وقد خفق قلب أم حمدة لسيرة الأجور؛ ولكنها قالت بنبرات أسيفة: صدقت يا ستي، كان الله في عونك.
ولم تفتها ملاحظة هامة فتساءلت: لماذا تكثر المرأة من ترداد هذه الشكوى؟ وذكرت أنها أعادتها على سمعها مرات! بل ذكرت أن هذه ثاني أو ثالث مرة تزورها في غير أول الشهر. وخطر لها خاطر عجيب دهشت له بحكم وظيفتها، وكانت في أمثال هذه المسائل خاصة، ذات فراسة لا تجارى، فصممت أن تسبر الزائرة من وراء وراء، فقالت بخبث: هذا أحد شرور الوحدة. أنت امرأة وحيدة يا ست سنية؛ في البيت وحدك، وفي الطريق وحدك، وفي «الفراش» وحدك، ألا قطعت الوحدة.
وسرت الست سنية بحديث المرأة الذي كأنه يلبي خواطرها، وقالت وهي تخفي سرورها به: وما عسى أن أصنع؟ أقاربي ذوو أسر، وأنا لا أرتاح إلا في بيتي، والحمد لله الذي أغناني عن الناس جميعا.
وكانت أم حميدة تلحظها بمكر، فقالت فاتحة آخر الأبواب: الحمد لله ألف مرة، ولكن بالله خبريني لماذا قضيت على نفسك بالعزوبة هذا الدهر الطويل؟!
فخفق فؤاد الست سنية، ووجدت نفسها وجها لوجه حيال ما تريد، ولكنها تنهدت بإنكار وقالت بتأفف متكلف: حسبي ما ذقت من مرارة الزواج!
كانت الست سنية عفيفي قد تزوجت في شبابها من صاحب دكان روائح عطرية، ولكنه كان زواجا لم يصادفه التوفيق، فأساء الرجل معاملتها، وأشقى حياتها، ونهب مالها، ثم تركها أرملة منذ عشرة أعوام. ولبثت أرملة طوال تلك الأعوام لأنها - على حد قولها - كرهت حياتها الزوجية.
ولم يكن هذا القول مجرد كذب تداري به إهمال الجنس الآخر لها، فقد كرهت الحياة الزوجية حقا، وفرحت باسترداد حريتها وأمنها، وظلت على نفورها من الزواج وفرحها بحريتها عهدا طويلا، ثم أنسيت تلك العاطفة بكرور الزمن، ولم تكن تتردد عن تجربة حظها من جديد لو تقدم لطلب يدها طالب. وجعلت تراود الأمل حينا بعد حين، حتى طال به الأمد، فغلبها القنوط، وصرفت نفسها عن مراودة الآمال الكواذب، ووطنت النفس على الرضا بحياتها كما هي. ولما كان من الضروري أن يوجد في حياة الإنسان شيء تنعقد حوله آماله، شيء يقرر لحياته قيمة ولو وهمية أو سخيفة، فقد وجدت ضالتها كذلك. ومن حسن الطالع أنها لم تكن مما ينتقص امرأة عازبة مثلها، فأولعت بالقهوة والسجائر واكتناز الأوراق المالية الجديدة. وقد كانت في الأصل تميل قليلا نحو الحرص، وكانت من العملاء القدماء لصندوق التوفير، فجاءت الهواية الجديدة تؤكد ذاك الميل القديم وتقويه وتتقوى به. وكانت تحتفظ بالأوراق الجديدة في صندوق عاجي صغير أخفته في أعماق صوان ملابسها، ووزعتها رزما من ذوات الخمس والعشر، تتسلى بمشاهدتها ومعاودة عدها وترتيبها. ولما كانت الأوراق خرساء لا كالنقود المعدنية، فقد أمنت الأخطار، ولم يدر بها أحد من شطار المدق على شدة حساسيتهم. وجدت في حياتها المالية عزاء، وانتحلت منها اعتذارا لعزوبتها، وقالت لنفسها: إن أي زوج خليق بأن ينهب أموالها كما فعل الزوج المرحوم، وبأن يضيع عليها في غمضة عين ثمرة الأعوام الطوال، ومع ذلك فما كاد يتسرب إلى قلبها الإيحاء بفكرة الزواج حتى تناست الأعذار والمخاوف جميعا. وكانت أم حميدة المسئولة عن هذا التحول العجيب، سواء عن قصد أو عن غير قصد، بما قصته عليها مرة من تزويجها لأرملة عجوز؛ ففكرت في الأمر على أنه ممكن التحقيق، وسرعان ما استولى على إرادتها، فتدافعت إلى طاعته لا تلوي على شيء. ظنت يوما أنها نسيت الزواج؛ فإذا بالزواج أملها المنشود الذي لا يغني عنه شيء من مال أو قهوة أو سجائر أو أوراق مالية جديدة! وجعلت تتساءل في جزع: كيف ضاع ذاك العمر هباء؟ كيف قطعت عشرة أعوام حتى شارفت الخمسين وحيدة؟! وقالت: إن هذا هو الجنون، وحملت زوجها المرحوم تبعته، وصممت على أن تكفر عنه اليوم قبل الغد إن أمكن.
وأصغت الخاطبة إلى تأففها المتصنع بفطنة واستهانة وقالت لنفسها: «لا يجوز علي مكرك يا مرة.» ثم خاطبتها بلهجة تنم عن لوم: لا تغالي يا ست سنية، إذا كان حظك الأول قد خاب فالزيجات السعيدة تملأ المشارق والمغارب.
فقالت الست سنية وهي تعيد قدح القهوة إلى الصينية شاكرة: لا ينبغي لعاقل أن يعاند الحظ إذا تجهم.
فاعترضتها أم حميدة قائلة: ما هذا الكلام يا ست العاقلات؟! كفاك وحدة، كفاك.
نامعلوم صفحہ