وغلبها اليأس والغضب فصاحت به منذرة: اليوم تسمعني أربعة جدران، غدا تسمعني الحارة كلها!
فرفع جفنيه الثقيلين وسألها بقوة: تهددينني؟! - أهددك، وأهدد أهلك! أنت تعرف من أنا! - يبدو أني سأهشم هذا الرأس الخرف! - هئ .. هئ، والله ما ترك الحشيش والفجر قوة في ساعديك، والله ما تستطيع أن ترفع يدا! .. انتهيت، انتهيت يا معلم. - انتهيت بفضلك، وهل ينهي الرجال إلا النساء. - أسفي علي من دون النساء جميعا! - ليه؟ .. خلفت بناتا ستا ورجلا .. غير حالات الإجهاض والسقط.
فصاحت في غضب جنوني: ألا تستحي من ذكر الأبناء؟ ألا يزجرك ذلك عما تتردى فيه من الفجور!
فضرب الجدار بقبضته، وتحول عن موقفه متجها نحو الباب وهو يقول: امرأة مجنونة خرفة.
فصرخت وراءه: هل نفد صبرك حقا؟ .. أتشفق عليه من طول الانتظار؟ .. سترى عاقبة فجرك يا داعر!
وأغلق المعلم الباب بعنف، فرنت صفقته رنينا مدويا مزق سكون الليل، وجعلت أم حسين تكور يدها في غضب وحنق، وقد امتلأت نفسها رغبة في الانتقام.
10
ألقى عباس الحلو على صورته في المرآة نظرة فاحصة ناقدة حتى لاحت في عينيه البارزتين نظرة ارتياح .. وكان قد رجل شعره بأناة، ونفض الغبار عن بدلته بعناية، ثم دلف من باب دكانه ووقف ينتظر. هي ساعة الأصيل المحبوبة، والسماء صافية عميقة الزرقة، والجو ملطف بدفء طارئ جادت به الطبيعة غب رذاذ اتصل يوما كاملا، وقد اغتسلت أرض الزقاق التي لا تستحم إلا مرتين أو ثلاثا في العام، وظلت بعض منخفضات الصنادقية مغمورة بالماء، ملبدة بالطين. وكان عم كامل داخل دكانه الصغير يهوم على كرسيه، فأشرق وجه الحلو بابتسامة لطيفة، وما لبث أن دب الوجد في أعماقه فراح يدندن بصوت منخفض:
هلبت يا قلبي على طول الزمن ترتاح
وتنول وصال اللي تهوى، وفيه ترتاح
نامعلوم صفحہ