المعركة لا يشعر الجندي بالذنب على قتل الخصوم، فهو يجردهم من إنسانيتهم ويراهم هدفا يجب التخلص منه وينال مكافأة على ذلك، كالمحققين في المعتقلات الذين يقومون بتعذيب المعتقلين؛ لنزع الاعترافات منهم. لكنني حين كنت أمر أمام جثثهم المبعثرة، كنت أشعر بالحزن، فبعضهم كان يقاتل من أجل قوته، وليس مثلنا من أجل حماية الثورة وبناء الوطن ، وفي الأخير كلنا نحن يمنيون . بعد أن دحرنا الملكيين وعملاءهم الرجعيين عن صنعاء، وهزيمتهم في منطقة حضور، بقيادة إبراهيم محمد الحمدي، عاد الكثير من المسئولين الذين في الخارج، يحتفلون بالنصر وحدث الاختلاف بين اليمين واليسار، وتمترس كل في معسكره وجرحت أثناء قتالنا فيما بيننا نحن الثوار ...
كان عمر يتحدث بحماس ويداه تعبران عن الغضب، أما زربة فكان يحشو فمه بالقات محلقا فوق السحاب على بساط القات، يشاهد صنعاء بعينيه وجلس فوق جبل نقم، شاهد مناظر غريبة، كأنه في كابوس مرعب: غربانا، نسورا، صقورا بأحجام كبيرة لها أياد بشرية، تحلق فوق سماء صنعاء، ونافورة حمراء من الدم وسط بحيرة من الدماء. كانت تلك النافورة ترتفع إلى عنان السماء، والطيور الجارحة تحوم حولها وتضحك كالإنسان، ثم شاهد أناسا يخوضون في الدم ويرقصون على أطراف البحيرة رقصة الحرب. كانت أرجلهم تطول حتى صاروا عمالقة. انتشروا في كل مكان وحين مر أحدهم فوقه وهو على جبل نقم تبول عليه. أخذ زربة يمسح رأسه وكتفه، فاستغرب الحاضرون في السهرة من فعلته. لعن زربة الشيطان وعاد يستمع إلى جمال عمر وهو يقول: استمر القتال بين الفريقين خمسة أيام من 18 إلى 22 أغسطس (1968م)، قصف معسكر الصاعقة ومدرسة سلاح المشاة وسلاح المدرعات ... وكان القتلى بالآلاف من ضمنهم النقيب محمد فرحان قائد سلاح المشاة، قتل وهو على سطح مقر قيادة سلاح المشاة، وانتصر اليمين الثوري علينا وانضم الكثير إليهم من الذين كانوا يقفون مع الملكيين، بعد إعلان توبتهم وغفران عما سلف عن وقوفهم مع الملكيين. هرب البعض منا إلى خارج الوطن، والبعض عمل في الزراعة والسواقة والبناء، وأخيرا التحق الكثير منا في صفوف الجبهة الوطنية.
ذهب العمال إلى النوم وهم في قهر إلى ما مضت إليه الثورة. كان زربة يعتمد على العامل جمال في نقل الأحجار المستطيلة الكبيرة تلك التي توضع على سطوح النوافذ، يرفعها رجلان شديدان فوق ظهره، كان المقاول عبد العزيز يعطيه أجرة زيادة عن الآخرين، ليس لذلك الأمر فقط؛ بل لشعوره أنه رفيق دربه في الكفاح ؛ فقد كان المقاول جنديا سابقا وهو الآن متخف عن النظام منذ عودته من ليبيا، حين ذهبوا إلى هناك باسم اليمن ليساهموا في تحرير فلسطين بعد نكسة (1967م). حاول زربة أن يذهب إلى زوجته ليلة الخميس، ويعود ليلة السبت، لكن أصدقاءه العمال والمقاول أقنعوه بالعدول عن رأيه، ووعده بحزمتين قات واثنين بواري مداع حتى الصباح. أعجب زربة بعرضهم وجلس يحدث نفسه «اصبر يا زبي إلى الخميس الثاني، لا تحرمني من القات الشراري».
6
في صباح الجمعة، التقى المقاول عبد العزيز مع الضابط جمال وجلسا معا. سأله ما لم يستطع أن يسأله أمام الغير، عن انتمائه السري للجبهة الوطنية. أسند جمال ظهره على حجرة وكان عابس الوجه، شابك كفيه تحت رأسه، وحكى عن انضمامه مع الجبهة. قال: كانت تحركاتنا تحدث ليلا في القرى المنقسمة بين مؤيد للجبهة ورجال السلطة ومؤيد للإخوان المسلمين المدعومين من مشايخ القبائل، كان بعض الفلاحين يزودوننا بالمعلومات والطعام. قاتلنا بشراسة وحين اشتد الصراع في المناطق الوسطى من البلاد، أثناء حكومة القاضي عبد الله الحجري، زرعنا الألغام للسيطرة على الأرض. كنا نباغتهم من حيث لا يعلمون، وكبدنا السلطة خسائر كثيرة. كانت هناك طلائع كثيرة من الشباب المغرر بهم من قبل السلطة التي تزج بهم في المعارك. كانوا يقاتلوننا دون معرفة بقتال العصابات، ويعتقدون أنهم يقاتلون في سبيل الله. كنا نرثي لحالهم وجثثهم ملقاة في العراء. أما الآن فكما ترى أنا هنا في القرية، بعد أن هدأت المواجهات وتراجع النشاط المسلح لفصائل اليسار، في فترة الرئيس إبراهيم الحمدي. تزوجت وفضلت أن أعيش حياة يكتنفها الحب، بدلا عن تلك الحياة التي كان يطغى عليها الكراهية. لدي الآن ثلاثة أطفال. المضحك أن أسماءنا ما زالت تنزل في كشوفات الرواتب، لا ندري من يستلمها.
ثم راح يهمس إلى المقاول: زربة هذا أراه طيبا وأخشى أن يخفي أمرا ما، فالطيبة هذه كنا نشاهدها في وجوه الفلاحين، الذين كانوا يعملون جواسيس معنا، أراه غير مهتم بمصلحة البلاد، يرى الصراع على السلطة صراع مصالح لا غير. يقول إنه صديق محمد مدهش المنتسب لحزب البعث ، الذين انضموا إلى اليمين المنتصر؛ ليحظوا بنصيبهم من السلطة.
ضحك عبد العزيز وقال: هذا هو زربة، يرى جنته في الدنيا: قات، لحم، حلاوة، مداعة. لا يهمه من يحكم الوطن، يحلم أن يتزوج الأرامل اللاتي لديهن أطفال. يقول «إنه يعمل خيرا معهن ومع أولادهن». وأنت تعرف أننا في حالة حروب مستمرة في البلاد.
استمر زربة يعمل في مناطق عدة من الحجرية مع المقاول عبد العزيز، يتنقلون من منطقة إلى أخرى: بني حماد، قدس، ... حين كان يعمل في منطقة بني يوسف، عرف أن اللص عبادة، قد سرق خيل الشيخ طربوش، وذهب به إلى سوق الثلاثاء ليبيعه. شاهده بعض الناس وكانوا يظنون أنه عبد الشيخ طربوش. وفي السوق عرف البعض أن الخيل يخص الشيخ والعبد ليس عبد الشيخ. وحاولوا الإمساك به لكنه هرب من بين أيديهم.
7
عاد زربة والحطاب إلى القرية في بداية موسم الزراعة، واشترى أثناء العودة عشر حزم قات وعشرة كيلو حلاوة. فاجأهم المطر الغزير وهم في منطقة الزبيرة، فجلسا في جرف صغير على جانب الطريق يمضغان القات ويشاهدان هطول المطر الغزير. شاهد زربة الحطاب وهو يتزحزح من مكانه قليلا إلى الأعلى، ثم أخذ يسعل بقوة، فضربه على ظهره؛ ليخرج رذاذ القات العالق في قصبته الهوائية. قال الحطاب بعد أن توقف عن السعال وقد فتح عينيه على اتساعهما: تخيلت يا زربة، سيل الوادي طلع وأغرقنا. - مش
27
أنا قلت لك تشتري قات شراري؟ واشتريت قات جدة، قشش بك،
28
اليوم شيشلك
29
السيل في الوادي، مثل الحطب يا حطاب ههههه.
توقف المطر بعد العصر، ثم مشيا نحو الوادي، وتفاجآ بتدفق سيل وادي شوكة الجارف، ولم يستطيعا أن يعبرا الوادي. بقيا ساعتين ينتظران توقف السيل، لكن زربة كان مستعجلا؛ لمضغ القات والسمرة مع الأهل، فقرر عبور الوادي إلى الضفة الأخرى بعد أن خف السيل قليلا. قبض بيده اليمنى على قاته والحلاوة، وبيده اليسرى على يد سالم الحطاب ومشيا إلى منتصف الوادي بخفة. وبسبب وقوف سالم لحظة في مجرى السيل وهو يرتجف من الخوف، حفر تيار الماء تحت قدميه وانقلب الاثنان معا وجرفهما السيل. كانت يد زربة اليمنى تقبض بشدة على شال القات، أما الحلاوة فقد جرفها السيل. تسرب الماء إلى فم سالم الحطاب، لكن زربة كان فمه مغلقا؛ حتى لا يتغير طعم القات وتذهب نشوته؛ ولكي ينقذ قاته ونفسه من الهلاك، قرر أن يترك سالم واجتاز الوادي إلى أن وصل إلى الضفة الأخرى، لكنه عاد مسرعا لينقذ سالم الحطاب. وضع يده على راسه خوفا حين شاهد جذع شجرة كبيرة يمر بجوار الحطاب، كاد أن يسحقه وهو متشبث بصخرة كبيرة يقاوم الموت، وظهره في اتجاه السيل. اتجه زربة يقفز نحوه من صخرة إلى صخرة، وكاد أن يسقط بعد أن انزلقت قدمه من على صخرة تحته. وصل إلى سالم وقبض على يده، وهو مستسلم للقدر. سحبه من بين أنياب الموت وحمله بين يديه، وجرى به مثل طفل صغير إلى الضفة الأخرى حيث ترك قاته. أصيب سالم الحطاب بضربة قوية في ركبته وقدمه اليمنى، فلم يستطع الوقوف على قدميه. جلس الاثنان مبلولين يرتجفان من البرد، يحمدان الله على نجاتهما. قال زربة: يا صاحبي ما عاد فيش طعم للقات، خلينا
30
نخزن
31
ونستعد على طلوع الجبل، واحملك على ظهري.
جلس زربة يمسح الأتربة عن الأوراق ويمضغها، ثم راحا يفتشان عن نقودهما ويجففانها. وبعد نصف ساعة حمل زربة صاحبه على ظهره، ومن حسن حظه أن الحطاب كان خفيفا، فانطلق يصعد به طريقا وعرا نحو قريتهما. مرا على قرى عدة صادفا فيها الكثير من الأهالي، سألوا زربة إن كان بحاجة إلى مساعدة، فقال لهم: الحطاب وزنه مثل حزمة حطب شحمله لما الراهدة. وهي مدينة تبعد ست ساعات مشيا من قريته.
8
وصل زربة إلى القرية التاسعة ليلا والحطاب على ظهره. حين شاهدت مريم زوجها على ظهر زربة صاحت وأجهشت بالبكاء، لم تهدأ إلا حين سمعت سالم يتحدث: ما فيش بي حاجة يا مكلف.
32
زربة أنقذني من السيل. كنت شموت.
تناقل أهل القرية عودة زربة وهو يحمل الحطاب على ظهره، فأقبلوا إلى دار الحطاب أولا ليروا ما جرى له، وجدوه يرتجف من البرد تحت البطانية، ثم ذهبوا إلى زربة ليسهروا معه. وجدوا القات على أرضية الغرفة في منظر أبهجهم، بعد أن نظفه من الأتربة العالقة فيه. أخبرهم زربة ما حدث لهما مع السيل، فضحكوا وهو يصف لهم ذلك المشهد، فحمدوا الله على نجاتهما. جلسوا يمضغون القات، ويتحدثون فيما بينهم، ثم راحوا ينصتون لحديث منصور النحال عن الكابوس الذي أرعبه الليلة الماضية لم يمضغ فيها القات. رأى في منامه أنه كان يمشي في جبل عصران وحيدا، فظهر له فجأة رجل عملاق، وقبض على رقبته. حاول منصور أن يفلت منه فلم يقدر فاستنجد، لكن صوته لم يخرج من فمه، قذف به العملاق من قمة الجبل، وظل يهوي في الجو وقبل أن يرتطم على الأرض قام من نومه يلهث وهو يرتجف من الفزع.
ضحك الوطواط وقال: حقك الدكاك
33
بسيط. ثم حدثهم عما جرى له ذات يوم لم يمضغ فيه القات: قلت شرتاح من القات، وفي الليل حلمت، أن رأسي صار رأس كلب، كنت اشتي أنبح وما قدرتش.
34
حسيت بضيق في صدري وأنا أدور
35
عن إنسان أجدمه،
36
حصلت مكلف
37
وجدمتها في الرجل. ما فلتش
38
لرجلها إلا بعد أن حسيت بالضرب على رأسي وأنا أجدم رجل زوجتي «دولة» وقمت من النوم.
الأمر الذي أضحكهم أكثر، هو حين حكى لهم المداح عما جرى له ذات يوم لم يمضغ فيها القات. قال: كان ما فيش معي فلوس أشتري القات. بقيت ثلاث ليالي أدكك. في ليلة حلمت أن رجلا طوييييييل يجري بعدي وعرططني.
39
كنت أشوف أصبعه طوييييلة ساع حق الحمار هههههه. كنت خائفا أصيح مثل الأعجم ... كان يشتي
40
يدخل أصبعه في جحوتي،
41
وأنا أضغط بقوة على جحوتي. قمت الصباح وأنا أشعر بوجع قوي في جحوتي هههههه.
منذ تلك الليلة أصبح المداح يعاني من البواسير، وكان يهرب من النوم مع زوجته زهرة متذرعا بمعاناته.
9
في الصباح أقبلت مريم زوجة الحطاب بقشوة
42
سمن ساخنة لزربة، تقدر بنصف لتر، وجدته يرتعش من البرد والحمى، ويشكو من مفاصله. تناولها منها وشرب نصفها. حين وجدته على هذه الحالة من المرض عادت إلى بيتها وأحضرت تيسا صغيرا. قام زربة من فراشه وهو يرتجف من البرد، يمسح على ظهر التيس كما يمسح الذئب، ذبحه وعاد إلى فراشه. قال لزوجته: اطبخي الدواء حقي. طبخت صفية التيس وقدمت له النصف. شرب المرق وشعر بالدفء، والتهم نصف قطعة كبيرة من حلاوة، ثم جلس يمضغ القات حتى الظهيرة.
هكذا كان زربة يقاوم المرض بالقات واللحم والحلاوة والمداعة. شعاره في الحياة «القات واللحمة حياتي والمداعة راحتي». استيقظ قبل الفجر يتحسس زوجته، فعرف أنها ذهبت تجلب الماء من وادي الرجيمة، مع نساء القرية. يبعد الوادي عن القرية أربع ساعات ذهابا وإيابا؛ خوفا من السباع يذهبن معا بعد منتصف الليل، ويعدن قبل طلوع الشمس. هكذا تبقى المرأة في الريف تعمل منذ الفجر حتى العشاء كالنحل، لا يرتحن إلا أثناء النوم.
عادت صفية من الوادي فأفرغت نصف الماء لبقرتها، والنصف الآخر ليغتسل به زربة، وذهبت تعد وجبة الإفطار من الخبز والبيض. حينما ذهبت لتحضر البيض الذي أحضرته مريم، لم تجد إلا القشور. عرفت أن زربة قد شربهن دفعة واحدة، خمس عشرة بيضة؛ ليعالج نفسه من البرد حسب زعمه. لم تندهش، فهي تعرف أنه أكل نصف تيس اليوم الماضي، وتذكرت حين أكل اثنين كيلو ونصف من الحلاوة مرة واحدة، وذات يوم التهم سبع علب أناناس، ومضغ عشر حزم كبيرة من القات حين وصل ليلا هو ووالده يحملان القات ليبيعاه يوم عيد الأضحى. أشرقت الشمس وقد أتيا على معظمه، لم يبق منه إلا كمية قليلة ليوم العيد، وتذكرت ذات يوم أنه ازدرد نصف كيلو حلاوة أثناء مضغه للقات وهو يقول: ربي خلق جهتين للفم؛ جهة للقات وجهة للحلاوة ههههه.
10
اجتمعت نساء القرية في دار سالم الحطاب بعد الظهر، يمضغن القات ويدخن المداعة. تحدثن بأمور نسائية شتى وحول زربة وقوته وشجاعته، وكيف استطاع حمل الحطاب على ظهره كل هذه المسافة، وصعد جبلا يقدر ارتفاعه بأكثر من اثنين كيلو. سلمى بنت عثمان التي كانت تحلم بزربة زوجا لها، لم تسمع حديثهن وضحكاتهن. كانت تحلق بعيدا مع زربة وهي تقفز من النافذة والتقفها بيديه والجو يكسوه الضباب. حملها على ظهره كما حمل الحطاب، وصعد بها قمة الجبل المطل على القرية. أحست بزربة تحتها يتصبب عرقا وشعرت بسخونته وارتفعت حرارتهما معا واشتعلت النيران في جسديهما. وراحا يضحكان على تلك النار التي كانت بردا وسلاما عليهما وهما يحسان بالأرض تهتز تحتهما. كانت أحلام اليقظة تراودها حين تسمع شيئا عن زربة.
مرض سالم الحطاب بالحمى، أخذت زوجته مريم ثلاث خيوط طويلة. قبض الحطاب بيده على الخيوط لمدة خمس دقائق ثم هرولت إلى طرف القرية. جلست هناك تنتظر هبوب الرياح لترمي بالخيوط. هكذا كان أهل القرية يعتقدون أن هذه الطريقة تشفي المريض من الحمى، إذا أخذ الريح الخيوط بعيدا ستذهب الحمى عن المريض. لكن حظ مريم كان سيئا فلم تهب الرياح، وبقي زوجها أسبوعا يعاني من الحمى.
ماتت «فنون» الزوجة الثانية لعاقل القرية، بعد معاناة طويلة من ألم في الرأس، كان هذا بعد مضي ثلاث سنوات من موت زوجته الأولى لول؛ بسبب ورم في الأحشاء. أمطرت السماء بغزارة بعد دفنها واستبشر الأهالي لها بالرحمة، وراحوا يتذكرون سنة موت سعد محمد من قرية نجاد، حين توقف المطر عن الهطول طوال الموسم بعد دفنه، فظنوا أنهم لم يضعوه في اتجاه القبلة؛ فالسماء لن تمطر وهو مستلق على ظهره ووجهه نحو السماء، فذهبوا ينبشون قبره بعد أربعة أشهر من دفنه. لم يجدوه كما كانوا يظنون، وجدوا هيكله على هيئة جلوس والكفن مطويا بشكل كرة على رأسه، مما يدل على أنه كان حين دفنوه في حالة غيبوبة، وحين صحا منها حاول رفع أحجار القبر. زعم بعض الأهالي المجاورين من المقبرة، أنهم سمعوا صياحا داخل قبر سعد بعد دفنه، وظنوا أن الملائكة تعذبه، فقد كان يغير حدود حقول جيرانه لصالحه. أما الجدة بهجة أم عبده راجح، كانت تصحو في منتصف الليل أحيانا، وتدعو ربها أن يعيد ابنها الوحيد عبده راجح الغائب عنها منذ عشرين عاما. قالت إنها شاهدت في منتصف الليل سلسلة حديد حمراء مثل الجمر، تنزل من السماء فوق المقبرة بعد دفن سعد محمد.
أقيم لزوجة العاقل عزاء لمدة ثلاثة أيام، وذبح الجزار مقبل الدسم بقرة، بعد أن تأكدت نعم جدة زربة أنها لا تحمل حملا في بطنها. حضر الكثير من سكان القرى المجاورة، بعد أن سمعوا التهليل في ذكر الله ليلا. أكلوا اللحم والقات ودخنوا المداعة كأنه مولد للولي ابن علوان.
11
تذكر زربة ما حدث قبل خمس سنوات، وقتها لم تمطر السماء إلا بعد أن طلع الأهالي قمة جبل شوكة يستمطرون ويتضرعون بالدعاء إلى الله، ينشدون معا:
يا تواب تب علينا
سامحنا عما جنينا
وارحمنا وانظر إلينا
واسقنا الغيث يا ألله
وكان معهم الدجال عبده الواسع، يفتش عن «رسمة» وهي ورقة سحرية لمنع المطر، توضع تلك الورقة في علبة رصاصة فارغة، وتغلق بإحكام ثم ترمى في أعلى قمة في المنطقة. وقد اتضح بعد زمن بأنه هو الذي كان يقوم بفعل ذلك ليحصل على المال. كان يدعي أنه يوحد القلوب ويفرقها ويجلب الرزق للمرء، فإذا أراد شخص أن يفتح دكانا يكتب له ورقة سحرية يضعها في باب الدكان، وإذا أراد أحد أن يطرد شخصا من القرية، يعمل له ورقة ويخبره أن يضعها في الباب الخارج لدار خصمه. يدعي أن الجن يساعدونه في عمله وهذا ما جعل الناس تخشاه.
شاهد زربة حقوله وقد اعتنت بها صفية قبل الحرث، ذهب يراقب المحراث فوجده بحاجة إلى شحذ، أخذه إلى عند الحداد في سوق الصافح لشحذه. خرج أهل القرية بأثوارهم وأبقارهم لحرث الأرض قبل شروق الشمس، حمل زربة محراثه على ظهره وخرج إلى حقوله البعيدة وزوجته خلفه تحمل البذور، وتبعهما والده وهو يهجل:
وا صباح اللي تبكر
سالية
43
ما هي ضجر
قبل أن يبدأ زربة بجر المحراث على ظهره، التهم نصف كيلو حلاوة، ثم ثبت المحراث جيدا على كتفيه، وأخذ يجره بخفة ووالده يقبض بعصا المحراث، وزوجته ترمي البذور خلفهما. كان زربة يجر المحراث وهو ينظر أحيانا إلى حسن ابنة سعيد فارع، أجمل فتاة في القرية، كانت تحرث بالقرب منهم فوق بقرتهم وأمها خلفها ترمي البذور. ظل زربة وأبوه يتنقلان من حقل إلى حقل بخفة حتى التاسعة صباحا. جلسوا يأخذون قسطا من الراحة لمدة نصف ساعة لمضغ القات. كان يشاهد حسن وهي تحرث بعمل متقن كالرجال. مروا على قرية ذارع التي في الجبل المقابل لقريتهم، وهي خاوية على عروشها، سخروا من أهلها الذين تركوا حقولهم وتفرقوا في المدن والقرى، على الرغم من أن القرية كانت أكبر قرية في المنطقة. تلك السخرية انتقلت فيما بعد إلى قرية القرن، وقرى أخرى كثيرة في المنطقة. عاد زربة وأبوه وزوجته ظهرا إلى البيت؛ لتناول الغداء وأخذوا قسطا من الراحة لمضغ القات حتى الثانية ظهرا، ثم خرجوا مرة أخرى إلى الحقول القريبة. شاهد زربة سالم الحطاب وهو يحرث على ثوره وخلفه زوجته ترمي البذور، وكذلك شاهد عمته سعيدة تحرث على بقرتها وبنتها ترمي البذار خلفها. وسمع الحطاب وهو يدندن:
راعي الغنم رد الغنم ل الأشراف
ليت المحبة تغترف بالأكراف
44
ضحك زربة وقال لزوجة الحطاب: وا مريم زوجك عاده
45
يحب، كان يشتي
46
يزوج في شرار. أثناء ذلك مر شماس المطين بجوارهم، فأكد كلام زربة. مزحتهما تلك أدت إلى ذهاب مريم إلى بيت أبيها غاضبة، فذهب زربة إلى دار أبيها يسترضيها أن تسامح مزحته. وسرد لها قصة شراء السروال من قبل النساء اللاتي كن يعملن معهم في البناء في منطقة شرار. ضحكت مريم، وكان هذا بدء التصالح مع زوجها.
12
كانت السماء تمطر كل يوم، والحقول تنضح ماءها من حقل إلى حقل، والجداول تنهمر شلالات من الجبال، وهدير سيل شوكة يدوي في الوادي، اكتست الجبال والمراعي بحلة خضراء. والعصافير تلتقط حشرات الشظوية التي تخرج من بيوتها تحت الأرض بعد المطر، وكثير من سكان القرى يحبون أكلها مقلية. والراعية العجوز حسناء تعود باكرا من المرعى الوحيد في القرية. بدأت النساء المرحلة الأولى من العناية بالزرع وهي «الفقح». يبقين الأفضل منه وينزعن الآخر لأبقارهن . هي فطرة لدى الفلاح كاختياره لأفضل الحبوب بذورا للسنة المقبلة، وهو لا يعرف الانتخاب الطبيعي، البقاء للأفضل، تلك النظرية التي عرفها الفلاح قبل أن يعرفها دارون وماندل.
كان زربة يقوم ببناء غرفة لسعيد حيدر مقابل حزمة من القات ودجاجة لغدائه، أو بيضا لعشائه. حين انتهى من البناء كانت فرحة سعيد كبيرة، لولا تلك الصخرة التي انزلقت من الجبل أثناء المطر، ودكت في طريقها عشرة جدران من حقوله، أخذ سعيد يندب حظه ويلوم نفسه على سخريته من المطر، حين كان ذات يوم يشاهد مزنا يصب ماءه أسفل جبل قريتهم وظل يمطر هناك، حينها وصف سعيد المطر بالعاجز على صعود الجبل. اجتمع أهل القرية وأعادوا بناء ما دكته الصخرة. هكذا كان أهل القرى يعيدون بناء ما يهدمه المطر من الحقول أولا بأول ويستصلحون حقولا جديدة.
استغل الوطواط وجود زربة في القرية وتوفر المياه، فدعاه هو وبعض الأهالي لمساعدته في بناء غرفتين فوق سطح بيته. كان القات الذي يوزعه لا يكفي زربة، وكذلك لحم الدجاج، فكان زربة يعوض نفسه بالحلاوة. الشيء الذي لم يعجب زربة هو أن ناجي المقشش، كان ينقل الحجارة ويدندن:
خلوني
47
أسرح مع أخضر اللون
خلوا التتن
48
والقات لغيرة اليوم
رد زربة عليه:
يلعن أبو الخيبة، يلعن أبو أهله
يلعن أبو القاضي لما عقد له
ولأن الوطواط يتسلى بالفتن، ذهب يقول خلسة للمقشش أثناء العمل: تسمع مو
49
يقول عليك زربة؟
غضب ناجي المقشش ولم يعد ينقل الحجارة إلى زربة، وذهب إلى بيته، فتوقف العمل يوما كاملا. حينما سمع قاسم بهذه الحادثة، صعد سقف داره في المساء يدندن:
ألا، ليه، ليه، ليه
يا صاحب الفتنة أوقد نارك
أوصلت هذي النار لعقر دارك
بدأ الموسم الدراسي وذهب فتيان القرية إلى المدرسة، وكذلك أبناء زربة: نصرة وجميلة ونجيب. تلك المدرسة التي درس هو فيها إلى صف أول ثانوي. كان أبوه يشجعه على تناول القات في صغره، كغيره من الآباء الذين يرون أن القات يشكل الرجولة باكرا في الفتيان، فاعتاد زربة على المزيد من القات، ولم يجد طلبه إلا بالكسب من العمل؛ فترك الدراسة.
13
التهب حلق ابنته نصرة وذهب بها إلى الجدة نعيم، قامت بفحص اللوزتين فوجدت الوقت غير مناسب لإزالتها، وأخبرته أن يعود بعد يومين، فهي ماهرة في نزع اللوز بظفرها، تغسل يدها بالماء المالح جيدا قبل أن تقوم بعملها، ثم تنصح الأطفال بالغرغرة بالماء المالح و«شب الفؤاد» ملح الأمونيا القابض للأوعية الدموية. كانت تقدم تلك الخدمة مجانا، كمريم زوجة سالم الحطاب، تقوم بخلع الأسنان اللبنية للأطفال وكذا تخلع الضروس للكبار حين تؤلمهم، ثم تضع الملح مكان الضرس المخلوع. كان لديها أداة قلع الأسنان حصلت عليها من عاقل القرية، وكان هو يوفر محاليل المجارحة للقرية.
بدأت المرحلة الثانية من مراحل العناية بالزرع، وهي «النقوة» التي يتم فيها تقليب التربة بالمحافر اليدوية ليشرب الزرع أثناء المطر، يقوم بها الرجال فقط، ومن كان لديه حقول كثيرة يستأجر العمال للقيام بهذه بالمهمة. ذهب زربة والوطواط وعشرة فلاحين للعمل في أرض الجزار مقبل الدسم. اصطف الفلاحون في الحقل صفا واحدا جنبا إلى جنب، وهم منحنون وفي أيديهم المحاريث يقلبون التربة حول الزرع لشرب الزرع بسهولة، يشدون عزمهم بالمهاجل الشعبية بصوت موحد. لا يقفون عن العمل إلا في نهاية الحقل، فكان الوطواط يتعمد البقاء بجوار زربة، ليساعده بحفر ما يترك له من الحرث. وقفوا ظهرا يتناولون وجبة غداء دسمة ثم أخذوا استراحة لمضغ القات، وعادوا للعمل والسحب تتراكم في السماء وبعد فترة قصيرة بدأ رذاذ المطر بالهطول عليهم، فوقف الوطواط عن العمل ووقف إلى جانبه بعض العمال. اعترض مقبل على وقوفهم فالمطر ليس غزيرا. كان زربة يضحك ويقول لنفسه: «أينما وجد الوطواط وجدت الفتنة». استمر العمل رغم تبرم الوطواط حتى الخامسة مساء.
كان زربة يقضي سهرته أحيانا في بيت المداح المتواضع، تبعد قليلا عن بيته بجوار الطريق العام. يحب السهر مع المداح لطيبته وظرفه، على الرغم من تجاوزه الخامسة والستين من العمر؛ لهذا كان زربة يشتري القات لهما الاثنين أحيانا . كان يمازحه بسؤاله عن سعر الرطل المعجون (مقو جنسي) فزوجة المداح الأخيرة زهرة ما زالت في ريعان الشباب، بيضاء، جميلة، تصغره بأربعين عاما، أنجبت له ست بنات وولدا واحدا، ولولا يدها المبتورة ما كانت ستقبل به. أما زوجته الأولى وردة أنجبت له ستة من الأولاد وبنتا. هي امرأة سمراء نحيفة من لا يعرفها يظنها من المهمشين. كانت نجاة تفتخر أنها أم الرجال، وضرتها زهرة أم البنات. ذات يوم سمع زربة وردة وهي تغني أمام زهرة:
أم الرجال ما عليها من هم
أما البنات يجلبين لنا الهم
ردت عليها زهرة بغنج:
من يشتي العشق عشق بياضي
وإن مات شهيد الله عليه راضي
كان المداح يشجع زهرة على وردة التي أحيانا تلعنهما معا، وتستقوي بأولادها. ذات يوم قرأ المداح مستقبل زربة من خلال كتابه، وأخبره أنه سوف يتزوج خمس نساء، لم يصدقه زربة حينها وراح يضحك من كلامه. كان للمداح عمل خفي لا يعلمه أهل القرية، وهو إعداد الطعام لأفراد الجبهة الوطنية، الذين يمرون أحيانا بعد منتصف الليل بجوار بيته، يحضرون معهم تيسا ليطبخه وقد كمموا فمه برباط. كان يكلف زوجته وردة بالقيام بذلك ولا يسمح لزهرة بالظهور أمامهم.
14
بدأت المرحلة الثالثة من العناية بالزرع قبل ظهور السنابل وهي «الجلب». أخذ زربة يجر المحراث على ظهره، بينما كانت زوجته صفية تمسك بعصا المحراث. راءهما الوطواط فأقبل إليهما وتحدى زربة بجر المحراث إذا حرث هو عليه. قبل زربة التحدي وأخذ الوطواط يغرس المحراث بقوة في التربة فزاد زربة من سرعته بالتقدم للأمام وهو يقول: أقدر أجرك أنت والمحراث. وقف الوطواط فوق المحراث وصفية تمسك بعصا المحراث. حضر عبده راجح وكان الوطواط يقف على المحراث وزربة يجره بسهولة. ضحك وقال لصفية: والله، يا صفية معك ثور، ما شاء الله. مثل الحراثات التي رأيتها في الحبشة.
كان عبده راجح جنديا مع إيطاليا، في الحبشة لمدة عشرين عاما، حارب معها في الحرب العالمية الثانية، تقول أمه بهجة إن ليلة القدر ظهرت لها، ودعت حينها أن يعود ابنها من غربته، ولكنها لم تنس أن تقرأ مولدا للولي أحمد بن علوان. فقد استنجدت به مرارا أن يعيد ابنها كالأهالي الذين يطلبون قضاء مطالبهم من الأولياء، ويقدمون لأضرحتهم النذور: سمنا وبيضا وموالد أحيانا.
أقبل عيد الأضحى وكانت الفرحة فرحتين فرحتهم بجمع غلال حصادهم وفرحة العيد. دعا العاقل أهل القرية لحضور عرس ابنه عادل من زعفران ابنة خاله على محمد التي كانت تكبره بسنتين. أحضر العاقل الأخدام (المهمشين) من قرية الهجر، كان الرجال يقومون بضرب الطبول والنساء بالدفوف. أحضرت العروس وجلست بجوار عريسها في الديوان بين الحاضرين من أهالي القرية رجالا ونساء يمضغون القات ويدخنون المداعة. بدأت خادمتان بضرب دفيهما فقام والد زربة يرقص برفقة زوجة سعيد عبده، رقصة تسمى «زبيرية». رقصا معا حتى قام ناجي المقشش يرقص مع علوم زوجة عبد القوي. ظل كل رجل وامرأة يرقصان معا، حتى ذهب العريس مع عروسه إلى خلوتهما ليلا. مثل هذه العادات لم يعد لها وجود بسبب الفكر المتطرف الذي يمنع الاختلاط. حين حضرت والدة العروسة اليوم الثالث إلى بيت العريس للضيافة، عرفت أن ابنتها فاطمة ما زالت عذراء لأن عادل كان مجبرا على الزواج بابنة خاله، فلم ينم بجانبها حتى يوم الضيافة ثم أجبر بعد ذلك.
ذات يوم كان زربة عائدا إلى البيت من قرية نجاد وهو يحمل القات، واثنين كيلو حلاوة اشتراها من دكان مقبل الذي فتحه أخيرا بجوار الطاحون الذي اشتراه من عدن. نقل الطاحون من عدن على سيارة عبر الوادي إلى منطقة قريبة من الجبل حيث تقع قرية نجاد على قمته. ثم حمله عشرة رجال صاعدين به الجبل في طريق وعر. كان زربة خلال الطريق يلتهم الحلاوة، ولما وصل إلى باب داره لم يتبق منها إلا قطعة صغيرة لا تكفي لأولاده فأكلها. كانت زوجته تخفي الحلاوة أحيانا في مكان خفي، وحين تذهب لتأخذ منها لأولادها لا تجد منها شيئا والنمل يحوم حول المكان، فيضحك معها ويزعم بأن النمل أكلها، ويندب حظه كيف أن الحشرات أكلت أربعة كيلو حلاوة خلال أسبوع، لكن زوجته عرفت أنه كان يقوم ليلا ليأكلها.
15
عاد زربة إلى صنعاء وقد حملت صفية بطفل جديد، أسماه منير وهو في بطن أمه، وتراكمت الديون عليه للجزار مقبل وابنه حسن قيمة اللحم والقات والحلاوة. في يوم اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، كان في حي القاع مع الوطواط، في دكان ثابت ناجي وكان حاضرا معهم محمد مدهش وسعيد النجار. بمجرد أن سمع الوطواط بمقتل الحمدي، سافر خوفا من وقوع حرب في صنعاء، فيكفيه ما شاهده في أحداث أغسطس (1968م). تلك الأحداث الدامية التي شكلت عنده عقدة نفسية.
تحدث زربة مع محمد مدهش عن لقائه صدفة بجمال عمر الحكيمي، أحد الجنود الذين كانوا تحت إمرته، خلال حصار صنعاء. قال محمد بأسف بالغ: أعرفه، لقد دافعنا معا عن الثورة. ثم ذهب الاثنان واشتريا قارورة شراب. أثناء تناولها أخبره محمد مدهش أنه عضو في التنظيم السري للجبهة الوطنية.
بينما كان مدهش يسرد ماضيه، كان زربة يتناول الكئوس واحدا تلو الآخر، فشرب معظم الشراب. هكذا طبع زربة حين يكون أمامه القات أو لحمة أو حلاوة، يذهب إلى الحديث مع الشخص بالضحك والفكاهة، دون أن يتوقف عن التهام ما هو أمامه من متعة، غير مكترث بأي حديث يسمعه وخاصة الصراع على السلطة، الذي ينقل الإنسان إلى حياة الغابة. رجل لا يعرف الكره، حتى جاره عبد الرحمن في القرية كان لا يكرهه، وهو يؤذيه دائما على نصف متر من الأرض تقع بينهما. له فلسفته الخاصة في الحياة، يرى أن على المرء التمتع في كل لحظة هو فيها، وأن الكره طريق يؤدي إلى جهنم ويفسد متعة الحياة. كان يشعر بالأسى على أرامل الشهداء، اللاتي يزددن على الدوام. يفكر أن يتزوج منهن سرا؛ لأنه لا يريد أن يجرح مشاعر زوجته صفية. جلس ذات مساء يمضغ القات وحيدا، وعقله يحلق بعيدا، دخل عليه صديقه ثابت ناجي، ولم يكن يمضغ القات ذلك اليوم. قال زربة وهو يحك رأسه: يا ناجي، القات اليوم خلاني
50
رئيس الجمهورية، أبعدت المشايخ من الحكومة، وسجنتهم وطورت البلاد ... بكرة
51
شنشتري نفس القات، ونحكم العالم من هذا الدكان ههههه.
نام ثابت ناجي تلك الليلة عنده في الدكان، وفي منتصف الليل كاد يموت من كابوس مرعب شل تنفسه، لو لم يوقظه زربة.
16
شيع جنازة الحمدي عشرات الآلاف من الناس، لكن زربة لم يخرج معهم صباحا وبقي في دكانه بعد الظهر يمضغ قاته، فهو يرى أن الساعين إلى السلطة يمضون إلى حتفهم. وبينما هو غارق في أحلامه الوردية رغم الأحداث، عاد محمد مدهش حافيا من تشييع الجنازة فوصف هيبة الجنازة وشبهها بجنازة الرئيس جمال عبد الناصر، وأنه رمى بحذائه الجديد مع الذين رموا بأحذيتهم، على المتهم بقتل الحمدي.
ذات مساء وهما يستمعان إلى الراديو، وقارورة الشراب أمامهما، سمعا أن ثلاثة جنود سقطوا شهداء في منطقة التربة من محافظة تعز، وهم يتتبعون القائد عبد الله عبد العالم، عضو مجلس قيادة الثورة، بعد فراره ببعض جنوده إلى قريته وتحصنه بها، بعد تولي كرسي الرئاسة أحمد الغشمي. قال زربة وهما يشربان الخمر: شهداء، شهداء ... يا أخي كيف هذا الخبر؟ الجندي يقاتل أخوه لما يموت يسموه شهيد. تقول كلامي صحيح وإلا أنا سكراااااااان؟ - لا، أنت مش
52
سكران. هم السكارى. - أقول لك ما فيش حاجة اسمها شهييييد، في حاجة اسمها بطل عظيم، ضحى من أجل الغير، يعتنوا بأهله وأطفاله، ويكتبوا اسمه في التاريخ.
حينها قال مدهش مندهشا: من أين أتيت بهذه الفلسفة يا زربة؟! الخمر لعبت بعقلك، كيف تنكر كلمة شهيد نحن مسلمون يا زربة. لا يجوز أن تنكر كلمة شهيد. يمكن تقول إن السياسيين استغلوا هذا المبدأ لصالحهم، وضحى الآخرون لأجلهم، وهم يظنون أن تضحيتهم في سبيل الله. لا، يا زربة كيف سنقاتل أعداء الوطن بغير هذه المبدأ. - أنا لما أسكر تجي
53
لي أفكار ما نش داري
54
من أين تجي لي. أضنني صدقت الاشتراكيين.
ذات مساء جلس مدهش يتحدث بإسهاب مع زربة عن السياسة واغتيال الحمدي، وكان يظن أن زربة يستمع إليه، لكن زربة كان في عالم القات. يرى نفسه قد تزوج امرأة صنعانية، والناس حوله تزفه وهو يجلس على كرسي في الشارع يحمل على كتفه سيفا ذهبي اللون ويتحزم بجنبية ومسدس، وحين دخل على زوجته بعدته وقد شغفه اللقاء، سمع مدهش يقول: أين عقلك يا زربة!
انتبه زربة إليه وهو يبتسم مما كان يحلم به في يقظته.
17
قتل الرئيس أحمد الغشمي بعد بضعة أشهر من توليه الرئاسة، ثم ترأس بعده علي عبد الله صالح فارتفعت الأجرة اليومية لعامل البناء إلى عشرين ريالا وشعر البعض أن الاستقرار السياسي قادم. لكن ما حدث هو العكس؛ ففي منتصف ليلة الخامس عشر من أكتوبر (1978م)، سمع زربة وهو في دكانه طلقات نارية كثيفة في بعض أحياء صنعاء، استمرت حتى آخر الليل، عرف أن تلك الاشتباكات من أجل السلطة وفي مساء اليوم الثاني عرف أن انقلابا وقف وراءه التنظيم الناصري وأعدم قادته فيما بعد.
استمر زربة يعمل في صنعاء، فحركة التطور العمراني والنشاط التجاري فيها كانت نشيطة، وتهافت الكثيرون من سكان الأرياف إليها، فتوسعت المدينة بشكل غير متوقع، على الرغم من عودة نشاط الجبهة الوطنية إلى ما كانت عليه قبل فترة رئاسة إبراهيم الحمدي. ذات يوم قابل محمد مدهش زربة وكان غاضبا، بعد ارتفاع سعر قارورة الخمر إلى أربعة أضعاف عن سعرها السابق، فراح يشتم الإخوان المسلمين في اليمن، بعد أن شددوا على تداول الخمر. جلس يحدث زربة عن حرب محتملة بين شمال الوطن وجنوبه. قال: النظام السياسي في الجنوب يستعد للحرب ضد النظام هنا؛ لمساعدتنا في التسريع بإسقاطه.
اشتعلت الحرب بعد ذلك في الثالث والعشرين من فبراير (1979م) وتكبد جيش الشمال هزيمة كبرى، وازداد نشاط الجبهة الوطنية فتدخلت القبيلة ودعت إلى الجهاد واشتركوا في الحرب ضد الجبهة. في تلك الفترة والحرب مشتعلة في المناطق الوسطى من البلاد، لم يعد زربة يشاهد محمد مدهش، اختفى فاعتقد أن الأمن قبض عليه بذريعة مكافحة عناصر الجبهة وجواسيسها، حتى إن الأمن قبض على قاسم عم زربة في صنعاء، حين شكوا به عند جلوسه يتبول ليلا بجوار سجن الرادع في التحرير ، فذهب زربة إلى قسم شرطة جمال جميل وأخرج عمه بكفالة تاجر معروف ...
18
ذات يوم تفاجأ زربة برجل يقف بجانبه، لحيته طويلة، يلبس ثوبا أبيض اللون ومعطفا وعلى رأسه شال. في البداية لم يعرفه وكان ذلك الرجل هو محمد مدهش، اليساري المتطرف. ضحك زربة وقال: أيش جننت، مو هذي اللحية؟! أحسبك
55
في سجن الأمن الوطني ... ههههه.
فقد كان من السائد عند الأهالي في منطقة الحجرية، أن أي شخص يطلق لحيته فجأة يظنون أنه أصيب بحالة نفسية أو بالجنون، ففي تلك الفترة كانت هذه المنطقة مناهضة لحركة الإخوان المسلمين.
سار مدهش يدعو أصدقاء الماضي؛ زربة، ثابت ناجي، وسعيد النجار إلى التوبة إلى الله، ونصحهم بالصلاة. كان زربة مندهشا من هذا التغيير المفاجئ، يفكر «كيف حدث هذا، وهو الذي كان يكره الإخوان، هل أجبره الأمن الوطني سابقا بالعمل معهم؛ لينقذ نفسه من الهلاك؟ هل كان إخونجيا وجاسوسا ضد الجبهة واليسار؟» أمر حير زربة تماما. الأمر الذي يكرهه ويدعو إلى الدهشة، هو أن مدهش راح يسمي أصدقاءه القدماء ومنتمي الجبهة الوطنية بالكفرة، كان يردد ذلك كثيرا في المسجد، ويحافظ على صلاته في الصف الأول. ذات يوم سمع زربة مدهش يخطب في مسجد الحي، يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الله، وعلم أنه تزوج زوجة أحد الشهداء. حين التقى به سأله: عادك
56
ضابط؟ - نعم، ترقيت، لكني فضلت الدعوة إلى دين الله.
بقي زربة يتتبع كغيره تفاقم المعارك، وخاصة في صيف عام (1980م) في منطقة خبان محافظة إب، بين مقاتلي الجبهة الوطنية من جهة، وأنصار الإخوان المسلمين والجيش من جهة ثانية، وإسناد قيادة الإخوان إلى أشخاص ينتمون إلى نفس المناطق التي فيها المواجهات. كان محمد مدهش يغيب عن المسجد أياما، فيسأل زربة نفسه: «ترى هل يقاتل مع أصدقاء اليوم ضد أصدقاء الأمس؟ وهل حصل على لقب شيخ بعد إعلان المشايخ انضمامهم إلى جانب فرق الجبهة الإسلامية، التي أدت إلى تسريع هزيمة الجبهة الوطنية؟»
كان زربة يرى أن السياسة لعبة قذرة، خصوصا بعد أن رأى نديمه وصديقه الذي علمه أشياء كثيرة عما يدور في البلاد، قد تلون بلون آخر. شعر زربة كغيره بارتياح كبير، حين انتهى الحوار بين الرئيس علي عبد الله صالح وممثلي الجبهة الوطنية، إلى بحث مشاركة الجبهة في إدارة البلاد، ووافق الرئيس على ضم عناصر من الجبهة في الحكومة، على ألا يأخذ ذلك طابع التمثيل الرسمي للجبهة. لم يأت منتصف يونيو (1982م) إلا وقد انتهت الحرب بين الحكومة والجبهة الوطنية، التي حصدت آلاف الأرواح على مدى خمس سنوات، وهي المدة الزمنية نفسها التي دارت فيها الحرب بعد ثورة (1962م) بين الملكيين والجمهوريين.
ذات ليلة كان زربة يمضغ القات مع ثابت ناجي وسعيد النجار، بحضور المقاول عبد المجيد أخي صديقه المرحوم ناصر. وجده لم يفارقه الحزن، وما زال يتردد على طبيب نفساني منذ مقتل أخيه. حاول زربة تسليته فسرد له قصة مضحكة حدثت لعمه قاسم ونعمان شاهر، حينما ذهبا ليلة الأربعاء ليغتسلا في الحمام التركي في حي القاع، وكان ذلك اليوم مخصصا للنساء. دخلا الحمام لحظة غياب الحارسة، وتفاجأت النساء بهما. ضحك زربة وكان سعيد النجار يستعجله: ها، مو حصل
57
بعده؟ - خرج عمي بسرعة، أما نعمان لم يقدر وضربنه النسوان، ضرب كلب دخل مسجد هههههه.
19
كان زربة يقوم ببناء الدور الثالث في بيت العقيد المتقاعد علي الحرازي الكائن في حي باب شعوب، تعرف على أخته نادية، التي استشهد زوجها وهو يقاتل في المناطق الوسطى ضد الجبهة الوطنية مخلفا وراءه ثلاثة أطفال. بعد أن توطدت علاقته بأخيها طلبها للزواج وحين عرف الأخ ظروف زربة أخبره أن مصاريف أخته لا تهم؛ فهي تسكن عنده ولديها راتب زوجها الشهيد، وهذا ما يبحث عنه زربة، امرأة تصرف على نفسها. كان يشاهد صهره يلبس البدلة العسكرية حين يود أن ينهي أعماله بنجاح في الدوائر الحكومية، وهذا ما شجع زربة أيضا على مصاهرته. لم تكن نادية جميلة كغيرها من بنات حراز، لكن حبها له عوضه عن جمالها. وجدته نادية رجلا قويا، جيدا في الفراش. كان يقضي سهراته الليلية عندها، بعد أن انعزل عن أصدقائه القدامى، كما انعزل عنهم محمد مدهش سابقا، كل ذهب يفتش عن رغباته في الحياة. ووجدته هي أفضل من زوجها الراحل، فزربة لا يشتمها ولا يضربها، وفيه الكثير من الحنان ورجل ضحوك، حتى إنها تعلمت الكثير من لهجته وحدثته بها.
الزوال
تخلع الشمس زهو الشباب عند الزوال وقد أعطت للعالم حبا عظيما. ***
1
بعد زواج زربة من نادية بشهرين عزم على السفر إلى القرية؛ لقضاء عيد الأضحى مع أسرته. مر على دكان عبد الرزاق القباطي صاحب الحلاوة وطلب عشر علب حلاوة بعضها ساخنة، تزن الواحدة كيلو واشترى خمسة كيلو تبغ حممي، وملابس العيد، ولأول مرة يشتري ملابس جيدة لزوجته صفية، لم تكن تحلم بها يوما وعطر وهدايا وخاتم ذهب، لم يكن على مقاس إصبعها الخشنة كأصابع الرجال. شاهده المداح وهو يمر بجوار بيته. رحب به وقال: طولت الغيبة
1
يا زربة، أين حقي الحلاوة، ههههه، ثم أضاف: لا تنسيش التمباك تجزعه
2
معاك لما تجي
3
نسهر سواء، شخبرك على حاجة مهمة.
حضر أصدقاؤه لزيارته من ضمنهم ناصر المسحور ثم انضم إليهم والد زربة، بعد عودته من زيارة عاقل القرية صالح، المصاب بالسرطان، وهم يخفون عنه هذا المرض. لم يعجبهم مذاق القات، فقد كان فيما مضى خاليا من المواد الكيماوية. تحدثوا عن قلة الأمطار في السنين الأخيرة، وعن الأهالي الذين تركوا حقولهم وانتقلوا إلى المدن. كان زربة ينظر إلى ناصر المسحور بين وقت وآخر فوجده يحدث نفسه، علم أنه في لحظة جنونية وزع ماله على المتسوقين وهو يضحك في دكانه في شارع الشنيني في مدينة تعز. كان يقول بجنون: فلوسي وأنا حر فيها ...
ثم أخذ الوزف
4
وبعثر به إلى الشارع، ولولا حضور أحد أقربائه لكان وزع بضاعته كاملة، ثم أخذه قريبه إلى عيادة طبيب نفساني. رأى أهل القرية أن سبب جنونه هو إخراجه عظام الموتى، ودفنهم في مكان آخر عندما بنى داره بجوار مقبرة القرية، لكن أرواحهم أخذت تطارده في كل مكان. تحدث الحاضرون أيضا عن مقتل اللص عبادة على يد خصومه ، بعد أن استضافه صديقه علي الدحان في بيته وذهب يشي به عند خصومه مقابل مكافأة كبيرة، وحين قبض على عبادة، قال للدحان: كنت شخبرك عن حقي المخبئ، استعجلت على رزقك وأجلك.
ومن يومها هاجر علي الدحان هو وعائلته إلى مدينة القاعدة وعاش هناك. وفعلا اكتشف أحد الرعاة اثنين بنادق كندا وراديو ... في كهف صغير بالقرب من بيت على الدحان. انصرف الحاضرون من بيت زربة، وهم يشعرون بالغثيان، تقيأ بعضهم في الطريق؛ فقد كان القات الذي أحضره زربة مرشوشا بمواد كيماوية أصابهم بالإسهال. راحوا يتندمون على قات زمان.
أخذ زربة كيلو تبغ وذهب للسهر عند المداح. وجده يداعب أطفاله وزوجته بجواره. فرح بالتبغ فذهبت زوجته تعد المداعة. أثناء مضغ القات تحدث المداح بأمر كان يخفيه على زربة منذ خمس سنوات، عن علاقته بالجبهة الوطنية، واستغرب من توقف مرورهم. كان زربة يمضغ القات وينفث دخان المداعة. قال: خلاص يا مداح، ما عد شجزعوا،
5
جلسوا فوق الكراسي هههههه. آه منك يا مداح، قدك
6
مثل صاحبي محمد مدهش. ما عد دريت إنه كان جاسوس وإلا غيرته الفلوس.
سخن المداح الدف فوق جمر بوري المداعة، وبدأ بالنقر عليه وراح يترنم بالشعر حتى نادته زوجته زهرة، تخبره أن ابنته نصيرة مصابة بالحمى. عاد زربة إلى بيته يكمل سهرته مع صفية. أما المداح فقد وجد ابنته نائمة ولا تعاني من شيء. وصل زربة بيته ومضى وقتا مع صفية في مضغ القات وتدخين المداعة. ثم ذهبا سويا إلى الفراش وعند لحظة التحرر من الزمان والمكان والجسد، نطق زربة سهوا باسم نادية ثم اضطجع بجوارها وهو يتصبب عرقا. لكن صفية لم تنتبه لما قاله.
2
ذهب زربة إلى قرية نجاد؛ ليقضي ما عليه من دين، وجد المقوت
7
عبد الفتاح الملوق، فيه ميسم في الجهة الشمالية من فمه. أخبره عبد الفتاح أن فمه انحرف مرة أخرى، ولم ينفعه لطم السيد عبد التواب بالحذاء فوسمه.
توفي صالح محمد عاقل القرية، وأقيم له عزاء كبير، شارك زربة في خدمة المعزين الذين أتوا من قرى مجاورة. ذبح الجزار مقبل الدسم ثور العاقل للعزاء، وبقي صادق العردان بجواره يراقبه خوفا من أن يخفي بعض اللحم لكنه قطع اللحم إلى قطع كبيرة، ثم قام العردان بطبخ نصف الثور لمأدبة العشاء في اليوم الأول، وزربة يتذوق اللحم من القدور، لهذا طالت فترة التذوق، إلى أن تذوق حوالي اثنين كيلو. اختنق المسحور بعد تناوله قطعة كبيرة من اللحم، وبعد أن نجا من حتفه لعن الجزار واتهمه أنه لم يجد الذبح. كان زربة يقوم بتوزيع القات على الحاضرين والوطواط يقدم القهوة ويراقب زربة بفضول وهو يوزع القات. همس الوطواط للبعض: والله، زربة ظلمك ... يعطي أصحابه أكثر.
كانت صلصلة مدقات القات الحديدية ترن في الديوان من قبل أصحاب الأفواه الخاوية من الأسنان، يهرسونه إلى أن يصير نثارة خضراء، ثم يتناولونه بالملاعق. استمر العزاء لمدة ثلاثة أيام شبع فيها الحاضرون من الرجال والفتيان من اللحم، أما النساء فيقدمن الماء والصابون.
3
حين حدثت أحداث الثالث عشر من يناير (1986م) وخيمت أدخنة الموت فوق سماء جنوب الوطن ودخان الموت يتصاعد من المدينة، كان زربة في قريته يستمع إلى دوي المدافع التي استمرت لمدة عشرة أيام، ويشاهد أثناء الليل أضواء القذائف في سماء عدن، وأعلن فيها عن موت الرفيق عبد الفتاح إسماعيل. تندر زربة وأصحابه على هروب الرئيس علي ناصر إلى صنعاء، بعد أن هزم في المعركة وهو الذي خطط لها للانفراد بالسلطة.
جلس ذات يوم على سطح داره يشاهد الحقول التي لم يعد أهالي القرية يهتمون بها كثيرا، كما كانوا يفعلون من قبل ويتباهون بها؛ بسبب قلة الأمطار واستيراد القمح من الخارج. لم يطل التغيير للأرض فقط، بل والعادات والتقاليد كذلك؛ فقد انتقلت عادات المدينة إلى القرى. تلاشت براءة الأهالي، لم تعد النساء تحرث الأرض على أبقارهن، والفتيات منذ سن العاشرة يرتدين البالطو الأسود مع الخمار حين يخرجن من بيوتهن.
التقى زربة بالمقاول عبد العزيز في سوق القات، فعانقه ودعاه للعمل معه. سأله زربة عن الجندي جمال عمر الحكيمي، رد عبد العزيز: ما زلت تذكره يا زربة! اختفى من زمان ما يعرفوش له أثر بعد سفره إلى عدن مثل غيره يهجرون أسرهم، ما يعودوش إلا بعد سنين، يجلسون شهورا ثم يعودون للهجرة مرة أخرى. قالوا إنه قتل في أحداث يناير عام (1986م).
مضى زربة فترة قصيرة في القرية ثم عاد إلى صنعاء. لم تكن نادية تشعر بالغيرة من صفية، كان يلاحظ كيف تستقبله بالبهجة والسرور، تغسل قدميه بالماء الساخن عند وصوله وتجففهما. يفتتن بكلامها العذب وجسمها الرقيق، وأناملها الفاتنة، تلك الأنامل التي لا يراها عند صفية. كان يشعر أنه امتلك أنثى حقيقية.
4
كانت سهراتهما حافلة بالأنس والمرح، يحكي لها حكايات ومقالب عمه قاسم. كان له أسلوب مشوق في السرد يجعل المستمع يعيش الحكاية، يبدأ بالضحك أولا قبل الحكاية. حكى لها عن عمه حين اغترب هو وأصحابه من اليمنيين في الخليج العربي للبحث عن عمل، بقي هناك خمسة أشهر دون عمل وقد كان هو وأصحابه يفكرون بالعودة، يندبون حظهم العاثر وخسارتهم.
ذات يوم كانوا يمشون معا في حي من أحياء أبو ظبي القديمة، فقال قاسم: لماذا لا نعمل كما يفعل البائعون المتجولون الباكستانيون في بيع الملابس والإكسسوار النسائية، أخبره أصدقاؤه أنهم لن ينجحوا في هذا العمل، فقال لهم: سأجرب أولا. ثم مشى في الحي وحيدا وهو يصيح: ليلم، ليلم ... فظهرت النساء من شرفات البيوت ينظرن بائع الإكسسوار، وسألته إحداهن: أين الليلم يا أبو يمن، أيش حقه تنادي وأنت ما معك شيء؟ فقال لهم قاسم: كنت أجرب لو جزعت
8
ومعي ليلم، ستشترين من أبو يمن؟ فضحكت النساء من فكاهته، وقلن له: أنت الأولى يا أبو يمن، يب
9
الليلم وحنا سنشتري منك. عاد قاسم إلى أصحابه وقال لهم: الحمد لله وجدنا عمل يا شباب ... ضحكت نادية وسألته: وهل عمك ذهب يبيع الليلم؟ قال زربة: لا، سمعهم واحد خليجي وهم يخبروا، رحم حالهم وخبرهم عن شركة نفطية في جزيرة داس تشتي
10
عمال.
وأخذ يحكي لها حكاية عمه وهو في الجزيرة مع الباكستانيين والأفغان والهنود وغيرهم، الذين كانوا معجبين به لطيبته وفكاهته. كان قبل أن يعرض فيلم سينمائي في المساء، يصعد قاسم إلى منصة العرض أمام الجمهور، يغني المهاجل والأهازيج اليمنية ويحكي الطرائف. كانوا يضحكون دون أن يفهموه. بعد عرض الفيلم كانت الشركة تخصص أربع علب بيرة لكل عامل. في أحد الليالي كان أصدقاء قاسم من حوله بحاجة للمزيد، فقال لهم: ما رأيكم لو أزيدكم أربع علب بيرة زيادة على حصتكم؟
تحدوه أن يفعل. وضع قاسم عمامته الشبيهة بعمامة الهنود، وذهب إلى موزع البيرة «كشور» يطلب منه بيرة مرة أخرى. قال الموزع: يا كاسم، أنت واحد معروف عندنا. أنت استلمت حصة قبل قليل.
فضحك قاسم وقال له: أنا كنت أول ما في عمامة هندي، والآن معي عمامة، أنا واحد ثاني. فضحك كشور وأعطاه أربع علب أخرى، وقال له: هذي حصة حقي أنا، خذها أنت عربي تمام، تحب كل الناس، ما في غرور.
5
ذات يوم رأى زربة صهره علي الحرازي يضرب زوجته، وقد شاهده مرارا يشتمها بأبشع السباب، فحاول زربة أن يوفق بينهما، لكن صهره قال له غاضبا: المرأة لا تشعر برجولتك إذا لم تذلها. كلام أذهل زربة فتذكر أمه حين ذهبت غاضبة من أبيه بعد سبة بسيطة، وحين ذهبت زوجة الحطاب غاضبة من أمر بسيط، ولو أن أحدا في قريته ضرب زوجته يحق لها طلب الطلاق. سأل نادية: كيف يسمح للزوج بضرب زوجته؟ وجدها مستسلمة لهذا الأمر، حيث قالت: تأديب الزوجة من قبل الزوج موجود في القرآن. على الرغم من ثقافة زربة البسيطة إلا أنه كان أكثر وعيا والتصاقا بالفطرة الإنسانية. وجد زربة أن الكثير من الناس يفهمون القرآن بطرق مختلفة. يفكر هل التفسير القديم للقرآن يناسب كل زمان ومكان؟ أم يتغير بتغير ثقافة الشعوب. لعن إبليس الذي يوسوس أشياء كثيرة، ثم ذهب إلى فراش نادية، راءها تفاحة تفوح مسكا وراح يقضمها، يقضمها ... لا ينقص منها شيئا، حتى شعر بذاته تتلاشى في الوجود.
6
يوم إعلان قيام الوحدة اليمنية، كان زربة يمضغ القات مع صهره علي في صنعاء. كان ذلك اليوم أسعد أيام حياته. لكن ما سمعه من صهره بخصوص الوحدة أغضبه حين قال : لماذا لا تنضم دولة الجنوب إلى دولة الشمال «الجمهورية العربية اليمنية»، هم شويت هنود، صومال، أخدام ...؟
لم يفهم زربة معنى ما وراء ذلك الكلام إلا حين اكتسحت قوات الشمال جنوب اليمن بعد الوحدة في صيف (1994م). نزل زربة للعمل في عدن، كغيره من العمال والتجار وبياعي القات الذين تدفقوا إلى هناك بالآلاف. شاهد المدينة عكس ما وصفها أبوه وجده؛ فقد قيل له: إنها كانت مدينة جميلة. فتح محمد سالم الحطاب بوفيه، وفتح ثابت ابن الوطواط ورشة نجارة، وسمير ناجي المقشش عمل نجارا، وصادق العردان فتح مطعما، وهناك من فتح الدكاكين من قرية نجاد. تحولت عدن إلى خلية نحل نشطة بعد أن كانت مدينة تعاني من الركود. وجد زربة عملا في ورشة كبيرة لصاحبها محمد علي العريقي، في منطقة الشيخ عثمان. هذا الاسم الذي كان يظنه بعض أبناء القبائل الشمالية بأنه شيخ قبيلة كمشايخهم؛ فقد كان رجال القبائل في حرب (1972م) بين الشمال والجنوب، يحلفون بأنهم سينتفون شنب الشيخ عثمان ويسحبونه إلى صنعاء. عمل زربة حارسا في مخزن الورشة، فوجده عملا أسهل من عناء حمل أحجار البناء. تدفق القات من الشمال إلى الجنوب بكميات هائلة، بعد أن كان تداوله يوم الخميس والجمعة فقط. كان زربة يمضغ القات منذ الصباح الباكر، ويرسل إلى زوجته صفية وأطفالهما السبعة مصروفا شهريا، أما زوجته نادية فراتب زوجها الشهيد يكفيها، ويحمد ربه أنها لم تحمل منه.
7
في السنة الثانية من الوحدة تزوج زربة سميرة، قتل زوجها في أحداث يناير (1986م) في الجنوب. كانت تكبره بخمسة أعوام، لديها أربعة أطفال، سمراء بجمال مقبول، تبين له فيما بعد أنها من فئات المهمشين سابقا، الذين رفع الحزب الاشتراكي من شأنهم في الجنوب، وألغى الطبقات العنصرية، وتقلدوا مناصب في الدولة. كانت سميرة صف ضابط في الجيش وتعمل طباخة في التموين العسكري، تعيش في حافة الراشدي ولديها راتب زوجها الشهيد، تسكن بالقرب من مخزن الورشة حيث يعمل زربة. كانت تمر أمامه وهو يمضغ قاته أمام المخزن، وهي تفوح بأجود أنواع البخور، بدأت بالتحية ثم الحديث معه. كان يحدثها في البداية وهو ينظر إلى الأرض، لم يجرؤ على الضحك معها إلا بعد أن قالت له: ما لكم
11
أنتم الجبالية،
12
تستحوا من النسوان، أيش ده.
13
نحن النسوان والرجال في عدن ما نستحيش من بعض.
ولأن زربة لا يسمح لنفسه بخيانة زوجتيه ولا يريد أن يقع في الزنى؛ تزوج سميرة التي لم تكلفه إلا اليسير، بعد أن عرفت ظروفه المادية، وما يتحمله من نفقات أطفاله السبعة، لكنها لم تعرف عن زوجته نادية. سكن زربة معها في منزل زوجها الشهيد، في صباح اليوم التالي أبعدت صورة زوجها من الحائط، لكن زربة لم يوافق على تصرفها؛ فقد رأى أن عملها هذا سيترك جرحا في أطفالها، أكبرهم سالم في الخامسة عشرة من عمره. كان زربة يشتري القات واللحم فتعد هي مائدة شهية لا يجدها عند زوجتيه صفية ونادية. وجدته سميرة يلبي رغبتها في الفراش. اعترفت له أنها لم تجد هذه المتعة مع زوجها السابق، الذي كان له علاقات مع نساء غيرها، وقد كشفته يوما حين عادت من عملها باكرا وهو يخونها مع إحداهن. لم تستطع ردعه، فلم يكن هناك في عدن عقوبة الزنى في ذلك الوقت. كانت حين تستلم راتبها أو راتب زوجها الشهيد، تشتري لزربة أحسن أنواع القات والحلاوة. كانت سمية جارتها العجوز تشاركهم أحيانا جلستهم، تدخن النارجيلة مع سميرة، يراها زربة كوالدته. حدثته سمية عن مشاهدتها لحرب استقلال الجنوب من بريطانيا، وأخبرته أن المرحوم زوجها الأول من شمال الوطن منطقة الأعبوس، كان عضوا في جبهة التحرير. مات إثر الصدامات بين جبهتي التحرير والقومية.
8
عرف الوطواط ذات مساء أن زربة تزوج امرأة عدنية، لم يجرؤ ساعتها على الذهاب إلى بيت صفية ليلا، فانتظر حتى الصباح وذهب باكرا لكنها سبقته بالذهاب إلى الحقول لجلب الحشائش لبقرتها، فبقي ينتظرها في الطريق، وسبب له طول الانتظار حرقة في المعدة. ندبت صفية حظها وشمرت ساعديها في إصلاح حقولها.
ذات يوم اشترى زربة ثلاث حزم قات سامعي؛ ليسهر مع سميرة ليلة الخميس وقدمت هي النارجيلة مع المعسل البحريني الممتاز. في البدء كان يضحك من النارجيلة القزم لتعوده على تدخين مداعة طولها متر ونصف وبوري كبير عليه الكثير من الجمر والتبغ، يبقى لمدة ساعتين، لكنه وجد النارجيلة أفضل من المداعة. في تلك الليلة حدثته عما شاهدته في أحداث الثالث عشر من يناير (1986م) الدامية وعن زوجها الذي كان ضابطا مع قوات علي ناصر محمد. كانت تتحدث وزربة يبكي، ترى ذلك تعاطفا معها، فأحبته أكثر وشكرته على إحساسه النبيل وتعاطفه معها. والحقيقة المضحكة أن زربة لم يكن يبكي مما جرى لزوجها أو لما جرى للمتناحرين على السلطة، فهو يرى أن الذين يتقاتلون على السلطة لصوص وسفاكو دماء أينما كانوا، لكن القات السامعي هو الذي ذكره بذكريات حزينة حدثت له قبل خمس سنوات، ويمكن لهذا النوع من القات أن يؤدي إلى الانتحار أحيانا، إذا كان متعاطيه يشعر بالكآبة مسبقا. تلك الليلة متعته سميرة كثيرا في الفراش على تعاطفه معها، ذهبا معا إلى الفراش وهما يمضغان القات. استلقى زربة على ظهره، فاعتلته سميرة كهرة نشبت أظافرها فيه. ومن هناك راحت تنظر إلى باريس، لندن، موسكو ... ثم عادا يكملان سهرتهما وهما يستمعان لمحمد مرشد ناجي أغنية «على ام سيري على ام سيري» ويستعدان للفراش مرة أخرى ...
كان زربة يتنقل بين صنعاء والقرية ويعود إلى عدن، مقر عمله الأخير. يقارن بين زوجاته الصنعانية والعدنية، والقروية. كان يرى في الصنعانية الحنان والرقة، تجيد طبخ السلتة والملوج والحلبة، ويفتقد هذا الحنان عند زوجتيه العدنية والقروية، وتتميز العدنية ببخورها وطبخ الزربيان والعقدة والسمك، وأصناف الحلوى. أما زوجته صفية فيجلها كثيرا؛ لأنها أم أولاده، لكنه لا يجدها تضاهي العدنية والصنعانية لا في مائدتها ولا في الفراش. كان يخبر سميرة أنه بحاجة إلى بخور حين يسافر إلى القرية، فتعد له بخورا جيدا، ليس حبا بضرتها صفية؛ بل لكي يذكرها هي حين يشم البخور وهو بجوار صفية، لكن زربة كان يأخذه إلى نادية لإعجابها بالبخور العدني، أما صفية فقد اعتاد على رائحتها منذ سبعة عشر عاما.
ذات يوم أخذت سميرة بدلة من بدلات زوجها الشهيد، وقامت بتعديلها على مقاس زربة فلبسها وذهب يقابل أصحابه، كانت هذه أول مرة في حياته يلبس بدلة. كان زربة كلما استخدم شيئا يخص زوجها السابق دعا له بالرحمة: «الله يرحمك يا حيدر، قدمت روحك من أجل الآخرين». وكان عبد المجيد صاحب الورشة يتذمر من زربة حين يحضر إلى العمل ببدلته الأنيقة، ورائحته الزكية، كأنه مدير أو صاحب شركة؛ لهذا توقف زربة عن الذهاب إلى عمله بالبدلة، وحين يسافر إلى القرية لا يرتديها؛ لشعوره أنه لن يكون زربة بدون مئزره وعمامته وثوبه وحزامه الأخضر العريض.
9
كانت سميرة تحدثه عن الوحدة اليمنية التي لم تحقق لهم ما كانوا يحلمون به، وعن اغتيالات كوادر الحزب الاشتراكي، وكيف أن الكثير من التنفيذيين الشماليين تنهب الأراضي في عدن وضواحيها. ذات مساء وهما يمضغان القات قالت له: الناس في الجنوب تشتي الانفصال. - غير معقول، نحن شعب واحد. الوحدة ما لهاش أربع سنين. عاد نحن نريد العرب يتوحدوا. - يا زربة ما شفنا من الدحابشة إلا الهنجمة
14
علينا. برع، يطلعوا من بلادنا. - وأنا أطلع معهم ههههه؟ - لا، أنت ابق معي أحسن لك من صاحبة القرية المعفنة، يكون عرفها شمت
15
مثل رائحة حقها البقري. الشمال يحكمه المشايخ، ما شيطوروش
16
حتى بعد ألف سنة، كلهم سرق وعلموا كوادر حزبنا المسراقة.
بقيا يمضغان القات المريسي ويدخنان النارجيلة، ينفثان الدخان كأنها نار تتأجج في الأحشاء. أخذهما القات إلى عالم سحري، رأت سميرة نفسها قائدة للجيش، وبجوارها صديقاتها الضباط، وأعادت الجيش الجنوبي المرابط في الجزء الشمالي إلى مواقعه السابقة، ذلك الجيش الذي هزم جيش الشمال في حرب 1972م، كما أغلقت الحدود الجنوبية السابقة في وجه الشمال، ورحلت الموطنين الشماليين، وهيمنت على الضالع ويافع الذين ينافسون أبين على الحكم وزجت بقادتهم في السجون. سمعها زربة تقول وهي تنفث الدخان: «وزربة سيكون حقي الحارس الشخصي». عرف زربة أنها تحلق في سموات القات؛ فضحك وأخرجها من عالمها وضحكت هي بدورها على ما دار بفكرها، أخبرته بما رأت ثم قالت : يا زربة بكرة اشتر هذا النوع من القات، خلاني
17
بدل علي سالم البيض ههههه.
هكذا هم الأخدام (المهمشين) حين يمضغون القات الجيد يجنحون في الخيال أكثر من غيرهم. يمتلكون القصور، والسيارات وكل ما ينقصهم في حياتهم البائسة، وتذكر زربة أحدهم حين كانا يجلسان معا على شاطئ البحر في حقات ويمضغان القات، شاهده يلطم جبينه، وكان خداه منتفخين بالقات كالزمار. سأله زربة: مو
18
جرى لك؟
رد المهمش بأسى: تهدم. - أيش
19
تهدم؟ - بنيت جسر في باب المندب يربط بين قارة آسيا وأفريقيا. - ممتاز، كيف تهدم؟ - ما قدرتش باخرة إمبريالية تمر من تحته، وهي ترفع العلم وضربت الجسر بالمدفع.
ضحك زربة؛ فغضب المهمش وراح يشتم الإمبريالية، والرجعية والدحابشة وقال: قريبا بانخرجكم من بلادنا يا دحابشة.
يوم أن قامت الحرب بين شريكي الوحدة، المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي، كان زربة في صنعاء مع نادية وقد عطرت الغرفة ببخور سميرة، حينها أخبرته بما سمعته من أخيها عن الحشد الشعبي الكبير من قبل المشايخ والتجار، وحزب الإصلاح، وعن فتاوى الجهاد لمحاربة الاشتراكيين لترسيخ الوحدة، وعلم كذلك أن صديق كأسه القديم محمد مدهش، يخطب في أحد مساجد مدينة تعز حيث استقر أخيرا هناك، يحث الناس على المشاركة في محاربة المرتدين عن الوحدة، ويخبرهم أن الفرقة لا يرضى بها الإسلام، وعرف مؤخرا أن محمد مدهش كان ضمن القادة الذين جندوا الكثير من المجاهدين اليمنيين لأفغانستان. قارن زربة كلام مدهش الجديد بكلامه السابق، فقد كان يخبره أن الإخوان عملاء مع الإمبريالية ويقول له: «إن الشعب مقهور على أمره ويعاني من هدر فكره وطاقاته لمصلحة الحكام؛ ليظل يدور في حلقة مفرغة يبحث عن لقمة العيش فقط وهم يعبثون بثروات البلاد».
شاهد زربة نهب بعض منازل ومقرات الحزب الاشتراكي في صنعاء، وأسهم إعلان نائب الرئيس علي سالم البيض الانفصال في سرعة هزيمة الحزب الاشتراكي. شعر زربة بقلق على مصير زوجته سميرة، فبيتها على خط المواجهات في الشيخ عثمان، فراح يكثر من تناول القات كعادته حين يكون حزينا. سمع أثناء الحرب عن تضحيات القوات الشمالية، التي اشترك فيها العائدون من أفغانستان، فكانوا يخوضون الحرب ببسالة باحثين عن الشهادة في سبيل الله. أما زربة بإحساسه الفطري، كان يرى أن الموت للشعب والنصر للقائد.
10
انتهت الحرب الشرسة بين الإخوة الأعداء، التي استمرت مائة يوم تقريبا، هزم فيها جيش الحزب الاشتراكي.
نزل زربة مع أول قافلة إغاثة شعبية للمتضررين في عدن. ركب سيارة هيلوكس مع أربعة رجال، أحضروا معهم كيسا يقدر بخمسين كيلو من البطاط وعدة سلال من الطماطم والبصل. كان يشاهد في الطريق العديد من عربات الجند الحارقة والدبابات المعطوبة، وجنودا يمشون بثيابهم المتسخة، بعضهم معصوبو الرءوس والأيدي. وصل أطراف منطقة الشيخ عثمان ودهش وهو ينظر الخراب المنتشر في الشوارع، نوافذ مهشمة وأبواب الدكاكين والمخازن مخلوعة، وخرابا متراكما في جولات الشوارع، وبقايا متاريس عدة محطمة تشهد على أن الدفاعات كانت مستميتة. نزل من السيارة قرب فرزة صنعاء، وأسرع إلى حارة الراشدي حيث تسكن سميرة، رأى ركن منزلها الشمالي مهدما، وكذلك المنزل المجاور تضرر كثيرا، فلعن أمراء الحرب على ما سببوه من دمار في الأرض والنفس. أسرع يطرق الباب عدة مرات، فلم يجد أحدا في البيت، ظن أنها نزحت إلى الريف حيث بيت والدها في محافظة أبين. ذهب يقرع باب جارتهم العجوز سمية بقلق شديد. حين فتحت له الباب ظن أنها ستستقبله ببسمتها الحلوة وكلامها المعسول كعادتها، لكنها حين رأته هذه المرة فاجأته بتكشيرة، ينقصها المخالب والأنياب وأخذت تشتمه وتلعنه: دحابشة، كلاب، سرق، دمرتم بلادنا، ما رأينا منكم إلا الخراب، نهبتم بلادنا يا سرق، كنا قبل الوحدة مرتاحين، الله يلعن من باعنا لكم، يستاهل
20
ما جرى له. - يا عمة أين سميرة؟ - روح
21
شوفها
22
في المقبرة هي وأولادها، لعنة الله عليكم يا دحابشة.
أغلقت الباب في وجهه وهي غاضبة. دمعت عينا زربة وذهب إلى الورشة التي يعمل بها فوجدها مغلقة، حمد الله أنها ما زالت سليمة لم تحرق أو تنهب. رأى في الحي بعضا من أصحابه العدنيين، لكنهم لم يتحدثوا معه كأنهم لا يعرفونه وتعاملوا معه كأنه عدو غاز، على الرغم من محبتهم له مسبقا. ذهب إلى ورشة عبده مقبل في الشارع الخلفي من ورشة محمد علي وهو يمسح دموعه وأنفه، ويشتم القتلة. وجدها مغلقة، طرق الباب عدة مرات بقوة. خاف حارس الورشة عبد الفتاح وحمل سلاحه واستعد لإطلاق الرصاص، ظنا منه أن اللصوص سيقتحمون الورشة، وحينما عرف أنه زربة رحب به. جلس زربة صامتا والحارس يتحدث بسعادة لقائه في هذا الظرف المشحون بالكراهية. أخذ يستعيد ذكرياته مع سميرة، التي كانت تحاول أن تخلق منه شخصا متحضرا، تفتخر به أمام صديقاتها، تذكر ذلك اليوم وهو معها وأولادها في شاطئ جولد مور في نزهة لابسا البدلة الأنيقة، حين حاول نزع ربطة العنق عن رقبته شدها بقوة، فكاد أن يختنق فأسرعت سميرة وهي تضحك، تحاول فكها من حول رقبته تقول: يا زربة ... متى شتتمدن يا رجال.
23
ضحك ابنها سالم وقال له: نحن نحبك يا عمي ...
أخبرته سميرة أن والدهم كان يضربهم إذا لم يجد قيمة الشراب، وكانت تضطر هي أن تشتري له الفودكا أو البيرة. استغرب الحارس وهو يرى زربة يحدث نفسه ويضحك والدمع في عينيه. قال له: أيش
24
قدك شتجنن يا زربة. لو كنت وقت الحرب هنا كنت شتجنن من صدق.
ثم وصف الحارس مشاهد الرعب والجوع والعطش، والنهب الذي تعرضت له المؤسسات الحكومية وبعض مخازن التجار، والكره تجاه الشماليين. شعر زربة بالجوع، لم يكن هناك مطعم أو دكان مفتوح، فقدم له الحارس بعض البسكويت من الأشياء التي نهبها من دكان عبد الرحمن العديني مع كمية من علب الماء. شاهد أبناء الحي يكسرون أبواب الدكاكين طلبا للماء والمواد الغذائية فشاركهم النهب. بقي زربة يفكر في القات فالكوابيس ليلا لن تدعه ينام جيدا إذا ترك القات. سأل زربة: ما فيش مقوت
25
يبيع قات قريب، يا عبد الفتاح؟ أجابه الحارس مندهشا: أمانة إنك مجنون قات. هذي الأيام يا الله تسلم روحك من الشمالي أو الجنوبي.
شاهد زربة سيارة طقم عسكري شمالي تقف في الشارع بالقرب من الورشة، عليها بعض الجنود وهم يمضغون القات. خرج زربة إليهم حاف وسألهم من أين اشتروا القات، حين عرفوا أنه شمالي ابتسم قائد الطقم وقال: لا يوجد بائع قات هنا هذه الأيام، ثم أعطاه حزمة قات «حرامي». ابتسم زربة وشكره على كرمه بهذا النوع الممتاز، وعرف أن القات الحرامي يوزع على جميع الجنود الشماليين، فهذا النوع من القات يجعلهم يقظين، ويشعرهم بالتعالي. رجع زربة إلى الورشة سعيدا. ضحك الحارس وقال: أمانة إنك تيس ابن تيس، قدرت تخرج منهم قات.
مضغ زربة القات وهو يشعر بالجوع وأعطى قليلا منه للحارس الذي احتفظ بحصته لمضغه بعد الغداء ثم ذهب يطبخ أرزا لا غير. قدم الحارس الغداء فأخرج زربة نثارة القات من فمه، وربطها في قرطاس بلاستيكي ليعيد مضغها مرة أخرى بعد الغداء. لم يستطع زربة البقاء أكثر من ثلاثة أيام في الشيخ عثمان وهو يتسول القات من الجند؛ فقرر العودة.
11
عند عودته على سيارة خاصة تويوتا مع خمسة من رجال القوافل المساعدة الشعبية كانوا يتحدثون بغضب عن العسكر، يتهمونهم باللصوص فقد أخذوا منهم المعونة التي أحضروها معهم، ولم يسمحوا لهم بالدخول إلى عدن لإيصالها إلى المتضررين بأنفسهم كالقوافل التي دخلت قبلهم. كانوا يشتمون ويلعنون ... وصل زربة إلى مدينة الراهدة وذهب إلى سوق القات، فقابل خالد ثابت العامري أحد معارفه. اشترى الحلاوة من دكان علي سعيد، ثم ذهبا يمضغان القات سويا بجوار شاحنة درهم. حدق زربة في عجلات الشاحنة فرأى دما ملتصقا بها. سأل درهم: من أين هذا الدم؟ - هذا دم بشر. - أيش
26
دعستهم؟! - لا، حملتهم فوق الشاحنة. قم شوف
27
بنفسك.
قام زربة ينظر إلى أرضية الشاحنة، فشاهد دما متيبسا. أخبره درهم أنهم أجبروه على نقل الموتى، وكان بينهم أشخاص على قيد الحياة جروحهم خطيرة. دمعت عين درهم وهو يتذكر أنين الجرحى، وفجأة ابتسم وقال: كان هناك شخص ملتح، يردد «أين العين المرضية ...» إلى أن مات. قالوا لي فيما بعد إنها اسم لحورية عين في الجنة.
12
سافر زربة إلى القرية وقرر أن يترك زوجته نادية وتحول حبه لها إلى كره. جلس في القرية يداوي حزنه بالقات دينا من حسن مقبل الدسم، لم يضحك كسابق عهده. سألته زوجته صفية عن سبب كربته، أخبرها بموت زوجته سميرة العدنية وأطفالها الأربعة أثناء الحرب، وبما شاهده في عدن. خلال حديثه ذكر نادية سهوا، صمت فجأة ولم يكمل كلامه؛ فصفية لا تعرف عنها شيئا. سألته بغضب: زربة! وا زربة من هي نادية. تزوجتها وأني ما نيش داري. صابرة على الفقر وأنت من مرة
28
إلى مرة. والله، ما أبقى في هذا البيت.
قامت تعد حقيبتها وهي غضبانة؛ لتذهب إلى دار أبيها. فذهب زربة خلفها يقول: يا صفية، والله، أني طلقتها، أقول لك قري
29
بين جهالك.
30
موش
31
معقول، الثلاث تروحين
32
عليا مرة واحدة.
لم تهدئ صفية من غضبها فهي لم تعهد زربة كاذبا. أخذت حقيبتها وطفليها الصغيرين أحدهما ما زال يرضع. ذهب زربة خلفها وهو يضحك، يحاول أن يرجعها. شاهد الوطواط صفية وهي تحمل حقيبتها على رأسها. سألها وبسمة ماكرة ترتسم على شفتيه: وا صفية، مو شتهربي
33
بيتكم.
رد زربة: مو علوك فضالة، شنزور أهلها.
كانت المسافة بعيدة إلى بيت أبيها، فحمل معها الشنطة وولده حمدي الذي كان يمشي رويدا، كان يقول لها ضاحكا: لنا مدة طويلة ما نزورش أهلك. اشتقنا لهم.
وصلوا بعد ساعتين، فارتمت صفية في حضن أمها تبكي، شكت لها صبرها على الفقر مع زربة مدة عشرين عاما، وهو يتزوج مرة امرأة عدنية ومرة صنعانية. دافع زربة عن نفسه: والله، يا عمة ما كنتش
34
أعطيهن ريال واحد، غير القات، ما أكسبه يا عمة أرسله إلى صفية، والآن العدنية الله يرحمها والصنعانية طلقتها، شجلس ذلحين
35
في القرية أبحث لي عن عمل.
جلس زربة في الديوان. ضحك وقال: يا عمة نحن اليوم ضيوف عندك.
ذهبت صفية تنام مع طفليها في الغرفة التي كانت تنام فيها أثناء طفولتها. تذكرت حين جاء والد زربة يخطبها وكيف كانت تتنصت من خلف الباب. كانت تود مشاهدة خطيبها قبل أن يعقد بها أبوها، لكنها العادات لا تسمح وكذلك الخاطب لا يسمح له بمشاهدة خطيبته. تم زفافها على زربة في يوم خطبتها ولم تنم تلك الليلة إلا في بيت والد زربة، حينها تعرف زربة عليها، وهي جالسة بجانبه أمام الحاضرين من الرجال والنساء. بعد أن دفع لها مالا لتكشف عن وجهها كما تقتضي العادات.
في منتصف الليل تسلل زربة كالعاشق إلى فراشها، وأزاح ولديها من حضنها وحضنته هو. كانت ليلة عشق حتى الصباح. قال لها في الصباح وهو يضحك: تقولي لمو
36
العراب
37
في بيت أبوك حالي! كوني اهربي كل أسبوع مرة ههههه.
13
عاد زربة اليوم الثاني ظهرا مع زوجته يحملان طفليهما، وقد أشاع الوطواط أن زربة طلق صفية وأوصلها بنفسه إلى دار أهلها. أخذت النساء يعاتبن فعلة زربة بحق صفية ويشتمن الرجال لعدم وفائهم لزوجاتهم كما يفعلن هن. الأكثر قسوة أن بعض الأزواج كانوا يرون أن «الزوجة فردة حذاء، إن لم تكن على مقاس قدمك استبدل غيرها»، لكن هذه النظرة غير الإنسانية ذهبت أدراج الرياح. حين عرف أهل القرية الحقيقة راحوا يلومون الوطواط على كذبه. غضب زربة منه وذهب إلى عمه قاسم؛ لتدبير مقلب ضد الوطواط، فذهب قاسم وزربة صباحا إلى سوق نجاد، وأشاعا في السوق أن الوطواط في هذه الليلة سيقرأ مولدا للولي أحمد ابن علوان، وقد أعد ثورا للمولد وجلب القات الشراري. توافد العديد من الناس قبل غروب الشمس إلى بيت الوطواط، ينتظرون متى سيقدم العشاء الدسم. كان الوطواط يرحب بهم دون أن يعرف لماذا أتى هذا الكم من الناس لزيارته دفعة واحدة. سأله أحدهم: أين العشاء يا وطواط، الناس تنتظر؟
وعزز كلامه رجل ثان وثالث. قال الوطواط: منو
38
قال عندي مولد؟! - سمعنا في السوق. - يا جماعة، ما فيش
39
عندي مولد؛ لكن والله ما تعودوا من بيتي بدون عشاء. الخير موجود.
ذهب الوطواط إلى زوجته، وذبحا أربع دجاجات وأكثرا من المرق، وأعدا خمس موائد فتة دخن. كان يرحب بالحاضرين وهو يتساءل عمن عمل له هذا المقلب. قال لنفسه: «ما يعمل مثل هذه المقالب إلا قاسم» وتذكر المقلب الذي عمله لعبد الرحمن غالب من منطقة خوالة وقد بلغ الخامسة والثمانين من العمر، حين زفوا إليه شابا على أنه عروس. فصدم عبد الرحمن وهرب من غرفة نومه، يظن أن الله حول عروسه رجلا، وراح يستغفر الله كثيرا ولم يعد يفكر بالزواج وحصل قاسم على مكافأة من أولاد عبد الرحمن. لم يدر زربة أن عودة صفية من بيت أبيها سريعا، هو بعد نصيحة أمها بالذهاب إلى المشعوذ عبد الواسع لعمل محبة؛
40
حتى لا يتزوج مرة أخرى، ففي ذات يوم أحس زربة شيئا غريبا في كتف معطفه، أخرجه فوجد ورقة طويلة وسط غلاف بلاستيكي، حاول قراءتها فلم يفهم منها شيئا، ثم أحرقها، فغضبت صفية من تهوره لاحتمال إصابتهم بأذى جراء حرق الورقة السحرية.
14
توفي والد زربة فقسمت التركة بين الورثة وأخذ كل نصيبه، وهم خمسة أبناء وثلاث نساء. منهم من باع أرضه إلى قرية نجاد، وامتهن الأولاد النجارة وعاشوا في المدن، أما البنات فتزوجن وعشن في المدينة أيضا. وكانوا لا يلتقون إلا في الأعياد. بقي زربة في القرية بعد حرب (1994م) حتى موسم الزراعة، وذهب الأهالي لحرث الأرض، حمل زربة محراثه وطلب من ناجي المقشش؛ أن يمسك بعصا المحراث وزربة يجره وصفية تبذر البذور خلفهما وهي حبلى في شهرها الثامن بطفلها الثامن. حين انتهى أولاد المرحوم صالح من حرث حقولهم ذهب ناجي يستأجر ثورهم؛ ليحرث به حقوله فنطحه الثور. أسرع زربة لنجدته مع غيره من الأهالي. قال زربة ضاحكا: يا ناجي، انتبه هذا ثور، ما هوش
41
زربة تبتل
42
فوقه.
حملوه إلى بيته وهو يتألم. حضر عثمان فعرف أن هناك كسرا في أحد أضلاعه. أحضروا نعشا وحملوه إلى طريق السيارات وذهبوا به إلى مدينة تعز للعلاج، وباع ناجي حقلين من حقوله إلى الجزار مقبل الدسم تكلفة علاجه. كان أصحاب قرية نجاد أناسا طيبين، يقرضون أهالي قرية القرن المال، مقابل رهن حقولهم لديهم التي بدأت تنتقل إلى قرية نجاد. كان زربة أكثر المديونين لمقبل الدسم، حق القات واللحم.
حين يكون زربة في مدينة تعز، يصلي صلاة الجمعة في مسجد ... الذي يخطب فيه محمد مدهش. لاحظ المسجد يغوص بالمصلين، فالتحول الأيديولوجي الذي حدث في المدينة ونواحيها كان كبيرا، وهي التي كانت إلى ما قبل الثمانينات من القرن العشرين تناصر الأحزاب التقدمية في البلاد. كان نشاط السلفيين في المناطق الشمالية من البلاد كصعدة، ودماج ... يقابله نشاط للإخوان المسلمين في تعز وإب وعدة مدن أخرى؛ حتى إنهم حققوا فوزا كبيرا في الانتخابات البرلمانية على جميع الأحزاب الأخرى في تعز، شيء لم يتوقعه أحد من الناس. حين كان زربة يقابل محمد مدهش في المسجد، يقابله بفتور. عرف زربة أنه أصبح مديرا لمعهد تدريب تقني وقد تزوج بالزوجة الثالثة؛ ليطبق السنة كما يراها.
وهو في شارع المسبح التقى زربة بصديق صباه سعيد السلفي مصادفة، كان سعيد أحد أهالي قرية عامر القريبة من قرية القرن يسير برفقته فتيان. أتى من صعدة حيث يعمل مدرسا في مدرسة دار الحديث في دماج، ويعيش مع أطفاله هناك، في حي كبير يضم معظم الدارسين في المدرسة وعائلاتهم. أخبره سعيد أنه أتى يحضر طلابا راغبين في الدراسة في مدرسة دار الحديث، وسيعود بخمسة طلاب هذه المرة. كان سعيد مستعجلا في أمره فودعا بعضهما وذهب كل في طريقه.
15
قاول زربة في بناء مسجد في قرية الحباترة، وكانت هذه أول مرة يعقد صفقة مربحة له، ثم أخذ بعد ذلك يبني مساجد في أماكن عدة على نفقة جمعية خيرية إماراتية تقدم مساعدات في بناء المساجد، ومدارس تحفيظ القرآن، وكان هناك منظمات دولية أخرى تقوم بتمويل شق الطرقات التي تفرعت إلى قرى كثيرة وسهلت حركة المواطنين.
انتشرت زراعة القات وتعددت أنواعه ومصادره على حساب الأراضي الزراعية، وحفرت له الآبار ليسقوا جذوره التي لا ترتوي. أصبح زربة وغيره من المواطنين يمضغون القات من مختلف الأنواع: سامعي، يوسفي، شرو، صعفاني، جدة، جندي، ضالعي، مريسي، صهباني، سحولي، عنسي، أرحبي، همداني، ضلاعي، صوطي ، صعدي، عصري، حيمي، نهمي، مطري، حرازي ظراسي، صبري، جوفي، شامي ...
ازداد دخل زربة المادي فكان يمضغ القات الغالي الثمن، ويشتري لحم الضأن والحلاوة الجيدة، والتبغ الجيد ويفكر بزوجة جديدة، يفضل أن تكون أرملة لديها أطفال، فلديه تسعة أولاد، بعد أن ولدت له زوجته صفية أخيرا توأما؛ سمية وسامي.
ذات مساء والجو حار وزربة يمضغ القات بجوار صفية، كان صوت المداعة يعلو في المكان، والعرق يتصبب من جبينه. كانت يده اليمنى على ركبته تحرك عودا طويلا من القات. رأى نفسه يقف بين الأهالي يطلب منهم أن يوقعوا له على طلب من الدولة ليكون شيخهم وتعهد للأهالي بالمطالبة بمشاريع تخدم القرية. ثم رأى نفسه يأخذ الموافقة من الدولة بسهولة، فأصدرت له بطاقة شيخ، وزودته براتب وسيارة، وعين له أربعة مرافقين. تعهد سرا بكسب الأنصار للحزب الحاكم في الانتخابات، ثم بنى دارا ضخمة في القرية أفضل من دار المرحوم صالح عاقل القرية سابقا، وخصص لكل ولد من أولاده غرفته الخاصة. وزوج ولديه نجيب ومنير اللذين صارا شابين، وأحضر للضيوف قات حرامي من حجة. رقص زربة أمام المهمشين الذين كانوا يقرعون الطبول في حفل زفاف ولديه. ثم رأى نفسه يبنى دارا لزوجته الجديدة. أما صفية رأت أنها دعت نساء القرية لنقل الحطب معها من الجبل، بعد أن قام سالم الحطاب بتقطيعه من الأشجار وكدسته بجوار البيت، وامتلكت بقرة ثانية وعشرين دجاجة، وساعدت زربة بحفر خزان كبير بجوار البيت لجمع مياه الأمطار.
16
استمر زربة في بناء العديد من المساجد في منطقة الحجرية، وأحيانا في أبين، ولحج ... كان يصطحب معه رفيقه ناجي المقشش، وصادق العردان الذي أصبح بناء، أما شماس المطين وسالم الحطاب فقد انتهى عهدهما بعد استبدال الطين بالإسمنت، والأخشاب بالحديد. كذلك كان لا ينسى سعد الوطواط، على الرغم من عادته القديمة في التفتيش عن عيوب بناء زربة، ويخبر أرباب العمل بها، لكن بناء المساجد لم يكن هناك عليه رقابة كبيرة. حين كان زربة يبني مسجدا في مدينة لحج برفقة الوطواط، حضر عقد قران العامل عبده ناجي بزوجته الثانية نرجس، أرملة أحد الذين سقطوا قتلى أثناء حرب الانفصال في صيف (1994م)، عمرها ثلاثون عاما ولديها ولد، جدتها صومالية. عرض زربة على الوطواط، أن يعطيه خمسة آلاف ريال ليكتم سر زواج عبده ناجي بنرجس، ويقسم اليمين على ذلك، لكن الوطواط رفض العرض وقال: أقولك يا زربة ما شقدرش أنا أعرف نفسي.
كان زربة يعرف أن الوطواط لن يكتم السر، ولو دفع له أكثر من ذلك. فكتم السر في أمر كهذا يسبب له حرقة في المعدة. بدأت أسنانه تؤلمه أثناء أكل الحلاوة ولم يذهب إلى الطبيب فقد اعتاد على الألم. كانت أول زيارة إلى الطبيب بسبب إسهال وقيء شديد أقعده عن العمل؛ وذلك بسبب القات الذي كان يمضغه بعد شرائه مباشرة دون غسله بالماء لإزالة المواد الكيماوية العالقة فيه، التي تساعد على نمو الأغصان سريعا. عالجه الطبيب بحقنة شرجية وغسيل للمعدة، وأخبره بأن القات أحد أسباب أمراض الكبد والسرطان، والبواسير وارتفاع ضغط الدم، ونصحه بعد خروجه من المستشفى بتناول سندوتش واحد في كل وجبة لمدة ثلاثة أيام. ضحك زربة وقال: يا دكتور، السندوتش قبل الأكل أو بعده.
خرج من عند الطبيب يقول لأصدقائه: بالله عليكم هذا طبيب! يمنعني من اللحمة والقات.
بعد شهرين من زواج عبده ناجي بنرجس، أخبر زملاءه من العمال أنه عاد إلى بيته فراءها تضحك مع رجل لا يعرفه، غضب منها، فقالت له: هاد
43
ابن عمي، أيش
44
في يا رجال لو ضحكت معه؟ - كنت معه بثياب النوم يا نرجس. - يا دحباشي أنت ليش متخلف، هو مثل أخي.
خرج عبده ناجي من عندها وقد طلقها. لم يعجب هذا نرجس فكانت تذهب إلى مقر عمله فتشتمه أمام العمال لعدم ثقته فيها وعلى تخلفه.
17
أنهى زربة عمله في لحج، وعاد إلى قريته فوجد أخاه حامد قد باع ما تبقى من حقوله لعبد الفتاح الملوق من قرية نجاد. ذهب إلى سوق نجاد فالتقى بناصر المسحور الذي حدثه عن زوجته: يا زربة مرتي
45
سرقتني، وأعطت فلوسي لأصحابها. اللعين بنت اللعين.
وجده زربة قد تمادى كثيرا في جنونه، بعد أن أفلس. وعرف أن زعفران المجنونة توفيت ولم يعلموا بموتها إلا بعد يومين في محبسها. التقى بمنصور النحال وسأله إن كان لديه عسل، يريد نصف كيلو هدية لصديقه المداح، فشكى له منصور موت النحل بسبب شخص قام برش الخلية بالعطر ليلا وهروب الباقي. ضحك زربة وقال: مش أنا قلت لك،
46
حقك النحل شتهرب، لا تزكي عليهن ولا أعطيتني رطل عسل أطعمه.
أثناء عودته من السوق التقى بالمداح فراءه يهدهد رضيعة في حضنه، من زوجته الثانية. قال له: يا مداح، زبك أفقرك. - وانا مو
47
أعمل له، أقطعه، هو خلاني
48
أزوج بنت صغيرة، قلت شعمل ثواب معها. تزوجنا أنا وابني أحمد أختين.
غادره زربة بعد أن أعطاه القات وقليلا من المال.
توفي عثمان المتصوف بعد أن بلغ الخامسة والتسعين عاما من العمر. حضر زربة عزاءه في المسجد، وقد كان عثمان من المتشددين في تقاليد العزاء لمدة ثلاثة أيام، يتمتع فيها المعزون باللحم والقات، ولو باع أهل المتوفي آخر حقل من حقولهم أو ذبح بقرتهم الوحيدة لصالح العزاء. لكن خطباء الجوامع والمعاهد الدينية التي انتشرت بشكل كبير في المناطق، كان لها الأثر في إلغاء تلك العادة التي كان يدعمها المتصوفون والأئمة.
ذهب زربة وزوجته لزيارة سميحة ابنة خاله، فوجدها في أشد مرضها، بعد إصابتها بمرض سرطان الثدي، وقد توفيت أمها بنفس المرض. في المساء حدثته صفية عن الحياة في المدينة، واقترحت أن يأخذهم للعيش هناك فلم يتبق في القرية إلا القليل من الأهالي أغلبهم من العجزة، وأصبحت القرية شبه خاوية فرفض زربة طلبها.
على الرغم من زيادة دخل زربة المادي، إلا أنه صرفها على أولاده والقات واللحم، ولم يدخر منها شيئا فكل يوم عنده عيد؛ حتى إن أولاده نجيب ومنير وعبده درسوا في الجامعة على نفقتهم الخاصة، كانوا يشتغلون عتالين بعد الظهر عند التجار.
بلغت ابنته الكبرى نصرة العشرين من العمر، وكان عليه دين كبير لمقبل الدسم وابنه حسن قيمة القات واللحم، فطلب مقبل ابنته نصرة لابنه حسن. زفت نصرة إلى دار زوجها بثوب عليها لا غير، وتحولت ليلة العرس إلى نواح عند صفية، كانت تقول : زوجت بنتك نصرة
49
بقيمة القات واللحم. الله يكسر ضروسك ... الله يجعل لشجرة القات الجراد.
أما هو فكان يضحك ويقول: يا صفية، الجراد ما ياكلينش القات. - الجراد يعرف ضرره أحسن منكم. - بنتك، شتشرب مرق وتأكل لحم وقات كل يوم. تحمد الله أنها تزوجت جزار ومقوت.
50
أحس سعد الوطواط بألم آخر ضرسين، فسافر إلى تعز للعلاج وركب له طقم أسنان، لكنه أعاده للطبيب بعد ثلاثة أيام بحجة واهية. قال لزربة إنه حين مضغ القات بطقم الأسنان لم يجد للقات طعما، وفضل أن يعيش أدرد يأكل العصيدة. واشترى له مدقا حديديا ليطحن به القات.
18
بلغ زربة الخمسين من العمر وازداد ألم ضروسه أثناء تناول الحلاوة، فكان يزردها دون مضغ وكذلك العنب أو أي شيء حلو. سافر إلى تعز ليشتري له دواء مهدئا للألم وبقي هناك عند ولده نجيب وهو يدرس في الجامعة صباحا ويعمل في المساء حمالا مع تجار قرية نجاد. خلال بقاء زربة في تعز وجد سعيد السلفي في شارع عصيفرة في زيارة لأحد أقربائه. جلسا معا يتحدثان فأخبر زربة أنه عائد إلى دماج عن طريق الحديدة-حجة، وأقنعه بالسفر معه إلى مدينة الحديدة للنزهة. عند وصولهم ذهبوا إلى سوق القات فشاهد زربة حزمة قات شامي بحجم إطار سيارة صغيره، يحملها رجل على رأسه. قال زربة بذهول وقد اتسعت عيناه: ما أكبر هذه الزرباااااااة! شتكفيني ثلاث أيام. - يا زربة هذي الزربة تكفي ثلاثين شخصا. هذا قات شامي من شام حجة، تباع في المزاد العلني، انتظر قليلا سترى بكم ستباع. هذا القات يهرب إلى السعودية.
بدأ المزاد وارتفع سعر تلك الحزمة إلى خمسين ألف ريال، ما يقابل ألفين وخمسمائة دولار. ثم رأى المشتري يقسمها إلى حزم صغيرة بحجم قبضة اليد، وباع الحزمة الواحدة بألفي ريال. وجد زربة في جيبه ألفا وخمسمائة ريال واستدان الباقي من سعيد، ثم ذهب يأكل وجبة خفيفة على الغداء، واتجه الاثنان بعد ذلك لمضغ القات على شاطئ البحر. كان هناك نساء يتخبطن في الماء بثيابهن وهن يسبحن بجوار أقاربهن . تحدث زربة عن سير العمل في مشروع المياه، الذي حصل عليه الشيخ ناشر جحاف منحة من منظمة دولية. حدثه سعيد عن عمله في مدينة حرض وعن دماج، وعن مدرسة دار الحديث وكم استقطب طلابا إلى المدرسة، وأخذ يشيد بمقبل بن هادي الوادعي: شيخنا مؤسس الدار، حصل على رسالة ماجستير في علم الحديث من جامعة سعود وهو أحد أقطاب العلم في الجزيرة العربية، لكن بعد أن وهن بدنه حدث بعض الاختلاف في الرأي بين أتباعه، الشيخ محمد سرور من جهة، الذي أسس دار الحكمة اليمانية الخيرية، ثم انشقت عنها جمعية الإحسان الخيرية والشيخ يحيى الحجوري من جهة ثانية، والشيخ أبي الحسن المأربي، أما أنا فسرت مع أتباع السروري.
استمر سعيد يتحدث عن دار الحديث، وكان يظن أن زربة يستمع إلى ما يقوله عن السلفية التي يرى أنها الفرقة الناجية. حينها كان زربة يستمتع بالقات الذي لم يذق مثله في حياته، ويرى نفسه يحلق كالنسر فوق أشجار القات الشامي في شعاب حجة، وتخيل أنه تزوج امرأة تملك مزارع القات في أحد جبال حجة، كان نصفه الأعلى لا يصلح للزراعة، فقام ببناء مدرجات إسمنتية فيه حتى قمة الجبل، وأحضر لها ترابا خصبا، واشترى لها محطة تحلية في البحر ومد أنبوب المياه إلى خزان في قمة الجبل، ثم زود كل حقل بأنابيب المياه العذبة، وخصص له حقلا لا يرشه بالمواد الكيماوية.
خرجت النساء من البحر، والثياب ملتصقة بأجسادهن في منظر مغر، وقفن على الصخور لتجفيف ثيابهن. أشاح سعيد ببصره عنهن واستعاذ بالله من الشيطان، والتفت نحو زربة وقال بصوت مرتفع مما أخرج زربة من عالم القات: بجوار عملي كمدرس لدي دكان في حرض لبيع الملابس يعمل به ابن أختي. ما رأيك أن تأتي معي وتعمل هناك، ستجد القات الشامي رخيصا هناك.
في اليوم الثاني سافرا إلى مدينة حرض، وأثناء السفر قال سعيد لزربة: ما رأيك أن تحضر أبناءك للدراسة في دار الحديث، الدراسة هناك مجانا والسكن والطعام كذلك، ويوجد سكن خاص للمتزوجين، لدينا هناك حي كبير فيه أكثر من ألفي منزل صغير، حياتنا هناك كعيشة الصحابة في المدينة المنورة. هي هجرة في سبيل الله. ابنك نجيب ومنير في الجامعة لن يجدا لهما وظائف بعد التخرج، لكن لو التحقا في الدار سيجدون لهم وظائف. ها، ماذا قلت؟ - منو
51
يصرف
52
على الطلاب والمدرسين عندكم؟! - يا أخي أهل الخير كثير ...
في مدينة حرض قابل أحمد ابن المداح يعمل في الجمرك منذ عشرين عاما. طلق زوجته الأولى في القرية وتزوج امرأة تهامية، استقبله ببهجة وذهبا معا إلى سوق كبير للقات الشامي، وأخذ يحدثه عن السوق وعن تهريب القات عبر الحدود على ظهور الحمير والمغامرين من الشباب. عرف زربة المبالغ المالية الكبيرة التي يكسبها المهربون. في تلك الليلة نام وهو يفكر بهذه المغامرة. تعرف على مهربي القات، بواسطة أحمد وصادق مجاهد الصراري، أحد كبار المهربين. هو رجل قصير القامة، سمين، ذو وجه أبيض يميل إلى الحمرة. في المساء بعد أن ينتهي من مضغ القات، يشرب نصف قارورة خمر لكي تساعده على النوم حسب زعمه. يشتري القات من المزارعين ويقوم بتهريبه إلى الأراضي السعودية، بواسطة أناس يختارهم بعناية، وقد تخصص بهذا النوع من التهريب. على الرغم من علاقته الوطيدة مع مهربي الأدوية والمخدرات مثل الكبتاجون وغيره. حين مد مجاهد يده ليصافح زربة وجدها خشنة ورآه رجلا قويا، يصلح لهذه المهمة.
19
بدأت أول رحلة تهريب لزربة برفقة كل من: سالم المدحجي، سعد البرطي، وحسن المسعودي، لهم خبرة ودراية في الطريق الوعر ومواقع حرس الحدود وأسلوب التخفي. أعطاه مجاهد كمية من القات، حينما حمله زربة على ظهره، ضحك وقال: يا مجاهد هذا حمل أطفال ههههه. - أعرف أنك تقدر أن تحمل أكثر، لكنك أول مرة تعمل معنا، سنعطيك أكثر حين تتدرب على العمل.
أوصلتهم سيارة الحدود السعودية المتاخمة لصعدة مقابل جبل النار في نجران. هناك التقى بهم حسن المسعودي، فحمل حصته من القات كانت على السيارة. لم يكن هناك حرس حدود من الجانب اليمني. كان القات ملفوفا بأوراق ولحاء الموز بإحكام، وكل يحمل معه طعامه وماءه فالرحلة شاقة. بدءوا رحلتهم الخطرة ليلا وهم يصعدون الجبال دون أن يحمل أحدهم كشاف ضوء، يتقدمهم المسعودي أكثرهم خبرة في دروب الطريق. قال المسعودي: لما نبلغ قمة جبل ... شنشاهد موقع حرس الحدود السعودي في جبل النار على بعد ثلاثة كيلو. كنا ننسق مع حرس الحدود لكنهم طماعين؛ فتركناهم واخترنا مسلك آخر.
انزلق سعد البرطي وهم يصعدون الجبل وأصيبت قدمه ولم يعد قادرا على المشي. وقف زملاؤه في حيرة، فأشار زربة على البرطي بالعودة وحمل نصيبه من القات. ضحك زربة وقال: قد حصل
53
لي مثل هذا مع سالم الحطاب.
وحكى لهم قصته مع الحطاب حين كاد يجرفه السيل وحمله على ظهره إلى بيته. وصلوا قمة الجبل قبل الفجر ثم هبطوا رويدا؛ خوفا أن تتدحرج حجرة وينكشف أمرهم. أشرقت الشمس فدخلوا كهفا صغيرا بالكاد يكفيهم الثلاثة وراحوا يشاهدون موقع حرس الحدود وأشجار السدر المنتشرة في السهول وهم يتناولون إفطارهم: كعكا، عصيرا، بسكويتا. لم يكف زربة، فتناول نصيب البرطي دون جدوى. حكى لهم زربة قصصا عن حياته، ثم حكى سالم المدحجي عن نفسه قال: كنت في سنة ثانية في كلية التربية ولم أستطع إكمال دراستي، بعد أن طرد المؤجر أبي من الدكان الذي فتحه ورشة للنجارة، واستولى على معدات الورشة بحكم من المحكمة. عملت في ورشة نجارة خمس سنوات فلم أستطع أن أجمع تكلفة الزواج، فقررت أن أعبر الحدود تهريبا للعمل داخل السعودية، ودخلت مع عشرة أشخاص، وبعد ستة أشهر قبض علي، لم يسمحوا لي حتى بأخذ فلوسي التي كانت في سكني وعدت مفلسا فوق عربة نقل إلى اليمن مع أكثر من مائة شخص بعد أن حلقوا لنا شعر رءوسنا، وأوصلونا إلى مدينة حرض. قررت ألا أعود إلى البيت إلا ومعي تكلفة الزواج. عمري الآن تجاوز الثلاثين عاما، وبهذه الرحلة سأكون قد حصلت على ما أريد وستكون رحلتي الأخيرة.
قال زربة بحزن: خذ الدنيا ببساطة، عيش يومك. لك عشر سنين تدور
54
مستقبل مليح، أنا طول عمري أدور عليه ما حصلتش ،
55
خليت
56
يومي عيدي، ما شتكونش
57
هذي فرصتي الأخيرة. أنا أشقى
58
على أحد عشر نفس في البيت.
حكى المسعودي عن نفسه: بصراحة أنا هنا أعيش قريب من الحدود، في قرية صغيرة مع زوجتي الجديدة وولدنا، كان عندي بيت وزوجة قبلها في مدينة حجة، لكنني لم أستطع العودة بعد أن طعنت شخصا فوق بئر الماء، كانوا يأخذون الماء يسقون القات ويبيعون «الوايت» الماء بعشرين ألف ريال، وسعره في صنعاء ألف وخمسمائة. كانت لحظة غضب، فقدت فيها استقرار حياتي بسبب التنازع على الماء. هربت إلى قرية على الحدود وذهبت إلى شيخ القرية، آخيتهم وصرت فردا منهم وعملت راعيا مع الشيخ، وتزوجت منهم. كنت أشاهد الأغنام تعبر الحدود وتعود عند الغروب، دون أن يعترضها أحد. عرفت مهربين كثر بعضهم كان يعود من رحلة التهريب كئيبا خائبا، بعد أن يكتشفه حرس الحدود ويجردوه من القات، فيقترض المال مني ثمنا لعودته إلى بلده، لكنه يعاود الكرة مرة أخرى، أو ينسق مع الحرس فيؤمن حمولته، وأعرف أيضا آخرين يهربون مواد أخرى غير القات.
سأله زربة: وزوجتك الأولى مو
59
عملت؟ - لم أستطع إحضارها، انتظرت ثلاث سنين ثم تزوجت. كانت جميلة، ما زلت أرى عيونها الخضر أمامي، اسمها نسمة وفعلا كانت هي نسمة. كلما أذكرها أندم على فعلتي الشنعاء، وألعن إبليس والجنبية والدولة التي لم تمنع أصحاب مزارع القات من استخدام مياه الشرب لسقاية القات. أعيش الآن مطاردا بعيدا عن أهلي. منذ تلك الفترة تخليت عن الجنبية حتى لا أقتل أحدا لأتفه الأسباب. أصبحت أرى الجنبية شر نتزين به.
قال سالم المدحجي: لو فكروا رجال القبائل مثلك، لانخفض معدل الجريمة كثيرا. - تقصد مثلكم يا أهل تعز؟ - ليس مثلنا نحن فقط؛ بل مثل كل دول العالم. قيل لي: إن جدي كان يتحزم بجنبية غالية الثمن، لكن أبي تركها ولم يهتم بها. - نعم، هناك جنبية بيعت بمليون دولار لأحد المشايخ ... - مليون دولار! غير معقول. لو بيعت هذه الجنبية في الخارج بكم تقدر؟ - دولار واحد. سكين يقطعون بها البصل والبطاط، يا مدحجي .
20
بقوا طوال النهار في الكهف؛ حتى لا يرصدهم حرس الحدود بالمنظار، وبعد الغروب تحركوا يمشون بين الصخور دون أن ينبسوا بكلمة ثم مشوا بحذر بين أشجار السدر التي كانت تخفيهم عن رصد المناظير الليلية. اجتازوا الحدود والخوف من دوريات الحدود يتملكهم، فكانوا يتنقلون بحذر. كان هناك قاع مستو مكشوف للحرس، فقرروا أن يجتازوه فرادى. تقدم سالم المدحجي يمشي سريعا، ثم تبعه المسعودي. قطف زربة بعض الأعشاب وربطها حول خاصرته، ثم تبعهم يمشي رويدا أشبه بشجرة تتحرك. وصل إلى حيث رفيقاه وهما يكتمان ضحكاتهما. وصلوا عند الفجر إلى بيت متعب اليامي المحاط بأشجار السدر الكثيفة، أخذوا قسطا من الراحة وتناولوا وجبة دسمة، أرزا مع لحم جمل. أخذ زربة يحشو فمه بالأرز بلقم كبيرة والجميع يحدقون فيه بدهشة. عادوا في الليل يمشون سريعا، ولم يتوقفوا إلا بعد أن وصلوا الأراضي اليمنية، وهناك تنفسوا الصعداء وضحكوا مما جرى لزميلهم البرطي، وكيف كان زربة يمشي في التل والأغصان حوله، وحين مشى على يديه ورجليه وهو يصعد الجبل. ضحك المسعودي وقال: كنت أبصرك مثل حماري الذي كنت أهرب عليه القات، لكن ما شاء الله تحمل أكثر منه. - يا جماعة، لأول مرة أحب بلادي. لما سرحت
60
حسيت أنها تدعو لي بالسلامة ولما رجعت حسيت أنها تحضنني. والله، لولا الحاجة لما أهنا أنفسنا بهذا العمل، ولما سرحنا نطلب شغل مثل الشحاتين عندهم وهم يزفرونا
61
مثل الغنم.
كانت هناك سيارة تنتظرهم أثناء عودتهم في مكان محدد أوصلتهم إلى مدينة حرض. ابتهج مجاهد الصراري لمقدمهم، أخبره المسعودي بما قام به زربة وكيف أنقذ البرطي من الهلاك والقات مربوط إلى ظهره وحمل القات بدلا عنه. ضحك زربة وقال: يا جماعة أنا خفت على القات مش
62
على البرطي.
قال مجاهد: يا زربة أنت أعجبتني من أول مرة أبصرتك وسأعطيك نصيب البرطي.
حصل زربة على مائة ألف ريال دفعة واحدة ، فرح كثيرا فهو لم يستلم مبلغا كهذا مقابل عمل يومين، وجد التهريب مربحا جدا وقرر الاستمرار في تهريب القات، وتوسعت أحلامه لتحقيق مستقبل جيد لأسرته ورأى نفسه أنه من علية القوم.
21
بعد ثلاثة أيام استعد زربة لرحلة تهريب أخرى. أخبروه أنهم سيعبرون طريقا آخر ستكون هذه المرة عبر وادي المخدرة في جيزان وسيعبرون صحراء. أخذ زربة معه مجرفة صغيرة. ركب السيارة هو ورفاقه إلى أن أوصلتهم إلى المكان المحدد على الحدود. حمل زربة القات على ظهره ضعفي المرة السابقة، كان يبدو كحمار يحمل على جنبيه، فكان يمشي وهو يتوكأ على المجرفة. مشوا ليلا على جانبي الوادي حيث تغطيه شجر السدر لم تكن الطريق وعرة، يمر فيها الحمير المدربة على التهريب. أثناء مشيهم ليلا وجدوا حمارا عائدا، بعد أن أوصل حمولته من القات إلى المكان المحدد في منطقة عسير. سأل المسعودي زربة: كم تقدر سعر هذا الحمار؟ - عشرين ألف ريال. - قيمته هنا مائتا ألف ريال. حاول أن تقترب منه.
اقترب زربة من الحمار فرمحه برجليه. مال قليلا عن الرفسة فوقعت على القات وانقلب على جنبه، وفر الحمار مسرعا. ضحك رفيقاه ثم قال المسعودي: لو كان الحمار يحمل القات شيبرك على بطنه مباشرة حين يرانا، ثم يتابع سيره بعد أن يشعر بزوال الخطر عليه.
كان يمشي خلفهم خمسة أفراد يمنيين واثنان صوماليان يحاولون التسلل إلى الأراضي السعودية. خاف زربة منهم لكن المسعودي أخبره أنه قد اعتاد على هذه المشاهد وهم يعبرون عن طريق بني سالم في صعدة، متوجهين نحو عسير. يوجد هناك أسلاك كهربائية تمنع المتسللين إلى الأراضي السعودية، لكن المهربين كانوا يحفرون تحت الأسلاك ويمرون ليلا، وحين يكتشفهم الحرس يحفرون مكانا آخر. قتل البعض وسجن الآخر، إلى أن شددوا الحراسة فكانوا يطلقون النار على أي هدف يقترب من الأسلاك على مسافة بعيدة. مر المتسللون بجوار زربة ورفاقه وهم يمشون بخفة، وكان الصوماليان يحملان على ظهريهما حقائب صغيرة. قال لهم المسعودي: موفقين، إن شاء الله ما يمسكمش
63
العسكر.
وصل زربة ورفاقه الصحراء صباحا، فكروا أن الحرس لن يمروا في مثل هذا الوقت. مشوا فيها قليلا فشاهدوا دورية حرس الحدود تقترب باتجاههم، فأيقنوا بفشل مهمتهم وتخيلوا السجن أمام أعينهم. انبطحوا أرضا، أسرع زربة يحفر بالمجرفة وغطاؤهم مع القات بالرمل، ثم غطى نفسه. مرت الدورية بقربهم فلم تشاهد إلا كثبانا رملية صغيرة وابتعدت عنهم، لكنها ظلت تحوم حول المنطقة؛ فهم متأكدون أنهم شاهدوا المهربين. وقفت السيارة واعتلى أحد الجنود تلا صغيرا، ووقف هناك ينظر حوله بالمنظار. هتف لأصحابه: بلعتهم الصحراء! - أظنهم مهربي القات، خسرنا صفقة كبيرة.
لم يستطع المسعودي والمدحجي البقاء كثيرا تحت الرمل، فتحركا من مكانهما، همس زربة: اصبروا إن الله مع الصابرين.
فضحكوا وهم في ظرف عصيب.
ابتعدت الدورية، فتنفسوا الصعداء. نهضوا من تحت الرمال كموتى خرجوا من قبورهم، وراحوا ينظفون: أنوفهم، آذانهم، شعرهم، ويتمضمضون بالماء الحار، أما القات فلم يضره شيء كانت أوراق ولحا الموز عليه بردا وسلاما. حمدوا الله على نجاتهم من الصحراء والجنود وأسرعوا يحثون الخطا، إلى أن وصلوا دار معسر العسيري. لم يجدوه في استقبالهم، كان في الدار امرأة في الستين من العمر لم تتعرف عليهم فقد امتزج عرقهم بالرمال وكان منظرهم منفرا ومضحكا. قال لها المسعودي: كيف حالك يا عمة موزة؟ أنا سعيد المسعودي.
ضحكت على حالهم وأدخلتهم الدار ثم تواصلت مع معسر. أقبل بعد نصف ساعة، ضحك حين شاهدهم على ذلك الحال وراح يعد لهم الحمام ليغتسلوا. حكى له المسعودي عما جرى لهم في رحلتهم. قال معسر لهم: أستقبلكم أنا عادة قبل الظهيرة، وحين تأخرتم عن ميعادكم، اعتقدت أنه قبض عليكم، فتواصلت مع الصراري وأخبرته عن تأخركم.
قدم لهم معسر الغداء، فأكلوا وجبتهم وانتظروا حتى الغروب وعادوا ليلا ...
22
ذات يوم ذهب زربة ظهرا مع أحمد المداح ليمضغا القات في بيته، أعدت لهما زوجته زينب المداعة. حين قدمتها ابتسمت فبانت أسنانها الصفراء، عرف زربة أنها تلتقم الشمة البيضاء تحت لسانها. أخرج زربة كيس الشمة من جيبه، ووضع قليلا منها تحت شفته العليا، فأثناء مضغ القات لا توضع إلا هناك. دخن زربة المداعة وراح يخبر أحمد عما جرى له في الرحلتين السابقتين، وبدوره أحمد أخبره عن سير العمل في الجمرك وما يجري في دهاليزه الخفية. سأل زربة: ليش ما فيش معك عيال؟
64 - زوجتي عقيم، مو
65
شعمل بالعيال، لا نقدر ندرسهم، وإذا درسوا ما فيش وظيفة. - والله، يا أحمد أنت محظوظ بهذه المره،
66
ما رأيك تشوف لي مرة عقيم مثلها. لك هنا عشرين سنة. - يا زربة يكفيك، علمت أنك تزوجت اثنتين فوق صفية، ومعك عشرة أولاد. - أنا مثل ابوك، أزبابنا أتعبونا ههههه. قل لزوجتك تدور لي على مكلف
67
صادح
68
وشعطيها مكافأة كبيرة.
كان العرق يتصبب من جبين زربة، وعقله يأخذه إلى عالم آخر وهو يحشو فمه بالقات الشامي ويدخن المداعة. أثناء ذلك كانت هناك ذبابة تطوف حول وجهه وهو يتخيل خزنته محشوة بالريال السعودي والدولارات والناس تلتمس كرمه، أولهم صفية التي تحلم بحزام ذهب، وكذلك اشترى لبناته الحلي، وبنى عمارة ستة أدوار في تعز سماها برج زربة في قمته «طيرمانة»
69
زجاجية، تدور في كل الاتجاهات ليمضغ القات فيها هو وأصدقاؤه. وفكر في تسوية الأمر مع محصل ضرائب العقارات والزكاة كما يفعل الآخرون، وتقرب إلى بعض المتنفذين في الدولة لحماية مصالحه. كان سيستمر أكثر في عالم القات، لولا تلك الذبابة التي كانت تطوف حوله، وقفت على خده فصفعها.
خرج زربة مع أحمد بعد غروب الشمس إلى السوق، وتناول وجبة العشاء، ثم ذهبا واشتريا القات لسهرة المساء وكان لدى زربة في جيبه عشرة آلاف ريال، وبطاقته الشخصية وبعض الأوراق المهمة. عندما أراد أن يدفع قيمة القات لم يجد المحفظة. لم يهتم زربة بالمال الذي سرق بقدر اهتمامه بالأوراق. فكر أن يذهب إلى القسم؛ ليشكو ما حصل له عسى أن يجدوا السارق فالمدينة صغيرة. لكنه لم يذهب إلى قسم الشرطة، أخذه أحمد إلى شيخ السوق الذي يلقبه العامة بشيخ السرق. له سلطة أقوى من سلطة قسم الشرطة. بعد ثلاث ساعات أعاد الشيخ إلى زربة ما فقده إلا المال، قال له الشيخ إنها سارت مصروفات البحث عن السارق.
23
استعد زربة لتهريب الدفعة الثالثة من القات مع رفيقيه المدحجي والمسعودي وشاب آخر في الخامسة والثلاثين من العمر، لأول مرة يخوض هذه المغامرة، أسمر، طويل، مفتول العضلات. أوصلتهم السيارة إلى المكان الذي عبروا منه أول مرة في نجران ومشوا حسب الخطة الأولى. جلسوا في الكهف نهارا يتناولون وجبتهم ويتحدثون في أمور عديدة. تعرف زربة على رفيق رحلته الجديد عمر المحويي، أخبره أنه يعمل في مقلع للأحجار في قريته، لكنه بالكاد كان يوفر ما يقابل لقمة العيش له وأسرته. اجتازوا الحدود بسلام وهم رابطون حول جنوبهم فروع الأشجار. استقبلهم متعب اليامي كالعادة فسلموا له القات ثم تناولوا وجبة طعام. أثناء العودة ليلا وهم يصعدون آخر جبل ... في حدود الأراضي السعودية، كان سالم المدحجي مبتهجا وهو يقول لزربة: هذي آخر مرة أعمل في هذه المهنة. - خلاص جمعت حق الزواجة؟ - نعم، الحمد لله. شجلس في القرية أزرع أرض الوالد ونزرع القات ونحفر بئر. سنغتني يا زربة. سأتزوج ابنة خالي. طز ببنت جارنا التي أحببتها، زوجها أبوها إلى أحد المسئولين.
وصلوا قمة الجبل قبل شروق الشمس. وقف سالم على صخرة كبيرة وهو يعبر عن فرحه بإتمام مغامرته الأخيرة بسلام. فرد يديه للريح كجناحي طائر، يستنشق الهواء الطلق وهو ينظر إلى الأراضي اليمنية، وشعر لأول مرة بالحنين إليها. التفت إلى الخلف يقول: وداعا يا أرضنا القديمة.
فجأة سقط من على الصخرة إلى منزلق خطير أسفل الجبل، يصعب على أحد الوصول إليه. بكى زربة وكذلك رفيقاهما مما حصل لسالم، ثم تساءلوا: كيف سقط فجأة؟! لم يسمعوا إطلاق نار، ولم يشاهدوا في موقع مراقبة الحدود السعودية سوى ضوء. لم يستطع زربة ورفيقاه أن يفعلوا شيئا لسالم المدحجي. عاد زربة وقد كره المغامرة بالحياة وقال لرفاقه: ليش
70
نموت من أجل لقمة عيش؟ ليش ما نكون أفضل منهم ليش؟!
الأصيل
الشمس ترتدي عند الأصيل حلة العصر الذهبية وهي راضية عما منحته للعالم. ***
1
عمل زربة في البناء لمدة شهرين في مدينة حرض، تعرف على الكثير من الأصدقاء في المدينة التي أخذت في التوسع العمراني، وازدهار الحركة التجارية، على الرغم من جوها الحار وافتقارها للبنية التحتية. عملت زوجة أحمد المداح جاهدة للبحث عن زوجة لزربة لتنال مكافأتها منه؛ فوجدت امرأة تهامية حسب طلبه، عمرها خمسة وثلاثون عاما. تزوجت مرتين ولم تنجب أطفالا، لكنها عرجاء تمشي برجل صناعية وتتناول الشمة البيضاء. حين أخبره أحمد بذلك قال زربة: يا أخي خليني
1
أكسب ثواب. - تشرب شمة بيضاء مثل زوجتي. - وأنا أشرب شمة سوداء ما فيش
2
فرق هههههه.
أخرج زربة كيس الشمة من جيبه، ووضع قليلا منها تحت شفته العليا، ثم سأل أحمد: قلي لمو
3
هي عرجاء؟ - رجلها اليمني مقطوعة
4
من فوق الركبة، معها رجل صناعي. قالت زوجتي إنها قبل سنتين زارت أختها في صعدة نهاية الحرب الخامسة، وانفجر لغم أرضي في السيارة التي كانت تقلهم.
تزوج زربة زوجته الرابعة حفصة، كانت تبدو جميلة في ليلة العرس، ما عدا أسنانها المصفرة. انتهى حفل العرس وذهبا إلى النوم وهي تعرج قليلا. أخذ يستعجلها لتخلع فستان العرس. قالت له بخجل وهي تنظر إلى أرضية الغرفة: أخبرك أخي عن امحادث
5
اللي حصل لرجلي؟ - عرفت قبل ما يخبرني أخوك.
خلعت رجلها الصناعي فحملها وذهب بها إلى الفراش، وانطفأ نور المدينة. استيقظ صباحا وتفاجأ بالمساحيق مبعثرة على وجهيهما، وشعرها مصبوغ بالحناء. بلع الخديعة، لكن زربة أظهر لها الحب. شعر أنه يقدم خدمة إنسانية لأحد ضحايا الحرب، كما أنه لم يدفع سوى القليل مقابل هذا الزواج.
2
سافر زربة إلى أسرته في القرية بعد خمسة أشهر من زواجه بحفصة. لم ترحب به زوجته صفية فقد عرفت عن زواجه الأخير لكنها بلعت غضبها، فما عساها أن تفعل ولديها عشرة أولاد. دخل زربة غرفته ليستريح وحاول مداعبتها ليكسب ودها، فقال: يا صفية، كيف تغيري من مره
6
عرجاء؟ والله، لو شفتيها
7
شترحمي حالها. عملت فيها ثواب، الحرب ما وقفتش في صعدة، لها خمس سنين، منو
8
شيزوج الأرامل لو ما أحد يزوجش فوق زوجته. ربي داري، حلل للرجال يتزوجوا بأربع نسوان هههههه. - خلاص يا زربة، ارحم الأرامل كلهن: زوجة ثابت علي، زوجة سعيد سالم وفلانة وفلانة ... كم شترحم يا زربة. قل قدك تشتي
9
تزوج. - يا صفية تشتي زوجك يمشي في الحرام؟
قالت صفية وهي تبكي: أولادك كبروا والأسعار ترتفع، المدرسة تريد فلوس ... ابنك نجيب وعبده يشتوا زواجة. جالس أحمل الهم وحدي وأنت وراء النسوان، نسيت أولادك، ونحن نخرج من حرب وندخل حرب ثانية.
ضحك زربة وقال: ما شاء الله عليك يا صفية، عرفتي الصدق، الحروب أفقرتنا موش
10
أنا ما قدرتش أخليكم
11
مرتاحين. عاد نحن شندخل جحر
12
الحمار، سمعت واحد يقول: الحرب شتنتقل إلى صنعاء، الله يعلم مو
13
يخططوا تجار الحروب.
تناول زربة قطعة حلاوة فشعر بألم في أسنانه، أخذ يزردها كالثعبان ثم تناول قرصين «ساريدون». في اليوم الثاني صباحا أقبل المداح يتوكأ على عصاه وفمه نصف خاو من الأسنان. سأل زربة عن ابنه أحمد وهل أرسل له مالا؟ عاد المداح يحمل حزمة من القات لا غير. في اليوم الثاني ذهب زربة لشراء القات من سوق نجاد واشترى علبة ساريدون من دكان محمود ابن الملوق. أخبره محمود أن أباه اشترى في قريتهم خمسة حقول من ابن عثمان سالم التي تقع بجوار أرض زربة وقال: يا زربة، أصبحنا جيران في الحقول. إذا أنت تريد تبيع، نحن جاهزون. انتبه تبيع لغيرنا.
لم يحضر أهل القرية لزيارته كالعادة، فذهب هو لزيارتهم ولم يجد في القرية إلا العجزة وأحفاد المرحوم صالح عاقل القرية، الذي لم يحل محله أحد منذ وفاته. وجد سالم الحطاب يحلب بقرته ليرسل الحقين والسمن لابنه في صنعاء. زار ناجي المقشش فشكا له ضعف بصره وأحفاده يلعبون من حوله. كانت العجوز شريفة زوجة عبد الرقيب على سطح دارها، تعيش وحيدة في الدار وقد بلغت التسعين من العمر لكنها لم تفارق دارها، معرضة عن العيش في بيت أولادها في المدينة أو مع بناتها وأزواجهن في قرى بعيدة.
أثناء عودة زربة إلى مدينة حرض، مر على مدينة تعز، وجد ابنه عبده في شارع عصيفرة وقد أكمل دراسته الجامعية، كان بصحبة بعض شباب القرية الذين يدرسون في الجامعة، ويعملون حمالين في فترة بعد الظهر. جلس مع ابنه يمضغ القات في الرصيف بجانب الكثير من العمال، يتكئون على الطوب ويسندون ظهورهم على الجدران.
ذات ليلة أخبر زوجته حفصة أن الشمة السوداء أفضل من البيضاء؛ فهي تبصق الشمة البيضاء بعد دقيقة من تناولها تحت اللسان. أعطاها زربة قليلا من بودرة الشمة السوداء فوضعتها تحت شفتها السفلى، فشعرت بالدوار واستلقت على ظهرها تنظر إلى سقف الغرفة، وهي ترى كل شيء يدور حولها. حملها زربة إلى الفراش وخلع رجلها الصناعية ثم اعتلاها وهي تشعر بالدوار. قالت: يا زربة امشمة
14
حقك خليتني أشوفك
15
أربعة. - الشمة حقي خليتك
16
تشوفي
17
الصدق ههههه. - أمظهر
18
حقي اكتسر. خلاص أشوفك واحد، يكفي.
مرض زربة بالحمى، فأخذه صديقه أحمد إلى عيادة قريبة، وجدوه مصابا بحمى الضنك ثم أسعفه إلى مدينة الحديدة. داهمته غيبوبة الحمى فشعر زربة بدنو أجله، حينها فكر بأطفاله والعودة إلى القرية، بعد أن غاب عنهم ستة أشهر. عاد أحمد المداح إلى مدينة حرض، وهو يحمل معه ورقة طلاق حفصة، فبكت على مصابها، ودخلت في حداد على حظها العاثر، فهي لم تعش من حياتها سوى عشرة أشهر التي قضتها مع زربة.
3
شفي زربة من مرضه وسافر إلى القرية، لكن وجع ضروسه ازداد ألما. ذات يوم ذهب يصلي صلاة الظهر في مسجد القرية، ثم عاد إلى جوار بيته وجلس على سطح خزان مياه، الذي بناه من ربح تهريب القات، وملأه من مشروع المياه، للمستثمر سلام الحكيمي الذي عمل جاهدا لإنجاح مشروعه لتزويد القرى المجاورة بالماء بسعر زهيد. وقف ضده أصحاب مزارع القات، وبسببه كان سيحدث قتال حول البئر، كما حدث في منطقة صبر حين راح خمس عشرة ضحية؛ بسبب التنازع حول بئر بين السكان الذين يريدونها مياها للشرب وأصحاب مزارع القات، بعد أن جفت آبار كثيرة بسبب حفر الآبار العشوائية في البلاد من أجل ري القات. نظر زربة إلى الأشجار التي تكسو الجبال والتي لم يعد يحتطبها أحد، بعد أن حلت أسطوانات الغاز بدلا عن الأحطاب، كما سبق وأن استبدل الفلاحون الذرة والدخن بالقمح المستورد، وشجرة البن والبساتين بشجرة القات. جاء الوطواط وكان زربة ينظر إلى وادي الأثاور الذي أبدل جنته الخضراء بالقات. سأله الوطواط: مو تشوف
19
وا زربة؟ - وادي الأثاور. - خلاص انتهى الوادي. ما عاد به لا موز، ولا نخل ولا برتقال ولا كرث ... كله راح يا زربة، غرسوا بداله قات جعشني، حتى الماء ماعد فيش في الوادي يشترونه من بئر بعيد في سبت الصبيحة. تذكر يا زربة لما كنا نسبح في غيل الوادي، حتى أرض قريتنا نصفها صارت خراب، أرض عمك قاسم، وغالب الهندي وإخوته، وعبد القوي، وعثمان سالم، وعبده غالب ... وباع الكثير أرضهم. أرضنا انتهت يا زربة، والأراضي حول الوديان زرعوها قات وحفروا آبار، ما عاد بقي ماء نشرب عاد نحن شنهجر القرية مثل قرية ذارع. - يا وطواط، أنت ما عاد تحبش القات، قدك
20
أدرد هههههه ما عاد تأكل إلا العصيد. ليش ما قلتش هذا لما كان معك ضروس. - وأنت ضروسك استوت مع اللثة. قريب شتكون مثلي.
حضر زربة وفاة عبد الرقيب؛ نتيجة لسقوطه من سطح بيته بعد ضعف بصره. تلقت أسرته العزاء فوق قبره وتم قراءة القرآن له في المسجد. قال الوطواط: ابن عبد الرقيب مطوع، لا ذبح ولا عمل مولد لوالده. من لما هدموا ضريح الولي عبد الله قبل عشرة سنين، ما عاد يعملوا موالد ولا عزاء مثل زمان.
ذهب زربة إلى سوق قرية نجاد، قابل في الطريق ثلاث فتيات محجبات من قريته يرتدين البالطو الأسود، لم يعرفهن وهن عائدات من السوق، يحملن أسطوانات الغاز على رءوسهن. شاهد المهندس خالد سالم الحطاب يبحث عن القات الجيد فلم يجد رغبته، فقرر الذهاب إلى وادي الأثاور بسيارته؛ لشراء القات واصطحب زربة معه عبر الطريق التي شقت وسط قرية القرن تبعد ثلاثين كيلو متر عبر طريق وعر. شاهد مساجد خلال الطريق في قرى عدة. وصل الوادي فأخذه الحزن حين لم ير الفاكهة، والخضراوات، والنخيل ... لكن حزنه انقلب فرحا حين شاهد شجيرات القات، فاشترى خمس حزم قات وهو يقول: قات بلدي لي ولولدي. شاهد فوق السوق مدرسة صغيرة تقع على التل، وكان هناك عدد من الفتيات الصغيرات المحجبات والطلاب يخرجون منها. قيل له إنها مدرسة تحفيظ القرآن. استغرب من هذا التحول، فهو يعرف أن هذه المنطقة اختارت المرشح الاشتراكي عضوا لمجلس النواب.
4
بقي زربة في القرية شهرين دون عمل حتى جاءه المقاول نعمان دحان من قرية الأثاور، وفاجأه بخبر حصوله على عطاء لبناء مدرستين لتحفيظ قرآن للفتيات في قرية القرن وقرية الدقم القريبة منهم، وأوكله في بناء المدرسة التي في قريته، وحدثه عن قيامه ببناء العديد من مدارس تحفيظ القرآن في مناطق عدة: تعز، أبين، لحج ... قال زربة: سبحان الله مقسم الأرزاق. كان حظي بناء المساجد في المنطقة، وحظك أنت مدارس تحفيظ القرآن.
بلغ زربة الخمسين من العمر، وقد فقد متعته التي يحبها وهي الحلاوة. لم يعد يجد أقراص الساريدون متوفرا، فراح يخفف ألمه بأقراص بروفين بكميات كبيرة. حين سافر إلى تعز ساعد ناجي المقشش في حمل زوجته جليلة إلى طريق السيارات؛ لعلاجها من مرض سرطان الثدي، بعد مضي خمس سنوات على وفاة ابنتها الأولى بنفس المرض.
تغيرت الأحوال وأصبح تجار تعز يشترون البضائع من صنعاء وريدة، بدلا من المخا والحديدة. وجد زربة سائق الناقلة عبد الملك في شارع عصيفرة متوجها إلى صنعاء؛ لنقل بضاعة إلى تعز فاصطحبه معه؛ ليسليه بحكاياته في الطريق. اشترى عبد الملك قات صهباني من مدينة القاعدة. تفاجأ زربة وهو يشاهد مزارع القات على جانبي الطريق التي حلت محل الذرة والدخن. مضغ القات ثم راح يسرد حكاية من حكايات عمه قاسم، حين تمثل جنيا في الليل لأهل قرية الشرف، بعد أن دخل خلسة بيتا حديث البناء لم يسكنه أحد، وأخذ يرميهم بالجمر والرماد، فاعتقد أهل القرية أن الجن سكنوا البيت قبل دخول مالكها عبد الرحيم. خرج قاسم خلسة وبعض أهالي القرية جالسون حول الدار يقرءون القرآن، أحدهم نصح عبد الرحيم أن يقيم مولدا لابن علوان؛ فبيته فوق ضاحة الجن. لامه بعضهم على عدم ذبح أضحية عند تأسيس البيت. في اليوم الثاني ذبح عبد الرحيم ثورا وعمل مولدا لمدة ثلاثة أيام في البيت لطرد الجن.
وصل السائق جبل سمارة ونزل يشتري قات مريسي، ولما وصلا إلى بيت الكوماني توقف في السوق، واشترى ثلاث حزم كبيرة من القات العنسي هدية لأصحابهما في صنعاء. وصلت الناقلة إلى مشارف صنعاء وزربة يشاهد القات على شمال ويمين الطريق، وهو مغطى بشباك لحمايته من الصقيع. قال: يا عبد الملك، بلادنا أرض الجنتين من صدق، القات على يميني وشمالي، أحمد الله أنه خلقني في اليمن. - لو تشوف منطقة أرحب، شيعجبك أكثر. قلعوا العنب وزرعوا قات؛ لكن قات مليح!
وصلت الحافلة الحي السياسي في صنعاء، سمع زربة صوتا يناديه باسمه الحقيقي: يا أحمد صالح ... ناداه عدة مرات فلم يلتفت زربة إليه، ثم قال: يا زربة ... مو قدك
21
أصنج؟
22
كان ذلك الرجل أحد أصدقائه القدامى، نسي زربة اسمه الحقيقي؛ فزوجته تناديه بزربة وكذلك أولاده دلالا فيه. في صباح اليوم التالي أخذ السائق حمولته، وتوجها إلى الحديدة وهما في منطقة مناخة اشتريا قاتا حرازيا، الذي بدأت هذه المنطقة تتخلص من زراعته تحت تشجيع منظمات دولية لاستبداله بزراعة البن. وصلا باب الناقة قرب مدينة باجل والصمت يسود بينهما ثم بدأ السواق يبكي. سأله زربة: ليش تبكي يا عبد الملك؟! - ذكرت أبي، الله يرحمه.
مسح السائق عينه وأخذ القات ليرمي به، فهتف زربة: لا، لا أعطيني القات أنا شنتقم لك منه. قده مثل القات السامعي بكاني مرة في عدن.
5
وصلا الحديدة ظهرا، ووضع السائق سيارته أمام مخزن أحد التجار، ثم ذهبا يتناولان الغداء، سمكة وزنها ثلاثة كيلو مع الخبز الرشوش والسحاوق المكون من الجبن والطماطم. أخذ السائق القات الشامي معه وتوجها إلى الساحل، وهما في طريقهما قال لزربة: اليوم شيخليك
23
هذا القات تطير فوق البحر.
ذهب السائق للسباحة وجلس زربة يمضغ القات على الشاطئ، ويشاهد النساء وهن يسبحن بثيابهن، يضحك حين يقلبهن الموج على ظهورهن. كان يغض بصره أحيانا وهو يشاهد ثيابهن تلتصق بأجسادهن. كان هناك رجل يعلم امرأة سمينة السباحة وهي تطفو على ظهرها . بقيت تطفو مطمئنة وابتعد الرجل عنها، لما عرفت أنه لم يعد بجانبها أخذت تتخبط مثل سمكة خارج الماء وتسعل بشدة، كشف الموج جسدها الناصع البياض، وشعرها الناعم الطويل يطفو على الماء. شد ذلك المنظر زربة فرأى نفسه يقفز إلى البحر ويسير فوق الماء وانتشلها بين يديه. نظر يمنة ويسرة، فلم ير بشرا. وهو واقف فوق الماء يحدق في جمال المرأة فرأى نفسه يغرق معها في البحر، وهي بين يديه، ثم تحول الاثنان فجأة إلى سمكتين وراح يحضنها بزعانفه ويقبلها، وكانت الأسماك تطوف حولهما. سمع سمكة كبيرة كانت تنظر إليهما: أيهما أفضل البحر أم اليابسة؟ فصحا من خياله، وشاهد الرجل يسحب المرأة إلى الشاطئ، وراحت هي تصلح غطاء رأسها وتلملم شعرها. تحسس زربة سرواله الداخلي فوجده مبللا بماء اللذة.
خرج السائق عبد الملك من البحر، اتجه مستعجلا بعد صلاة العصر إلى السيارة، وتحركا بالبضاعة نحو تعز. جهز السائق مبلغا من المال في جيبه. وقف عند أول نقطة تفتيش فدس في جيب أحدهم مبلغا قليلا من المال، وهو يقول لزربة إنها إكرامية لا غير. كان زربة يعد نقاط التفتيش عبر الطريق فوجدها عشرين نقطة إلى أن وصلا مدينة تعز، ولكل نقطة كان لها نصيبها من المال. وصلا الساعة السابعة مساء إلى مخازن التاجر عبده المقش. أشاد السائق بزربة عند التاجر، فحصل زربة على إكرامية، وكان أول مرة يحصل على اكرامية كبيرة دون أن يقدم شيئا، وذهب يشتري حزمتي قات صعفاني لسمرة المساء، ثم مضى إلى بيت عمه في المسبح ثابت عمر وأصلح ما بينهما من خلاف على التركة. مضى عنده ثلاثة أيام كان يشتري أفضل أنواع القات.
6
بحث السائق عبد الملك عن زربة، فوجده صباح اليوم الثالث وقال: مبروك وضفتك عند المقش معاون معي، قاتك، طعامك، وإكرامية آخر الأسبوع. اليوم شنسافر مدينة المخا لنقل بضاعة. اشتري لك قات، بعد ساعة سننطلق.
تحركا بشاحنة كبيرة، يسمونها المجنونة، وصلا المخا باكرا وتوقفا أمام أحد المخازن، في شارع ... أتى العمال لتحميل الشاحنة بالبضاعة وكانت مجموعة من الكلاب البائسة تحوم حول المكان، عيونها حمر، وعليها رمال كثيرة. اهتز أحدهم بالقرب من زربة فنفض الرمل من جسمه. استغرب زربة من تحمل الكلاب للبيئة القاسية. قال للكلاب: مو جلسكم هنا،
24
قوموا سافروا تعز وإلا اطلعوا صنعاء، اللحم هناك في القمامة ملآن. السكان هنا ما فيش معهم أكل لأنفسهم. المدينة راقدة من ستين سنة.
عادا إلى تعز بحمولتهما الكبيرة. كانت هناك نقطتان عسكريتان، سألوا السائق عن التصريح، فأخرج لهم ورقة تفيد أن البضاعة تخص المقش. حين وصلا طرف مدينة تعز جهز السائق الإكرامية قبل أن يصل أول نقطة تفتيش. سأل زربة: ليش ما أعطيت إكرامية للجنود في خط المخا؟ - اسكت واتفرج بلاش، تحصل على معاش، بكرة تعرف كيف يذبحوا الكباش.
بعد أسبوع تحركا عند الغروب إلى منطقة ذباب، وأخبره السائق أن المقش هذه المرة سيجزل له الإكرامية، لكن زربة لم يكن مطمئنا من سفرهما ليلا وعودتهم في نفس الليلة. وصلا إلى قرية صغيرة قريبة من ساحل البحر فيها مخزن كبير. أقبل عدة عمال مستعجلين يحملون الناقلة بكراتين صغيرة، وكان أحدهم يحذرهم: انتبهوا الحمولة فيها كسر ...
كان هناك ضوء في البحر يتمايل ويقترب نحو الشاطئ، ظنه زربة قاربا يحمل متسللين صوماليين، فقد راءهم كثيرا يخرجون من البحر ويمشون في الطرقات إلى المدن. انطفأ الضوء وبعد نصف ساعة شاهد أناسا ينقلون كراتين من قارب إلى الساحل، ويدفنون بعضها في الرمل وينقلون الآخر إلى المخزن. حينها عرف أن المقش مهرب. غضب وقال: يا عبد الملك، ليش ما قلت إن المقش مهرب؟ أنا أكره التهريب. مات سالم المدحجي أمامي على حدود نجران، ما دريناش
25
هل قتلوه حرس الحدود، أو سقط من قمة الجبل. - يا رجل لي ثلاث سنوات أعمل مع المقش ما حدث شي.
رمى زربة بعمامته أرضا وبانت صلعته البيضاء وقال بغضب: أقول لك أنا أشقى
26
على عشرة جهال.
27 - يا زربة، ما تخفش، المقش منسق مع العسكر.
التقط زربة عمامته وقال: الله يقشك
28
أنت والمقش حقك شنشوف الليلة كيف شنرجع إلى تعز !
تحركت الناقلة الساعة الثالثة صباحا محملة بصناديق الخمر، رافقهما رجلان يحملان سلاح كلاشنكوف. وصلت الناقلة إلى الطريق العام، فانطلقت مسرعة إلى أن وصلوا نقطة تفتيش. سأل السائق عن الضابط عبد الحاكم، قيل له قد عينوا ضابطا آخر بدلا عنه. أخرج السائق مبلغا كبيرا من المال ودسه في جيب الضابط الجديد، لكن الأخير أصر أن يعرف ما تحمله الناقلة، حاول السائق زيادة المبلغ، فقال الضابط بغضب: وقف الشاحنة على جنب للتفتيش.
تقدم السائق بالناقلة للأمام وانطلق مسرعا في الطريق. أسرع الطقم العسكري خلفهم وهو يطلق الرصاص تحذيرا، فأسرع السائق أكثر. استمر الجنود بملاحقتهم وهم يرشقون الرصاص في اتجاه الناقلة. أخرج السائق مسدسا من تحت الكرسي وأعطاه لزربة، وقال له: لو اقتربوا مننا أطلق النار عليهم.
رفض زربة أن يأخذ المسدس، فهتف السائق: خذ يا بطل، لا تخف، انظر إلى الخلف وأطلق النار، هيا هددهم. نحن نعرف أنك شجاع وقوي.
كان الراكبان في الخلف متمترسين فوق الناقلة، يطلقان الرصاص على الطقم. اخترقت رصاصة المرآة التي أمام زربة. كان زربة خائفا فهو لم يقع في هذا الموقف في حياته. رأى نفسه في السجن وسعد الوطواط يضحك وهو ينشر خبر زربة في السوق، يصفه بالمهرب ورأى صفية تندب حظها. كان يرى أن تشويه سمعة المرء أكثر ألما من أن تصيبه رصاصة. لعن الإكرامية، وشتم السائق وهو يسمع تبادل إطلاق النار. كان يردد: يا ساتر، يا ألله ... أقول لك أنا ما نش
29
خائف على نفسي، أنا خائف على جهالي
30
من شيشقى
31
لهم. إخوانهم الكبار ما يشقوا على أنفسهم.
لعن القات، ورمى به من فمه. كان هذا أول مرة في حياته يخرجه من فمه قبل أن ينتهي مفعوله. أصاب أحد الراكبين الخلفيين عجلة الطقم العسكري وانحرفت عن الطريق واصطدمت بالرمل. اجتاز السائق منطقة الخطر فوقفوا على جانب الطريق ونزل من الناقلة يراقب حمولته فوجد الخمر يتسرب من بعض الكراتين، أما الرجلان فلم يصابا بأذى. بدل لوحة رقم السيارة بلوحة أخرى ثم انطلقوا فرحين بنجاح مهمتهم. وصلوا تعز الساعة السادسة صباحا، وقد جف الخمر المتسرب على السيارة، كان السائق يقدم رشوة لكل نقطة تفتيش يمرون بها. نزل زربة من فوق الناقلة يحمد الله على نجاته. قال للسائق: قل للمقش، زربة يأخذ لقمة عيشه بالسهل، يشقى على عشرة جهال، ما هوش
32
حق قتال.
7
ذهب زربة إلى الصيدلية واشترى باكت بروفين 400 مليجرام، يحتوي على مائة قرص صناعة هندية. رأى الحلاوة في السوق فشعر بالأسف من عدم قدرته على أكلها، ثم توجه نحو سوق القات واشترى القات الصبري من المقوت خرباش من قرية نجاد، فقد بنى زربة له فيما مضى بيتا في القرية، وبيتا آخر من ثلاث طوابق في شارع المسبح في تعز. كان خرباش يمضغ القات في الخدين وتحت شفتيه، يأكل وجبة واحدة في اليوم، يشرب الماء عبر قصبة صغيرة تدفعه إلى حلقه مباشرة، والنارجيلة لا تفارق فمه. يتحدث بصعوبة أثناء المضغ وأغلب حديثه بالإشارة. ينام ثلاث ساعات في اليوم وهناك من يفوقه إدمانا على القات حيث يستمر في مضغ القات لمدة ثلاثة أيام، إلى أن يغلبه النوم فيرقد لمدة يومين متتاليين. سافر زربة إلى قريته في نفس اليوم، في الطريق كان يتذكر تبادل إطلاق النار. حين مر فوق بيت المداح ونادى: وا مداح بيتك على شارع، افتح لك دكان. - وا زربة أين حقي القات والحلاوة. - خلاص يا مداح، انتهى عهد الحلاوة. تعال خذ زربة قات.
وصل زربة بالسيارة إلى قرب بيته، رآه أطفاله فأسرعوا إليه، احتضنهم بحنان ولم يذكر متى فعل هذا من قبل. استقبلته صفية عند الباب، سلم عليها وأخذها إلى الفراش وكان لقاء غير عادي، ثم اغتسل وتناول طعامه وجلسا يمضغان القات معا، وأخبرها بقصته مع المقش. كانت صفية مندهشة لما يقوله. قالت: آه، يا زربة، شتبيع نفسك بزربة قات. الله يجعل فمك أدرد، معك عشرة أولاد، أهل القرية سافروا يعيشوا في المدينة ونحن هنا، جالس أربي الغنم والدجاج وأنت تأكلهن. زوجت بنتك نصرة بقيمة القات واللحم. - والله، يا صفية كانت الرصاص تجزع
33
من جنب رأسي هههههه، المراية حق السيارة طارت في الجو أمامي. كانت السيارة تسرع مثل الصاروخ وقوارير الخمر تكسرين، والسائق كان مثل العفريت، معه قنابل ورقمين للسيارة. لو كنت يا صفية مثل زمان كنت ششل
34
لي كرتون ههههه، لكن الحمد لله تبت.
عرفت نساء القرية من صفية ما جرى لزربة، فوجد الوطواط حكاية يتسلى بها على الرغم من بلوغه الخامسة والستين من العمر. ذهب إلى السوق يقول: الناس يهربوا ذهب، سلاح، سيارات ... وزربة يهرب خمر، عاده يؤم الناس في الصلاة، هذا غير معقول، آخر عمره يهرب خمر!
لم يصدق أهل القرية أن زربة كان مخدوعا، وأن القات واللحم كان هو الطعم الذي اصطيد به. لم يغضب زربة من زوجته بإفشاء السر لكنه عاقبها بطريقة أخرى. كانت زوجته تملك تيسا صغيرا بين أغنامها، قذف رجل التيس بحجر ولم يعد التيس قادرا على المشي، وجاء به إلى صفية يحمله بين يديه وهو ينظر إليه نظرة ذئب وذبحه.
8
جلس زربة في القرية إلى أن نفذ مال المكافأة التي استلمها من المقش، ثم عاد إلى تعز وفي الطريق ترجل من السيارة مع بعض المسافرين في سوق القطعة جوار وادي ورزان لشراء القات، ذلك الوادي الذي كان لا ينقطع عنه الماء منذ القدم وأشجاره الظليلة متنزه وأحد مصادر الخضراوات والفواكه للمدينة كغيره من الوديان الخصبة التي استبدلت جنانها بالقات. كان زربة يجلس أحيانا في رصيف شارع عصيفرة؛ لمضغ القات مع العمال، فالتقى بالسائق عبد الملك، سأله عن المقش وأخذ يعاتبه على إخفائه حقيقة عمله، لكنه سامحه فهذا هو طبع زربة، يدرك أن البطالة والحاجة هي التي دفعته إلى ذلك العمل. كان عبد الملك يشعر بالذنب بخداع زربة المسالم في طبعه والمحبوب لدى الناس من حوله، فاعتذر له وسرد له ما يعرفه عن المقش: كان عبده المقش يبيع «شمة» في رصيف شارع جمال، بعدين
35
فتح صندقه
36
في نفس الشارع جوار الباب الكبير، ثم بعد ذلك فتح دكانا كبيرا يبيع مواد غذائية في شارع ... كان يخبر الناس أنه يدير المحل فقط، ثم قال إنه أصبح شريكا مع صاحب المحل. توسعت تجارته وبدأ بالتهريب. هرب: الذهب، السيارات، السيجارة الرثمان، الأدوية ... حتى الآن لا يعرف أحد من هو شريكه الذي يقوم بتسهيل كل أعماله له، ويدفع الضرائب والزكاة.
مد زربة رجله اليمنى على الرصيف ثم قذف بعقب السيجارة وقال: سمعت أنه بنى مسجدا في قريته بعد الذي بناه في تعز. - نعم، يا زربة هو يعمل الخير. يقف الفقراء طوابير أمام متجره في شهر رمضان. - لكن هذه فلوس حرام! - هو يطهر فلوسه بالصدقات، والصدقات تمحو السيئات! الآن هو شخص من الكبار يشتي
37
يرشح نفسه في مجلس النواب. لا ندري من أين حصل على الشهادة الثانوية.
حصل زربة على عمل في تعز وبقي هناك، لا يحلو له الغداء إلا والقات الصبري في جيبه. ذاك القات كان المصدر الوحيد للمدينة في السبعينيات من القرن الماضي، تبيعه نساء بجانب الرجال. كان زربة في شبابه يشتري القات من فتاة صبرية اسمها نسيم، في سوق باب موسى، ذلك الباب يذكره بما درسه عن دولة بني رسول، التي استمرت تحكم اليمن مائتين وخمسين عاما، وكان نظامها الإداري متميزا في ذلك الزمان على من حولها من الدول وتقدمت اليمن في علوم شتى.
لم تكن أقراص البروفين تهدئ وجع الأسنان فحسب؛ بل تزيد مفعول القات، وتزيل الفتور الذي أصاب ساعديه مؤخرا، فقد شعر بالحسرة وهو يحاول حمل فاطمة زوجة المرحوم عاقل القرية، حين أخذوها إلى تعز لمعالجته من ورم خبيث في الرحم. سأل الطبيب عن مسببات هذا المرض، فأخبره الطبيب أن أحد أسبابه هو مضغ القات، نتيجة لرشه بمواد كيماوية، وكذلك الشمة ... بعد أن استمع زربة إلى تحذيرات الطبيب، خرج مباشرة إلى سوق القات واشترى ثلاث حزم قات، وكيسين شمة. وضع قليلا منها تحت شفته العليا وراح يمضغ القات على رصيف شارع عصيفرة. فرش تحته كرتونا صغيرا واتكأ على حجرة لمضغ القات، بجواره شاب أمامه علبة مشروب «شارك» المقوي للطاقة، مزج معه قرص بروفين، وبارامول، وفاليوم. ابتلع زربة ثلاثة أقراص بروفين معا. تفاجأ الشاب وقال: يا عم، ما توجعكش معدتك؟ - أنا معدتي حديد، أبلع عشرة أقراص في اليوم. - لكن هذا خطر عليك! - ضروسي توجعني، أطباء الأسنان طماعين. مقدرش أتعالج عندهم.
سمع زربة صوت أذان العصر، فأخرج النثارة الخضراء من فمه، ووضعها في كيس بلاستيك صغير وربطها جيدا؛ لمضغها مرة أخرى بعد عودته من الصلاة، كغيره من متعاطي القات حين يذهبون إلى الصلاة أو العشاء. في المساء ذهب إلى بيت حسن مقبل الدسم مع سمير ناجي المقشش ونادر عبد القوي، يشاهدون قناة الجزيرة وهي تبث المظاهرة العظيمة الضخمة مباشرة من ميدان التحرير لمدينة القاهرة، تطالب برحيل نظام حسني مبارك. كان زربة يستمع إلى الحديث الذي يدور بين الشابين. صاح سمير بحماس وهو يرفع يده عاليا: تسقط الأنظمة الدكتاتورية العميلة. هذه ثورة الشعوب ضد العسكر.
قال نادر: تعتقد سيسقط نظام مبارك؟ - نعم، مثل ما سقط نظام بن علي في تونس. سيسقط العملاء، يريدون أن يورثوا الحكم لأبنائهم مثل الملوك. - يا أخي، النظام في مصر معه علاقات مع إسرائيل، ولن يسمح الغرب بسقوطه. - لا، يا نادر، هذه ثورات وطنية ضد العملاء. - يمكن يكون الغرب يريد وجوها جديدة في الوطن العربي، بدلا عن التي شارفت على انتهاء صلاحيتها.
ضحك زربة وقال: والله يا نادر إن عقلك نادر، أعجبني كلامك.
كان زربة كغيره يتابع الأحداث السياسية في الوطن العربي، وما يدور في بلادنا، فقد صرح المتحدث باسم اللقاء المشترك بالنزول إلى الشارع لفرض مطالبهم.
9
في الحادي عشر من فبراير (2011م) ذهب عدد من الشباب ينصبون خياما في منطقة الروضة شارع الهريش بجوار الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، تحت عيون النظام وأسموها ساحة الحرية. كان زربة يمر كل مساء ويشاهد تدفق الشباب إلى ساحة الاعتصام. كان زربة غير مصدق أن نظام الدولة سيسمح باستمرار تلك الحشود التي تطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية، لكن تدفق الشباب وغيرهم من الرجال والنساء إلى الساحة أخذ في التزايد، كذلك خيم المعتصمون في صنعاء أمام بوابة جامعة صنعاء الجديدة الشارع الدائري، وفي المقابل خيم مناصرو النظام في ميدان التحرير في صنعاء. كان زربة يذهب إلى ساحة لمضغ القات، يشاهدهم وهم يشكلون فرق تنظيم وفرق حراسة للساحة، ويوسعون المنصة التي من خلالها يلقون الخطب ويبثون الموسيقى الحماسية ويهتفون «ارحل، ارحل». ضحك زربة ذات يوم وقال لشاب كان يهتف بجواره: من يرحل؟ - الرئيس. - إلى أين؟ - من فوق الكرسي.
قال زربة بصوت مرتفع، والهتافات تعلو: من شيجلس بدله، واحد من الشباب وإلا الكبار؟ - أي واحد يا عم، المهم يرحل عن الحكم. له ثلاث وثلاثين سنة، ويشتي يورث ابنه الحكم بعده.
ذات مساء سمع زربة الحشود تهتف «الشعب يريد إسقاط النظام»، فدارت في رأسه عدة تساؤلات: «هل أصبح نظام الرئيس علي عبد الله صالح ديمقراطيا إلى هذه الدرجة، وهو الذي تخلص من معارضيه منذ أن تربع عرش السلطة. نظام كهذا من يقدر أن يسقطه؟» كان يتوقع أن تنزل الدبابات إلى جميع الساحات التي تشكلت في عدة مدن يمنية تطالب بإسقاط النظام. أكبرها ساحة التغيير في صنعاء. شاهد الحشود الهائلة تتزايد، والساحة تتوسع والخيام تزداد يوما بعد يوم حتى امتدت إلى ميدان التحرير وشارع عصيفرة. كثرت المنتديات الثقافية في ساحة الحرية، التي تلقى فيها المحاضرات من قبل: الصحافيين، المثقفين، السياسيين، المعارضين والمنشقين عن النظام، يدلون بآرائهم دون خوف من النظام، ذلك الخوف الذي لم يعد له وجود في الإنسان اليمني. وقتذاك صدق زربة أن هناك ثورة شعبية عارمة فتأكد أن النظام سيسقط وسيجبره الجيش على ذلك وسيستبدله برجل آخر منهم، لكن النظام لم يسقط؛ بل انشق على نفسه وأعلن قائد الفرقة الأولى مدرع في 21 مارس انضمامه إلى ثورة الشباب السلمية، ولأول مرة يعلم الكثير من الناس أن العاصمة كانت مشطورة إلى نصفين، الفاصل بينهما شارع الزبيري وأن هناك جيشي ولاء كلا منهما لقائده، ومناصرو النظام أخذوا أيضا في التزايد، يصلون صلاة الجمعة في ميدان السبعين ويلقون خطبهم ، بينما المعتصمون يصلون صلاة الجمعة في شارع الستين الغربي.
أدهشت زربة تلك الحشود التي كانت تتدفق من القرى إلى ساحة الحرية مكونة مسيرات هائلة، نساء، رجالا، وأطفالا تجوب شوارع المدينة، تجتاح جنود مكافحة الشغب المزودة بخراطيم المياه الحارة والقنابل المسيلة للدموع. لم يعد يخيف المتظاهرين دوي الطلقات النارية لأطقم العسكر، وهي تتقدم للأمام كسيل جارف. ساهم زربة في نقل المصابين مع فرق الإنقاذ إلى المعهد المهني الذي تحول إلى مستشفى ميداني وكذلك مستشفى الصفوة والروضة اللذان تكفلا بعلاج المصابين.
كان زربة يتردد أحيانا على بيت عمه ثابت عمر، الذي كان في هذه الفترة مؤيدا للثورة على الرغم من بلوغه الخامسة والثمانين من العمر، يذكر زربة بشبابه ويفتخر بمشاركته في حرب التحرير من الاحتلال البريطاني في عدن، وكانت عمته سعادة تحضر للجلوس مع زربة، فقد كانت تود فيما مضى أن تزوجه ابنتها جميلة. كانت أثناء انفرادها به تشكو له ضيق الحالة المادية؛ حتى إنهم أحيانا لا يجدون قيمة وايت الماء، فمشروع المياه لا يضخ الماء للمدينة إلا مرة كل أربعين يوما منذ عشرين عاما، ويكون ذلك اليوم عيدا للمدينة، فكان زربة يساعدهم، كلما سنحت له الفرصة.
ازداد الغضب الشعبي بعد جمعة الكرامة 18 مارس، يوم أن سقط خمسون قتيلا بعد صلاة الجمعة في ساحة التغيير بصنعاء، كانوا يقاومون الرصاص بالحجارة. كانت البهجة فيه لا حدود لها وهو يستمع إلى استقالات قيادات مدنية وعسكرية من صفوف النظام.
10
خرج زربة مع بعض المسيرات وهي تجوب شوارع المدينة. وجد هذه المسيرات تشابه المسيرة الكبيرة التي شارك فيها وهو فتى عام (1968م) بعد الانقلاب على رئيس الجمهورية عبد الله السلال، وتولي القاضي عبد الرحمن الأرياني بعده رئاسة اليمن، والتي راح ضحيتها بعض المتظاهرين أمام عينيه. حماس الشباب وثقتهم بنجاح ثورتهم عزز الثقة في نفسه وهم يتغنون بالأناشيد الثورية التي تهز عرش الحاكم، أثناء المسيرات وحول منصة ساحة الحرية.
تفاجأ ذات يوم بصديقه القديم محمد مدهش يعتلي منصة الساحة، كغيره من خطباء المساجد وأخذ يخطب خطبة حماسية ، والحشود تتزاحم حول المنصة تهتف له وتصفق. حاول زربة أن يقترب من المنصة، لكنه لم يستطع. رفع عمامته يلوح بها ليلفت انتباه مدهش إليه ، لكن الهتافات وحماس الشباب حال دون ذلك. أنهى محمد مدهش خطبته، فشق زربة الزحام بقوة إلى أن وصل إليه بعد نزوله من المنصة، فمنعه الحرس من الاقتراب منه، فهتف: مدهش، مدهش ... أنا زربة.
التقت نظراتهما، لكن محمد مدهش مر من أمامه كأنه لا يعرفه. ضحك زربة وقال في نفسه «لا يريد أن يذكر ماضيه». ذات مساء دخل زربة منتدى الثورة المقام في أحد الخيام الكبيرة. وهو يمضغ القات استمع إلى جدال حول انضمام قائد الفرقة الأولى مدرع إلى ثورة الشباب السلمية. قال شاب ملتح: ستنجح ثورتنا بإذن الله بانضمام قائد الفرقة الأولى مدرع علي محسن، لقد أرسله الله لحماية الثورة. رد عليه شاب آخر: هو أحد أركان النظام ونحن نريد إسقاط النظام كاملا. أراد أن ينجو بنفسه ويستثمر الثورة لصالحه. - لا، قائد الفرقة مع ثورتنا السلمية، سيجبر الرئيس على الرضوخ لثورة الشباب ويسلمها للشباب. - علي عبد الله صالح لن يسلم الحكم إلا إلى يد رجل أمين.
غضب الشاب وقال: أنت الآخر، عمن أمين أن تتحدث؟ - أمين علي عبد الله صالح ههههه.
على الرغم من الضحك الذي ساد في المنتدى، إلا أن الشباب انقسموا بين مؤيد ومعارض لانضمام قائد الفرقة، فتدخل حراس الساحة وأخذوا الشاب الملتحي بعيدا وظهر بعد ذلك خلاف في الساحة يبشر بانشقاق بين الشباب، لكنهم احتووا ذلك الانشقاق فيما بعد.
حين سمع زربة إعلان الناطق الرسمي لأحزاب اللقاء المشترك تأييد الثورة، وانضمام القبائل إلى الثورة، عرف أن ثورة الشباب ماتت قبل أن تولد من رحم اليمن، فراح يفكر كيف يكسب قوته بعد أن توقفت حركة البناء. رأى أن بيع القات مربح بين هذه الجموع الغفيرة فذهب واشترى القات بكميات كبيرة، وأخذ يبيعه في الساحة. حقق ربحا جيدا، ثم أحضر بودرة الشمة السوداء والبيضاء، لكنه لم يجد لها رواجا كثيرا بين المثقفين. بنى له خيمة في الساحة من طوب وصفيح؛ لينام فيها مثل بقية الشباب المرابطين في خيام الساحة، الذين يحصلون على وجبات غذائية مجانية، وتحرسهم فرق الحراسة المنتشرة في كل المداخل المؤدية للساحة.
كان زربة يجلس في باب خيمته يبيع القات وينفث دخانه. رحب باقتراح الشاب جميل الشرعبي في توسيع مساحة خيمته، ثم عمل لها حمام وأوصله إلى المجاري العامة. كان بعض المثقفين يحضرون خيمته يلقون المحاضرات وحولوا الخيمة إلى منتدى ثقافي، بلغت حرية التعبير سقفها العالي ضد النظام. رفع زربة لافتة كتب عليها «منتدى زربة» وعلقها فوق باب الخيمة وبقي يبيع القات في باب المنتدى.
11
ذات مساء مر عبده غالب الهندي مصادفة من أمام باب المنتدى هو وثلاثة من أولاده. فرأى زربة يبيع القات على باب المنتدى، عانقه ببهجة بعد غياب طويل وهو يضحك من اسم المنتدى. جلس الهندي عنده فأعطاه حزمة قات مجانا أما أولاده فدخلوا المنتدى يتجادلون مع الآخرين. أخذ الهندي يسرد لزربة حكايات كثيرة عن حياته وعن عمله في البناء منذ ثلاثين عاما في منطقة الجوف. سأله زربة: ما تزوجتش
38
هناك؟ - ههههه، يا أخي ما قدرني اتزوج، معي خمسة أولاد ما قدرتش أزوجهم، ثلاثة من أولادي خلصوا
39
الجامعة جالسين بلا شغل. الكبير مجاهد قده
40
مصاب بحالة نفسية. هذا النظام أفقرنا، ضيع شبابنا، يسرق البلاد والعباد ...
تحدثوا عن أهل القرية وعما مضى، وذكره زربة عن قصته القديمة حين لدغه الثعبان. ضحك الهندي وراح هو يذكر قصة ناصر المسحور عندما اختنق باللحم في عزاء صالح عاقل القرية، وأخبره أنه فتح دكانا في الجوف فأهلها ينفرون من هذا العمل، يرون البيع أقل شأنا عن الآخرين، لكنه أغلق دكانه بعد أن قتل أحد أبناء المشايخ في باب الدكان.
كان الهندي يتردد على زربة، ويخبره عن مشاركته في المسيرات مع أولاده، وعن الجرحى وعما حصل مع جنود مكافحة الشغب في الشوارع. أخذت الساحة تتوسع، حتى وصلت إلى خلف مدرسة الشعب وحوض الأشراف ومستشفى الثورة. ساعد الهندي زربة في بناء غرفة صغيرة من الطوب لابنه نجيب ، لبيع الوجبات الخفيفة والعصائر لرواد الساحة فهو لم يجد عملا منذ تخرجه من كلية التجارة، وبقي ناظم ابن الهندي يعمل معه. وكانت النساء المعتصمات في الساحة يترددن على بوفيه نجيب حتى وقت متأخر من الليل.
مرت لجنة من منظمي الساحة لمعاينة أفضل خيمة في الساحة، فحصل زربة على جائزة أحسن خيمة؛ لتوفر المياه والحمام فيها. شكر زربة شباب الثورة الذين ساعدوه في البناء، ولم يتأففوا وهم يشبكون حمام الخيمة بالمجاري العامة، كانت الرائحة تزكم الأنوف، إلا أن حماس الشباب جعلهم لا يتأففون كما هو الحال في الأيام العادية. وجدهم يضحون بأنفسهم باسم الشهادة في سبيل الثورة، رأى بعض الشباب يربطون عصابات خضراء على جباههم، كتب عليها «مشروع شهيد» وفعلا كان البعض يبحث عن الشهادة بصدر عار، والخطب الحماسية والأغاني الثورية تشحن طاقاتهم بروح الاستشهاد. كان يسأل نفسه كثيرا «إذا كانت ساحة الثوار التغيير أمام جامعة صنعاء يحميها قائد الفرقة الأولى مدرع والقبائل لقربهم منها، فمن يحمي ساحة الحرية في تعز؟ وهي محاطة بمعسكرات النظام من كل اتجاه.» رأى زربة بحدسه المتواضع أن ما يدور في البلاد شيء غير طبيعي، وأن هناك أمرا خافيا يقف وراء هذه الأحداث الجسيمة.
12
أحرقت بعض خيام ساحة الحرية في تعز، فأحس زربة أن النظام بدأ يمضي قدما لتفريق «ثوار الصدور العارية» وتوقع نزول المدرعات إلى الساحة. لم يصدق أن انقسام النظام من الداخل هو الذي أوقف الرئيس علي عبد الله صالح من قمع الثورة، فقد سمع أحد المثقفين في المنتدى يقول: «إنه يعتقد أن هناك أمرا أقوى من الجميع، بيده خيوط اللعبة، وأن المعارضة والنظام حجارة على رقعة شطرنج، ساحتها البلاد كلها، وما يجري في اليمن يجري في عدة دول عربية.» حينها اتهمه الحاضرون أنه جاسوس مع النظام يشكك بثورة الشباب المنطلقة من حاجتها إلى التغيير.
كان أهل القرية يزورونه في الساحة، تنقلهم حافلات مجانا للمشاركة في المسيرات، من ضمنهم الوطواط الذي قال له: ما شاء الله يا زربة، فتحت دكان في الساحة، وتبيع القات في خيمتك، وخلال تسعة أشهر زوجت ابنك نجيب.
أراد زربة أن يضحك، لكنه لم يستطع فخداه كانا منتفخين بالقات. سعل بقوة ثم قال: حصلت حقي الخيمة على جائزة، لا ترخيص بلدية، ولا ضرائب، حتى الكهرباء والماء بلاش.
الغروب
عند الغروب ترتدي الشمس حلة الوداع وتستعد لحياة جديدة في عالم آخر. ***
1
انتهى دور الساحة، وانتقلت الثورة إلى مسار آخر، سيطر فيها وجه آخر من النظام برئاسة عبد ربه نائب الرئيس السابق. فنقل زربة بضاعته من الساحة، وفتح لابنه دكانا في منطقة المسبح. زار زربة الساحة يوما بعد تشكيل حكومة باسندوه، ضمن اتفاقية المبادرة الخليجية في الثالث من يناير (2012م) وقف هناك بجوار أحد الشباب، وهما يشاهدان الجرافات تجرف المباني المستحدثة في الساحة. قال زربة: نجحت ثورة الشباب، لكن أين الشباب؟ الذين يحكمون الآن هم أجداد الشباب. - المهم يا والد سقط عفاش ... - أقول لك يا ولدي، هم الحكام الأولين ما تغيروش! النظام كان يمشي برجلين ولو كل ركبة تدق الثاني، وذلحين
1
يمشي برجل واحدة. الأعرج ما يقدر يمشي تمام يا ولدي. ولو كسروا الرجل الثاني ضاعت البلاد. - لا أفهمك يا والد! - شتفهمني بكرة.
2
مع السلامة.
ترك زربة ذلك الشاب لحيرته ومضى إلى الصيدلية، اشترى مائتي قرص بروفين، وتناول حينها ثلاثة أقراص.
2
ذهب زربة إلى منطقة الجعاشن في محافظة إب حيث مزارع القات الكثيرة؛ للعمل هناك في بناء بيت لأحد مزارعي القات. وجد نظام العمل هناك يختلف عن نظام العمل في منطقة الحجرية، فالعمل يبدأ الساعة السادسة صباحا، والقات على نفقة العامل، عرف كثيرا عن المحافظة الخصبة فقد كانت تزود اليمن بالذرة والدخن، أما اليوم فنصف أرضها الخصبة مزروعة بالقات.
حزن كغيره من الناس على ضحايا الصراع السياسي في البلاد حين سمع عن التفجير الانتحاري، أثناء أداء العرض العسكري في ميدان السبعين في صنعاء يوم الثاني والعشرين من مايو (2012م) والذي راح ضحيته مائة قتيل، كان يقف حينها على جدار مرتفع أثناء البناء، وكاد يهوي إلى الأرض وهو قابض على حجرة فقذف بها وكادت أن تصيب أحد العمال. لم يستمر كثيرا في الجعاشن وعاد إلى القرية، فهو لم يعد قادرا على حمل الأحجار الثقيلة؛ بسبب فتور ساعديه. بقي يتنقل أسبوعيا بين صنعاء والقرية على سيارة أحمد جابر من قرية نجاد، والذي يعمل مراسلا بين القرية وصنعاء، يحمل هدايا القرى: سمن، حقين، حبوب الدخن، لحوح ... للأهالي في المدينة، ويعود محملا بهدايا المدينة. وظل يعمل مساعدا لأحمد.
ذات يوم وهم بالقرب من مدينة ذمار أخذ الركاب يتحدثون عن مصير السلفيين، الذين كانوا في دماج بعد أن هجرهم الحوثيون من منازلهم. قال أحدهم: لماذا لا تحميهم الدولة؟ وكيف يخرجونهم وقد أصبحوا من سكان المدينة؟ - يا أخي، لماذا يدرسون هناك ولا يدرسون في الجامعات الحكومية؟ - هم يريدون دراسة علوم الدين فقط. - يا أخي، جامعة الإيمان تدرس كل العلوم الدينية، الدراسة فيها مجانا: أكل، شرب، وسكن. ما عاد بقي إلا يزوجوهم.
ضحك زربة والمسافرين، ثم أخرج أحد المسافرين تليفونه، وأراهم مشهد تفجير مسجد السلفيين في كتاف، وسمعوا هتاف الصرخة بعد تفجير المسجد مباشرة «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، النصر للإسلام».
استمر زربة في العمل مساعدا لأحمد جابر لنقل المسافرين ليكسب لقمة عيشه، كان يستمع لحديث المسافرين وهم يتحدثون عن تقدم القوات الحوثية نحو مدينة عمران وتصريح الرئيس عبد ربه أن «عمران خط أحمر»، فأيقن زربة أن الحوثيين بقواتهم البسيطة ستنكسر شوكتهم في عمران. حصرت عمران لمدة شهرين وتفاجأ الناس بمقتل حميد القشيبي قائد اللواء 310 مدرع وهو مرابط داخل المعسكر الواقع في المدينة، بعد حصاره لمدة شهرين. تساءل زربة: لماذا لم ينجده الجيش؟ أمر لم يفهمه الكثيرون.
3
قبل أسبوع من دخول الحوثيين صنعاء، كان زربة متوجها إلى سوق القات في باب شعوب، اندهش حين سمع امرأة محجبة سمينة، تمشي بتثاقل وتقول: كيف حالك يا زربة؟ أين أنت غائب؟
التفت إليها فلم يعرفها. - ما عرفتنيش
3
أنا نادية، يعووو
4
كيف الرجال بينسوا؟ - والله، يا نادية ما عرفتك. كيف حالك وحال أخوك وكيف حال ولدك زيد؟ - من لما طلقتني قبل عشرين سنة ما عا تزوجتش،
5
قمبرت
6
أربي جهالي،
7
وأخي علي، الله يرحمه، أما ابنه تامر توفي في الحرب السادسة في صعدة، وولدي زيد، مدير عام إدارة مكافحة القات في وزارة الزراعة، لكنه يخزن
8
كل يوم هههههه.
أخبرته عن عنوانها الجديد، وأن يكون حذرا في الأيام القادمة؛ فالحوثيون بقواتهم على أبواب صنعاء. لكنه لم يعد يخشى تفاقم الأحداث التي تنبئ بحدوث صراع آخر في البلاد، فقد اعتاد على الصراعات المسلحة على السلطة في حياته. تلك الأحداث أكدتها حشود الحوثيين الذين شاهدهم وهو في طريقه إلى القرية مخيمين بسلاحهم في منطقة حزيز وكذا الحشود التي سمع عنها في كل الطرق المؤدية إلى صنعاء بحجة المطالبة بتخفيض سعر البترول. حين عاد من القرية وجد تلك الحشود قد دخلت صنعاء من كل الاتجاهات بسلام، ونصبت خيامها في شارع المطار.
ذهب زربة للبقاء في بيت ابن عمه عقلان طاهر، في الحي السياسي، اعتاد أن يبقى في بيته لبضعة أيام حين يكون في صنعاء. تحدث معه عن إمكانية دخول القوات المسلحة الحوثية القادمة من عمران إلى صنعاء؛ لتلتحم بالحشود الموجودة في شارع المطار. قال عقلان بحماس: لا يمكن دخول قواتهم، شيتصدى لهم الجيش، وقوات الفرقة الأولى مدرع التي هزمتهم عدة هزائم في حروب صعدة، وعبد ربه صرح أن صنعاء خط أحمر. - يا عقلان الخط الأحمر عند عبد ربه هو خط أخضر. أقول لك شيدخلوا، أكثرهم قد هم داخل صنعاء، سلاحهم في البيوت. - لو دخلت قواتهم شتقع مجزرة داخل المدينة مع جنود الفرقة، ورجال الإصلاح جاهزون لقتالهم.
في ذلك اليوم أجبر زربة نفسه على عدم مضغ القات، وشجعه عقلان على ذلك. وقال: يا أخي، جزع
9
عمرنا ونحن نجري وراء القات. يا ليت أحد يمنعه من البلاد، لو كنت ما أخزنش
10
كنت قد بنيت أربع طوابق فوق هذي البيت. - ما أحد يقدر يمنعه يا عقلان، ما تذكرش لما محسن العيني قرر قلعه، قلعوه هو من رئاسة الوزراء. حتى الإمام يحيى شرف الدين قبل أربعمائة وخمسين سنة كان يشتي
11
يقلعه وتراجع عن قراره.
4
في ذلك اليوم لم يمضغا القات، وفي الليل تأخر زربة في نومه، فالقات يساعده على النوم خلافا للأرق الذي يسببه لكثير من متعاطيه . تحدثا في أمور شتى، وتذكرا ماضيهما وقادتهما الذكرى إلى قاسم حين حمله عبد الفتاح الملوق على كتفيه ومشى به أمام الجمهور في ميدان العرضي في تعز، بداية تولي علي عبد الله صالح الحكم. فقد كان قاسم لا يخجل من عمل شيء يجلب البهجة لمن حوله. وصلت جراءته يوما إلى التحدث مع الرئيس علي عبد الله صالح في ميدان العرضي، وهو يجلس على المنصة أثناء الاحتفال بالعيد السابع عشر لثورة السادس والعشرين من سبتمبر في مدينة تعز. كان قاسم ذلك اليوم يرتدي معطفا وقميصا ومئزرا بسيطا وعمامة، جلس في الجهة اليمنى من الميدان المخصص للرجال مع بعض أصدقائه من قرية نجاد، قبالة الجهة المخصصة للنساء اللواتي يحضرن لمشاهدة الاحتفالات أو مباريات كرة القدم. يتوسط الميدان منصة المسئولين حيث يجلس الرئيس. راهن قاسم عبد الفتاح الملوق ومنصور على الصعود إلى المنصة والتحدث مع الرئيس. قال لهما: إذا طلعت المنصة أتكلم مع الرئيس ماذا شتعطوني. قال الملوق: أتحداك، ما أحد يقدر يقرب منه، شيطردوك. منو
12
أنت؟ لا أنت شيخ ولا ضابط مهم! يا راجل
13
لو فعلتها سأحملك فوق أعداني
14
من هنا إلى شارع الشنيني.
اقترب قاسم من حرس المنصة قبل أن يبدأ الحفل وصاح أمام الجمهور: يا رئيس، يا رئيس أشتي أقابلك ...
منعه الحرس فارتفع صوته أكثر، وكان الجمهور يشاهد ذلك الحدث باهتمام. سمعه الرئيس فسمح له بالصعود إليه وسأله عن طلبه وهو يبتسم من جراءته أمام الجمهور. قال: ماذا تريد؟ - أريدك تقول لي: «كيف حالك يا قاسم؟»
بعد انتهاء العرض العسكري حمل عبد الفتاح الملوق قاسم على كتفيه، أمام الجمهور ومشى به في الشارع وهو يدندن: ألا ليه، ليه ... ترحم زربة وعقلان على قاسم ثم ذهبا إلى النوم.
في منتصف الليلة سمع عقلان صوت زربة وهو يصيح بصوت مختنق، فظن أن هناك لصوصا يتعاركون معه، فنهض من مرقده يحمل بندقية الكلاشنكوف وتبعته زوجته بالمسدس إلى غرفة زربة، وجداه نائما يئن. أيقظه عقلان: مو
15
جرى لك يا زربة. أنت مريض؟
استيقظ زربة وهو يتنفس بصعوبة. قال: دككت.
16 - أحسب
17
اللصوص دخلوا البيت أو الحرب بدأت في المدينة.
لم ينم زربة فيما تبقى من تلك الليلة، وفي الصباح ذهب يشتري حزمة كبيرة قاتا عصريا، بمبلغ زهيد. عاد يقول لعقلان: يا عقلان، شوف مو
18
استفدنا من الحرب، القات رخيص، سعره مثل الكراث هههههه. - الناس نزحت إلى قراهم متوقعين معركة طاحنة، الناس كلهم مسلحين حتى زوجتي سلحتها لنحمي بيتنا.
5
تأكد زربة من كلام نادية حين سمع بتقدم القوات الحوثيين نحو صنعاء ودخلوا من الجهة الشمالية الغربية، جهة مذبح، رغم وجود مقاومة باسلة من مليشيات مجهولة الهوية، قيل إنها من مقاتلي حزب الإصلاح. استمر زحف القوات الحوثية وتقدمت لتحاصر معسكر الفرقة الأولى رغم خسائرها البشرية الكبيرة. حين بدأ الهجوم على الفرقة صعد زربة وعقلان إلى سطح البيت، كما صعد الآخرون إلى سطوح منازلهم يشاهدون المعارك التي تدور حول الفرقة. استغرب زربة وهو يشاهد الفرقة تقصف من جبال عطان التي لم يسيطر عليها الحوثيون بعد. قال زربة لعقلان: مش أنا قلت لك،
19
الحوثيون شيدخلوا صنعاء. - تقول شينفذوا مخرجات الحوار الوطني، لهم سنة يعدوه. - يا زربة، هم يقولون إنهم جاءوا من أجل تنفيذ هذه المخرجات وتخفيض سعر المشتقات النفطية.
مر أحمد جابر بسيارته إلى بيت عقلان، يوم أن اقتحم الحوثيون جامعة الإيمان، بعد أربعة أيام من الاشتباكات الشرسة حولها. نادى زربة بخوف: قم سافر القرية. الناس هربوا من صنعاء، زادت أجرة الراكب إلى القرية ثلاثة أضعاف.
لم يجد زربة له مكانا في السيارة؛ فركب على سطح السيارة بجوار حقائب المسافرين. جلس يمضغ القات وهو يشاهد رتلا طويلا من السيارات متجها إلى مدينتي إب وتعز ... اشتد ألم ضروسه فابتلع أربعة أقراص بروفين.
ظل زربة في القرية يتابع الأحداث، بعد إعلان الحوثيين سيطرتهم على مقاليد الحكم، في الواحد والعشرين من سبتمبر (2014م). هدأت الأوضاع فعاد إلى صنعاء مع أحمد جابر، بعد أن تم التوقيع على اتفاق السلم والشراكة الوطنية، برعاية الأمم المتحدة والذي قضى بتشكيل حكومة جديدة، بقيادة خالد بحاح خلفا لما سمي بحكومة الوفاق الوطني «حكومة باسندوه». ظل زربة يتنقل بين تعز والقرية مع أحمد جابر ينقلون النازحين إلى القرى، حتى انهارت حكومة خالد بحاح وقدمت استقالتها، بعد فترة بسيطة من تشكيلها، وتلتها استقالة الرئيس عبد ربه من منصبه.
بعد حوالي أسبوعين وهما قادمان من القرية أوقفا السيارة على جانب الطريق مع السيارات الأخرى لمدة أربع ساعات، قبل بلوغهم جبل سمارة، ليسمحوا بعبور القوات الحوثية نحو مدينة إب، بعد تمددهم إلى مدينة الحديدة.
6
عاد زربة من صنعاء ودخل تعز لخلع ضروسه، وهناك التقى بسعيد عبده السلفي، وقد طالت لحيته عن آخر مرة التقاه فيها في نوفمبر (2013م) بعد خروجهم من دماج. كان حوله شلة من أصحابه يدعونه بأبي حذيفة، ذهب سعيد برفقة زربة إلى سوق القات، وجدا خرباش يبيع أجود أنواع القات. رحب بهما بابتسامة عريضة وبإشارة من يديه؛ فخده ممتلئ بالقات. استلم القيمة بالريال السعودي. تناول سعيد وزربة طعام الغداء ثم توجها بسيارة سعيد إلى جبل صبر لمضغ القات ومشاهدة المدينة من هناك. وضع زربة كفه على فكه، وهو يشكو من الألم، ابتلع أربعة أقراص بروفين، ثم سأل سعيد وهو يكتم ألم ضروسه: لمو
20
يكرهوكم الحوثيين، مو عملتم بهم؟!
21 - يا زربة، هناك أشياء نختلف عليها في العقيدة ووقفنا ضدهم مع الإصلاح في الحرب السادسة، وهم لم يقفوا معنا تركونا نواجه الحوثيين وحدنا. كان انتقامهم شديدا أجبرونا على الخروج خلال أربعة أيام. تركنا هناك حوالي ألفي منزل، اقتلعونا من جذورنا دون رحمة يا زربة. بكى البعض كأنه فقد أعز الناس إليه، فهناك عشنا جزءا من حياتنا بعيدا عن عالم الزيف والخداع والسياسة، كانت هجرتنا إلى دماج كهجرة رسول الله إلى المدينة، طغت المحبة على كل شيء بيننا، حتى الطلاب الأجانب كانوا يرون مدينة دماج وطنهم الحقيقي، أما الآن فقد تفرقنا في حضرموت وعدن وتعز والبعض عاد إلى الريف. قبح الله السياسة التي فيها يباع الدين بالدنيا.
أخرج زربة سيجارة وأعطى واحدة لسعيد وقال: خذ يا راجل،
22
انس الدنيا، حتى الدين صار سياسة هههههه . - يا زربة، نحن لا ندخن ولا نقرب السياسة، لكن بعد موت مقبل الوادعي تشتت أمرنا واختلفنا، مننا راح مع التجديد ومسايرة الزمان والمكان، ومنا تمسك بسنة أهل الحديث وعدم الخروج عن الحاكم، ومنا اتجه نحو الجهاد. - أقولك يا صاحبي، السياسة تخليك
23
تخدم عدوك وأنت موش داري،
24
مثل حقنا المجاهدين في أفغانستان، شوف
25
أيش
26
عملوا بهم بعدين،
27
أخذوهم «جونتانامو» يصبنوهم.
28
اشتد البرد عند الغروب فنزلا من الجبل، ذهب زربة إلى بقالة ابنه نجيب وهو يشكو من ألم ضروسه. في اليوم التالي ذهب إلى المستشفى الجمهوري لخلع ما تبقى من ضروسه، وبقي يتردد على المستشفى حتى خلعها جميعا، ثم عاد إلى القرية، يحمل مدق القات بيده. وهو في طريقه شعر بالحزن وهو يشاهد الزرع وقد يبس ما تبقى منه في الحقول المزروعة. وجد صفية عند الباب تمسح عرق الجبين وهي عائدة من الحقول تحمل على رأسها عشبا للبقرة، نظرت إلى فمه فبدا لها كفم رجل هرم سقطت أسنانه. قالت: دعيت عليك يا زربة «ربي يكسر ضروسك.» لمو
29
ما ركبتش لك طقم أسنان؟ - ما فيش
30
طعم للقات بالطقم، وسعره غالي. - كيف شتاكل: اللحم، الخضراوات والفواكه. - شطحنه بالمدق.
جلس زربة في القرية، يعتمد في طعامه على العصيدة أو خبز مهروس باللبن والسمن وأحيانا بالمرق، غالبا يجلس مساء على سطح بيته، يهرس قاته بالمدق الحديدي، صلصلته تسمع إلى الجوار من داره. عانى كغيره من كفاف العيش في ظل أزمة خانقة تعصف بالأمة. أخذ يعاتب نفسه على خلفته الكثيرة، رأى أنه لم يحقق لهم غير الطعام والشراب أما السعادة فلا. ضحك على نفسه حين راح يحسب كم من المال أنفقه على القات في حياته، انذهل حين وجده أضعاف ما صرفه على أسرته.
ذات يوم وجد عملة ورقية فئة ربع ريال في شنطة صفية، بجوار منديل شرف ليلة العرس المخضب بالدم، أخذ يشمها. قال لزوجته وهي تهرس له خبز الذرة بالحقين لطعام الغداء: لمو
31
خبيتي
32
هذي الورقة؟ - هذي الفلوس أعطيتني أنت، من حق ليلة عرسنا خبيتها مع المنديل. - آه يا صفية، كان حقنا الريال يساوي دولار، الله يضيع من ضيعه. - والله، ما نضيع إلا نحن يا زربة. - ضاع الريال مثل شبابي. تقولي
33
لو تزوجت بنت شابة سترجع لي شبابي؟ ههههه، مثل حقنا الدولة لما تتزوج واحد ثاني يرجع له شبابه، ههههه. - لا تحلم لا أنت ولا الدولة.
ملأ زربة خزان المياه ظهرا من مياه المشروع ثم جلس فوق سطح الخزان لسماع الأخبار من الراديو. حضر سالم الحطاب وسعد الوطواط وجلسوا يتحدثون عن هروب عبد ربه إلى عدن من مقر إقامته الجبرية في صنعاء. قال الوطواط: يا جماعة، كيف يقدر رئيس دولة يهرب من بيته وهو محاصر؟
قال الحطاب: أقول لك رحموه وإلا كانوا شيقتلوه، لا معه قبيلة ولا شيء يحميه، والجيش لا يزال بيد علي صالح. - يستحق يا رجال.
34
هو سمح لهم بدخول صنعاء. - ليش ما قبلوا استقالته؟ وكيف وصل عدن والنقاط العسكرية في كل مكان؟!
عاد زربة إلى داره وهو ينظر إلى السحب وقد تراكمت في السماء فتفاءل بالمطر، وفي الساعة الرابعة مساء هطل مطر خفيف لكنه يكفي بأن يرد الحياة إلى الزرع الظامئ. في المساء ذهب إلى لقاء حميمي مع صفية بعد أن تمنعت لعدم رغبتها في الفراش، هو أيضا وجد نفسه غير راغب في ذلك. ضحك حين قالت صفية: لمو
35
تغصبه؟ قده ما يشتيش.
36 - تذكري يا صفية لما كنا شباب، كنت أعمل خمس مرات في اليوم.
أكمل رغبته بصعوبة دون أن يشعر بنشوة حقيقية. في اليوم التالي كان زربة يجلس فوق سطح داره بعد العصر يستمع إلى الراديو، فتفاجأ بتصريح عبد ربه بتراجعه عن استقالته. هتف ينادي الحطاب: وا سالم، عبده رجع رئيس. - مو؟
37
شيحكم من عدن؟ - الله يعلم مو يخططوا الحكام ونحن راقدين. كله فوق رءوسنا، وهم جالسين في بيوتهم.
بعد أربعة أيام عند الغروب كان زربة في سقف بيته، يأكل فتة دخن مهروس اللبن الرائب. نادى سالم من سطح داره: وا سالم عبد ربه طلب من السعودية تتدخل في اليمن. رد سالم قائلا: مو تشاء السعودية مننا، قده
38
من زمان تتدخل، تعطي مشايخ القبائل وهم يعملوا ما تشتي.
كان زربة كلما سمع خبرا من الراديو ينادي الحطاب؛ ليسمعه آخر الأخبار. في يوم نزوح عبد ربه إلى السعودية ناداه: وا سالم عبده رحل إلى السعودية. - مو تقول شيحكم اليمن من السعودية؟ ههههه ...
7
كان زربة يجلس على سطح بيته يراقب بحزن حقول القرية التي لم تعد تزرع، ومنها قد جرفها السيل والتي كان يمتلكها جده وبيعت لتجار قرية نجاد، وهو الذي كان يتباهى بها وترك العيش في فرنسا من أجلها. حين كان يمر جوار قبره يشعر بالخجل ويدعو له بالرحمة، يشعر أنه كان حرا حقيقيا؛ فقد كان يأكل مما يزرع. - الحوثيون وصولوا عدن وا حطاب. - قد هم داخله من بعد الوحدة، مو غيروا ثيابهم.
في يوم الثامن والعشرين من شهر مارس (2015م) كان زربة في سوق نجاد، سمع من العائدين إلى القرية أن مجموعة من الشباب في مدينة تعز ذهبوا لنصب متاريس في جبل جرة والمسبح والروضة؛ لصد تقدم الحوثيين في المدينة، على الرغم من معارضة المحافظ للمظاهر المسلحة وبدأت الثورة السلمية تنحو منحى مسلحا في المدينة وأخبره أحدهم أن ابنه منير من ضمنهم. غضب زربة كثيرا فهو يعيش هذه الحروب منذ أن كان فتى في أوائل الستينيات إلى أن تجاوز الخمسين من العمر، ولم يشترك في أي حرب منها، يراها صراعا على الثروة لا غير، سافر فورا إلى تعز يبحث عن منير فوجده في شارع الشنيني في دكان صادق للمسحور يحمل بندقية. قال له غاضبا: أيش
39
تعملوا أنتم. تمنعوا من؟ قد هم داخل تعز من زمااااان، السلاح بأيديهم. أنتم بلا عقول. - يا زربة نشتي أن نحيد تعز عن الصراع. - يا ابني، مثلما دخلوا صنعاء، شيدخلوا كل المدن. هيا سافر معي للقرية. - والله، ما دخلوا تعز أبدا. عملنا ثورة على النظام، ويريدونا أن نرجع إلى أيام الإمام. - يا منير، كن مثل أخوك نجيب وعبده، يجروا وراء لقمة عيشهم يشتغلوا حمالين لما يحصلوا
40
وظيفة بحقهم الشهادات .
حاول أن يقنع ابنه بالعدول عن مشاركته في التصدي للحوثيين، وأخذ يخبره عن الماضي كيف ضحى البعض في ثورة سبتمبر ودافعوا عنها ثم طردوا وشردوا وقتل البعض، مثل عبد الرقيب عبد الوهاب وغيره. لم يقتنع ابنه، فقال: أقول لك يا ابني سمعتهم يقولوا إنهم نقلوا الحرب من صعدة إلى هنا. نحن يا ابني ما لنا دعوة.
انصرف منير وهو يرفع البندقية بيده عاليا ويقول لأبيه: يا زربة، لا تخبر أمي بهذا الأمر ... مع السلامة.
هكذا كان أولاده عندما يحبون يدللونه ينادونه بزربة. سافر زربة إلى القرية حزينا وترك ابنه لمصيره فهو يؤمن بقضاء الله. خلال أربعة أيام أصلح ما خربته الأمطار في حقوله. كان يشعر بالأسى حين يمر بجوار حقول أعمامه التي جرفها السيل، ويرى جده عمر يقف حزينا يعاتبه والدمع في عينه وأحيانا يراه في منامه في ثوب أبيض يقول له: «الأرض يا زربة الأرض. كل أحفادي تركوها فلا تتركها مثلهم.»
في منتصف ليلة السادس والعشرين من مارس (2015م) كان في لقاء حميمي مع صفية، سمع تحليق طيران التحالف العربي فوق سماء القرية. قام سريعا، لبس مئزره فقط وصعد إلى سطح الدار، شاهد الطيارات تحلق على ارتفاع عال، ليس كما شاهده في حربي عام (1972م) و(1978م) بين شمال وجنوب اليمن، ومعظم أهل القرية استيقظوا من نومهم؛ لمشاهدة تحليق الطيران وسماع دوي القصف على قاعدة العند التي لا تبعد كثيرا عنهم، ومشاهدة أضواء الانفجارات في عدن. لم ينم زربة وأسرته ما تبقى من تلك الليلة وكذلك سكان القرية حتى الصباح؛ بسبب الانفجارات المتواصلة في قاعدة العند ورصاص المضادات الأرضية التي لم تكن تصيب أي هدف. فتح راديو لندن وسمع بالغارات التي استهدفت المطارات اليمنية والدفاعات الجوية والمعسكرات ... تحت مسمى عاصفة الحزم، يقوده التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية؛ لضرب القوات الحوثية التي استولت على السلطة الشرعية في اليمن.
8
ازداد تردد زربة على سوق نجاد أكثر من مرة في اليوم، فهو يلتقي بأصدقاء قدامى من الذين نزحوا إلى قراهم. ذات صباح جلس بجوار شاب في السوق من نازحي المدن وهو يتصفح الأخبار في تليفون جلكسي ويشاهد باهتمام مباراة كرة القدم بين فريق برشلونة وريال مدريد. سأله زربة: مو تشوف
41
يا ابني؟ - المباراة. - تليفونك مليح أيش من صنع؟ - صيني. - متى نحن شنصنع تلفونات؟
لم يسمع الفتى سؤال زربة الأخير؛ لانشغاله بمشاهدة المباراة، كذلك لم يسمع طائرة وهي تحلق عاليا بينما زربة يتلع ببصره نحو السماء عله يراها، وكان الشاب يشاهد بتوتر على سير المباراة، ثم ضرب ناصيته غضبا وقال: هزم الريال، يا خسارة. - مو تقول يا ابني؟ حقنا الريال من زمان مهزوم؟ - يا عم ما أقصدش حقنا العملة. - مو تقصد يا ابني؟ - أعني فريق برشلونة هزم ريال مدريد الأسباني. - أحسبك
42
تبكي على حقنا الريال. أشبهك يا ابني بمقبل عبده نعمان. - نعم يا عمي أنا ابنه. - كيف حال أبوك، كنا أنا وهو ندرس سواء
43
في المدرسة، وأين إخوتك ذلحين؟ - كلنا جالسين في بيت جدي واثنين من إخوتي دخلوا السعودية قبل أسبوع. - من أين دخلوا السعودية والحدود مغلقة؟! - منفذ الوديعة مفتوح، ينزح اليمنيون إلى السعودية بالآلاف.
عاد من السوق باكرا ورأى نساء في الحقول يهرعن نحو زوجة صادق ابن ناصر المسحور، وقد استلقت على ظهرها وهي تصيح. ظن زربة أن ثعبانا لدغها، أسرع هو أيضا للمساعدة وسمع إحداهن تقول: زينب شتولد. أجرين يا نسوان. هيااااا.
وصلت النساء وقد وضعت وليدها على الحشائش التي جمعتها بين فخذيها. أسرعت إحداهن لتقطع الحبل السري بمنجل الحشائش التي كان بيدها فنهرتها امرأة أخرى، ثم أسرعت تلك المرأة وقطعت الحبل السري بحجرة حادة وربطته، وراحت إحدى النساء تتصل بالتليفون السيار إلى صادق تبشره بأن زوجته ولدت ولدا، ثم ساعدن زينب للوصول إلى بيتها وخيط من الدم يسيل على قدميها. كان الرضيع ملفوفا بغطاء رأس إحداهن، مستلقيا في سلة منسوجة من سعف النخيل. ضحك زربة وقال: ما شاء الله، ذرته وقامت. - وا زربة، أغضب الشيطان، شتمرع المكلف.
44
حين عاد إلى داره أخبر زوجته بما شاهده، فقالت له: إن زينب في ولادتها الثانية ولدت ابنها وهي تحلب بقرتها، ثم أخبرته عن أخريات تلد في الطريق وحين يجلبن الماء.
حضر زربة نقاشا دار في السوق بين بعض النازحين من المدن، وهم ينتظرون وصول القات قبل الظهيرة. ذلك النقاش الذي كان سيؤدي إلى نزاع بين أبناء المنطقة الواحدة. قال أحد النازحين، لم يعرفه زربة: أظن إذا لم ينفذ الحوثيون قرار مجلس الأمن (2216)، سيعطي ذلك مبررا لأمريكا بضرب اليمن مثل العراق، فهي ترى أن اليمن أهم مصادر للإرهاب، وكما ترون طائراتها بدون طيار تصطاد أفراد تنظيم القاعدة على الأراضي اليمنية منذ سنين، والطائرات لا تكفي للقضاء على التنظيم، فهي تبحث عن فرصة للتدخل العسكري في اليمن؛ لهذا يجب على الحوثيين ألا يعطوها هذه الفرصة وينفذوا القرار بسرعة. أليس كذلك؟
قال رجل آخر: يا جماعة، أدخلونا الحوثيون جحر
45
الحمار، علاقتهم مع إيران خوفت دول الجوار، انتهت عملية عاصفة الحزم بآخر قنبلة وزنها أكثر من عشرة طن أسقطوها على جبل عطان، ومات أكثر من مائة مواطن وبدأت عملية إعادة الأمل العسكرية. أنا أرى أن مخرجات الحوار الوطني هو الحل للأزمة.
كان زربة يشاهد كمال عز الدين غاضبا من قرية عرار، يعرف أنه من آل البيت ويقف مع الحوثيين. قال غاضبا: العدوان السعودي على بلادنا هو الذي أدخلنا جحر الحمار، لماذا يتدخلوا في بلادنا ويدمروا قواتنا المسلحة، أيش من مخرجات حوار تتحدثوا؟ يريدوا يقسموا بلادنا إلى أقاليم ضعيفة. سنحاربهم ولن نخاف من طائراتهم سنضربهم في عقر دارهم. هم معهم أمريكا وإسرائيل ونحن معانا الله. ومضى إلى بيته يشتم السعودية والمتآمرين معها.
مضى زربة خمسة وعشرين يوما في القرية يقضي أوقاته مع أصدقائه القدامى، يصطحب مدق القات معه حيثما ذهب. يستمع إلى الأخبار من الراديو كغيره من الناس فعرف بما جرى من تدمير للمعسكرات اليمنية ومخازن الأسلحة في أرجاء اليمن من قبل طيران التحالف العربي في ظل الحرب المشتعلة بين المتنافسين على كرسي الحكم، الذين يستخدمون الشعب المغلوب على أمره وسيلة لذلك.
9
وجد زربة الراديو صديقا بعد انقطاع التيار الكهربائي عن البلاد، يخبره بكل ما يجري في اليمن، مثلما كان محمد مدهش يخبره بما يحدث في الكواليس الخفية من صراعات كانت تدور في الساحة اليمنية بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وما كان يحصل لصنعاء من حصار في التاريخ القديم، حين يقوم إمام جديد يدعي أحقيته في الحكم. ازدادت ضربات الطيران والهجوم الصاروخي على جميع المعسكرات اليمنية بعد عملية إعادة الأمل، بينما القوات الحوثية تتقدم في عدة مواقع في عدن وأماكن أخرى وهناك اشتباكات على طول الحدود مع السعودية.
حين سمع زربة بالتفجير الانتحاري داخل مسجد في القطيف والذي راح ضحيته واحدا وعشرين مصل، ظهر على سطح بيته يصيح: وا مقشش، قد هم يفجروا بالمساجد في السعودية، مثلما قتلوا العلامة المحطوري في المسجد. - تقول لمو
46
يقتلوا المصلين، ما يشتوهمش
47
يصلوا في المساجد؟
خرج زربة فجرا مع زوجته وولده نجيب، وعبده، يحفرون أحواضا للماء حول الزرع لبعض الحقول الخصبة. فقد حان وقت «الجلب» للزرع بعد أن بلغ طوله مترا. ذكر زربة ولديه كيف كان يحرث أرضه حاملا المحراث على ظهره، يجره أفضل من الثور. عادوا من الحقول الساعة العاشرة صباحا قبل أن يصابوا بالعطش، فتح زربة راديو صنعاء وصادف ذلك اليوم الثامن عشر من شهر مايو، أول يوم من شهر رمضان، سمع أن ناشطة عدنية رشقت مندوب الحوثيين بالحذاء في جلسة محادثات مع مندوبي الحكومة الشرعية في اجتماع جنيف. قال زربة وهو سهران في السوق، يشاهد الذين يلعبون لعبة البطة (الورق) في السوق مساء: يا جماعة، أصحابنا ما كفاهمش
48
يضاربوا في بلادهم راحوا الخارج يضاربوا. فضحونا أمام العالم الله يفضحهم.
10
سألت صفية ابنها عبده عن سبب عدم عودة أخيه منير من تعز، فقال لها إن منير التحق مع المقاومة في تعز، لكنه بخير، فجن جنونها ولم يخبرها بما يسمعه عن المعارك الشرسة التي تدور رحاها على طول خطوط المواجهات لإخراج الحوثيين من المدينة. سألت زربة وهي غاضبة لماذا لم يخبرها بأمر منير ولماذا لم يمنعه؟ فأخبرها أنه عصا أمره ولم يسمع كلامه. ذهبت تسأل عنه أولاد عثمان سالم، الذين نزحوا إلى دارهم بعد أن قاموا بإصلاح ما تخرب منه، فلم تجد ما يفيدها، ثم ذهبت إلى عبد الرقيب فأخبرها أن منير بخير وأشاد بشجاعته بعد مشاركته مع المقاومة في جبل صبر حين استولوا على معسكر جبل عروس. شعرت بالاطمئنان قليلا ثم سألته عن أهل القرية الذين بقوا لمصيرهم في تعز. كانت تقف لبعض الوقت في طريق السيارات، تشاهد السيارات التي تحمل النازحين إلى القرى وهي تأمل أن يكون ابنها ضمن العائدين.
ذات يوم عاد زربة من سوق نجاد ظهرا بيده نصف دجاجة، وحزمة قات صغيرة، استقبلته صفية غاضبة وقالت: قم رجع ابني إلى البيت، والله ما جلست في القرية، أني تعبت به مش أنت. - يا مرة، المدينة محاصرة ما يقدرش أحد يدخلها. أنا نصحته ما سمع كلامي. ابنك مش مثل إخوته طلع شيطان.
بكت صفية كأنها ترى ابنها مقتولا. قدمت ابنتها جميلة وجبة الغداء، فجلس زربة حول المائدة وأخذ زربة يمضغ الدجاجة بلثته ويهرس بعضها بمهراس القات. حينها قال متأسفا: آه، نزعت أضراسي بنفسي، يا صفية. - لمو
49
ما عالجتهمش؟ - خلعهم أرخص.
50
كان كل ضرس يطحن ضرس يا صفية. - أنت السبب لقفك
51
طاحون قات. خليت أضراسك يطاحنوا بينهم بين مثل حقنا الحكام. - ما شاء الله قدك
52
تفهمي السياسة يا صفية، هههههه!
رفضت صفية في تلك الليلة أن تنام بجوار زربة ليلا، وحلفت ألا يمسها إلا بعد أن يعود بمنير إلى القرية، على الرغم أنه منذ أسبوع لم يقرب فراشها. ذهبت صباحا مع ابنتها جميلة لجمع الحشائش للبقرة وذهب هو صباحا إلى بيت المداح فوجد ابنه أحمد ضمن النازحين. جلس يتحدث معه، وأخذ أحمد يصف له الخراب والسرقات التي أصابت مدينة حرض، بعد أن صارت ساحة مواجهات بين الحوثيين والمقاومة. وأخبره عن دخول مدرعات كثيرة من منفذ الوديعة متجهة نحو مأرب. سأل زربة عن حفصة زوجته التهامية حفصة، فأخبره أنه لم يعرف عنها شيئا، وسأله عن تهريب القات، أفاده أن التهريب مستمر حتى أثناء الحرب كل يعمل في مجاله، وقد مات بعض المهربين المغامرين في وادي المخدرة والجبال المحاذية لجبل النار وجبل الدود، وبقيت منطقة بني سالم بعيدة عن المواجهات.
11
عانى زربة وأسرته من شظف العيش كغيره من الناس، شعر بالحزن وهو يزاحم الناس ليستلم حصته من المساعدات الغذائية المقدمة من المنظمات الدولية، التي لولاها لمات الكثير من البشر جوعا في البلاد، حتى إن بعض الأسر حصلت على المواد الغذائية أثناء الحرب، ما لم تحصل عليه أثناء السلام. سمع عبد القادر من قرية عامر وهو يقف في الطابور يتحدث: هذه الحرب كلها بسبب مشروع الأقاليم. يا أخي يعملوا استفتاء عليها.
رد عليه الوطواط: الرئيس السابق والحوثيون ما شوافقوش
53
عليها حتى بعد عشرين سنة من الحرب. مندوب الأمم المتحدة جمال بن عمر جاء يعمل فتنة وسرح بلاده.
لم تتوقف صفية عن الدعاء إلى الله ليعيد الله منير إليها سالما. ذات مساء حلبت بقرتها وأخذت منه لزربة كعادتها فهي ترى جسده يضعف أمامها، بعد خلع أضراسه. صعدت إلى سطح الدار حيث زربة وأولادهما يشاهدون القمر. جلست معهم وهم يتحدثون حول الحرب. شاركتهم حديثهم وقالت: السعودية تحاربنا ونحن ما عملناش لها حاجة، الله رزقهم وهم يلعبوا بالفلوس. - يا صفية، الملك سلمان يقول: السعودية تحارب مع المظلومين. ورجع الشرق غرب والغرب شرق في أمة آخر الزمان.
توقف المطر فيبس الزرع وقد بدت سنابله بالظهور. لم يتأسف الفلاحون كثيرا على ضياع محصولهم من الدخن والذرة، فقد عوضتهم المساعدات الخارجية من القمح والأرز والدقيق والسمن ... حين علمت صفية بمقتل تامر ابن عبده غالب الهندي، وهو يحارب مع المقاومة في جبهة مأرب التي بدأت هناك، أخذت تبكي على ابنها منير، فضيقت الخناق على زربة؛ ليعيد ابنها. خضع زربة لأمرها ووعدها أنه سيذهب إلى تعز ولن يعود إلا بمنير وسيحصد مع إخوته ما تبقى من الزرع أعلافا للبقرة.
12
سافر زربة بسيارة أحمد جابر مجانا وهو متوجها إلى صنعاء، نزل زربة في منطقة الدمنة، واستقل سيارة أخرى خاصة بارعة في صعود الطرق الجبلية الوعرة بعشرة أضعاف الأجرة للوصول إلى وسط المدينة عما سبق. أقلتهم السيارة عبر مديرية سامع وجبل صبر المنفذ الوحيد المتبقي لمدينة تعز. تلك الطريق التي كان ينقل عبرها المواد الغذائية والدواء بالحمير إلى المدينة عند بداية الحصار. استغرقت الرحلة سبع ساعات التي كانت من قبل تستغرق ساعة واحدة من القرية إلى تعز، وكما حدث مثل هذا الشقاء لصنعاء بعد ذلك حين قطعت طريق صنعاء-مأرب وكان الوصول إلى مأرب عبر مديرة البيضاء.
شاهد المدينة شبه خاوية وهو يتجه إلى بيت عمه ثابت عمر، وجد عمه بصحة جيدة بعد أن عمل عملية البروستات، يؤيد الحوثيين ليس حبا فيهم، بل لكراهيته للسعودية على الرغم من أن ابنه عبد الحافظ فقد ولده الوحيد جراء القصف الحوثي على المدينة. رأى زربة قصف طائرات التحالف وهي تقصف على مواقع الحوثيين، الذين بدورهم يقومون بقصف مواقع المقاومة في تعز، فهم يرونهم عملاء مع التحالف. استمع زربة كثيرا إلى الخلاف الدائر بين عمه المؤيد للحوثيين وأكبر أولاده عثمان الذي يرى أن الحوثيين غزاة. ذات يوم انضمت زوجة عمه سارة مع ابنها في الرأي فشتمهما ثابت وذهب إلى غرفته يشكو خروج زوجته وابنه عن طاعته. كثيرا ما كان ثابت يجلس بجوار بيته الواقع على الشارع الذي تمر فيه المقاومة، وحين كان قاداتهم يمرون يشتمهم ويصفهم بعملاء «الملك سلمان»، فكانوا يضحكون من كلامه فهم يعرفون أن أولاده من مؤيدي المقاومة.
سأل زربة جنود المقاومة التابعين للإصلاح عن ابنه منير الذين أخبروه أن يبحث عنه في فرقة أبو العباس في المدينة القديمة. ذهب إلى هناك فرحبوا به حين عرفوا أن له صلة بسعيد السلفي، وراحوا يبحثون في كشوفات الشهداء فوجدوا اسم منير محمد صالح العريقي بينهم، وتأكد من مقتله حين شاهد صورته وهو بلحية مبعثرة على خديه . جلس في مكانه منكسا رأسه نحو الأرض، حتى لا يشاهدوه وهو يبكي وهم يقولون له: ابنك شهيد، بطل. قاوم المعتدين الروافض. ابنك الآن مع حور العين.
أخذوا يصفون له شجاعته في المعركة ضد الحوثيين وعملائهم في حوض الأشراف الجحملية وجبل صبر، وأنهم سيدفعون له قريبا مبلغا كبيرا من المال تعويضا عن فقد ابنه. عاد باكيا إلى بيت عمه يفكر كيف يخبر صفية بموت ابنهما. حدث نفسه: «راح ابني أضحية للحكام، كيف يكون ابني شهيدا وهو يقاتل أخاه المسلم، وهل الله يطلب من الناس أن يقاتلوا من أجله، وينصروه وهو الناصر والقادر على كل شيء، وما معنى القتال في سبيل الله وكيف؟!» أسئلة كثيرة دارت في رأسه حول الشهادة في سبيل الله. وصل بيت عمه باكيا وأخبره بمقتل ابنه منير، فقال عمه غاضبا: ما عليه يقاتل الحوثيين، لو هو رجل يروح
54
يقاتل حدود السعودية.
اعترض ابنه عبده وقال: يا أبي نحن ندور
55
مستقبل لتعز، نشتي دولة أقاليم والرئيس السابق ما يشتيش أقلمة وجاء لنا بوجه حوثي. - والله، إنها فتنة عثمان إلى اليوم يا عبده.
نصح عمر ابن أخيه زربة بالسفر إلى القرية، وأخبره أن يكون حذرا من سقوط قذيفة فوق رأسه، أو رصاصة راجعة من الجو أو قذيفة عشوائية على المدينة، وأخبره أنه كان يود النزوح إلى القرية لو كان داره صالحا للسكن، وراح يدعو على الحكام الذين يتقاتلون بشعوبهم.
13
ذهب زربة إلى سوق القات بالقرب من السوق المركزي قبل الغروب ليشتري دفعة ثانية من القات، على الرغم من المعارك الدائرة بين المقاومة والحوثيين في حي الجحملية وشارع الستين ... والقصف العشوائي على المدينة. شاهد قصف التحالف العربي على مواقع الحوثيين حول معسكر 35 وقصر الشعب وقصر صالة، كان هناك دخان الموت الكثيف ينبعث من أماكن متفرقة من المدينة. مر أمام دكان صاحب الحلاوة عبد الحبيب القباطي في باب موسى وجده مغلقا، وقد تراكمت أمامه القمامة أكثر بعلو أكثر من متر، والكلاب الضالة تتصارع فيما بينها على عظمة صغيرة في القمامة المكدسة، حدث نفسه: «ما أشبه هذه العظمة بالتاج عند العرب».
وصل السوق فوجد المقوت
56
خرباش في دكانه أمامه المداعة. اشترى منه القات وذاق قليلا منه ثم أخرج النقود من جيبه وهو يشعر بالدوار، فارتمى بجسده على خرباش. حاول الأخير أن يتحدث وفمه محشو بالقات فلم يستطع. أخرجه وقال: قم يا زربة من فوقي ... مو
57
جرى لك، فجعتني!
58
وقبل أن يعرف بموت زربة سقطت قذيفة مدوية على السوق بالقرب منهما، وتبعثرت أشلاء المتسوقين وبياعي القات حولهما وارتطمت يد مسلوخة من الكتف بجسد خرباش حول معصمها ساعة ثمينة، فأبعدها عنه برعب. قام من تحت جسد زربة وهو لم يستوعب الدم الذي عليه هل هو من جسده أم من جسد زربة. نجا خرباش من الموت فجسد زربة حماه من شظية مميتة، وبعد أن تعدى ذهوله مما حصل، رأى تلك اليد وقد نزعت الساعة عن معصمها، وسمع أنين الجرحى والمسعفين يصيحون: خمسة عشر شهيدا ...
منهم من اتهم طيران التحالف العربي بقصف السوق ومنهم من اتهم الحوثيين. سجل زربة ضمن قائمة الشهداء عن عمر ناهز الرابعة والخمسين من العمر. مات والقات في فمه يوم 20 / 8 / 2015م. كما كان يتمنى يومه الأخير أن يكون.
نامعلوم صفحہ