فهز الحلو رأسه دون أن ينبس بكلمة. سيان عنده أن تستمر الحرب أو تنتهي، وأن يبقى في عمله أو يفصل منه، إنه لا يبالي شيئا على الإطلاق. وكاد يضجره حديث صاحبه، إلا أنه ألفاه أخف من الوحدة والفكر، ومن ناحية أخرى تحمله - كما اعتاد أن يتحمله - دفعا لشره. واستطرد حسين قائلا: كيف انتهت بهذه السرعة؟! .. كان الأمر معقودا بهتلر أن يطيلها إلى ما لا نهاية، ولكن أنهاها حظنا الأسود. - صدقت.
فصاح حسين بشدة: نحن تعساء .. بلد تعيس وأناس تعساء .. أليس من المحزن ألا نذوق شيئا من السعادة إلا إذا تطاحن العالم كله في حرب دامية؟! فلا يرحمنا في هذه الدنيا إلا الشيطان!
وأمسك قليلا وهما يشقان طريقا بين سابلة السكة الجديدة، وقد أخذ ستار الظلام في الانتشار، ثم قال متنهدا في حسرة: لشد ما تمنيت أن أكون جنديا محاربا! تصور حياة جندي باسل، يخوض غمار الحرب، وينتقل من نصر إلى نصر، يركب الطيارات والدبابات، يهاجم ويقتل ويسبي النساء الفارات، ويبذل له المال عن سخاء، فيسكر ويعربد فوق القانون. هذه هي الحياة. ألا تتمنى أن تكون جنديا؟
الحق أن ركبتيه كانتا تتخلخلان إذا سمع صفارة الإنذار، وكان من رواد المخبأ المواظبين، فكيف يتمنى أن يكون جنديا من المحاربين؟ بيد أنه تمنى صادقا لو كان خلق جنديا فظا متعطشا للدماء، فيسهل عليه الانتقام ممن آذوه وبددوا حلمه في السعادة والحياة الرغيدة! وقال بلهجته الفاترة: من لا يتمنى ذلك؟!
وانتبه إلى الطريق، فازدحمت برأسه الخواطر، رباه .. كيف للزمان أن يمحو ذكريات هذا الطريق من صدره؟! إن أرضه لا تزال تحمل آثار قدميها اللطيفتين، وإن هواءه لا يبرح معبقا بأنفاسها المحبوبة، وكأنه يراها رؤية العين وهي تخطر بقوامها المعتدل الممشوق، أنى له أن يطمع في نسيان هذا كله؟! وقطب متغيظا على نفسه لجودها بهذا الحنان لغير أهله، وأطبق فمه فلاح وجهه صارما قاسيا، وعاودته لفحة من ثورة الأمس؛ ينبغي أن ينبذ من ينبذه، وأن يطرح من يخونه، وألا يحرق أضلعه حزنا - ولا حتى غضبا - على من يرقد ناعما بين أحضان غريم له. تبا للقلب من صاحب خئون، دسيسة على الروح والجسم، يحب من لا يحبهما، ويحرص على من يفرط فيهما، فيسيم صاحبه الخسف والهوان. واستيقظ عند ذاك على صوت حسين الصاخب وهو يلكزه هاتفا: حارة اليهود.
وأوقفه بيده عن السير متسائلا: ألا تعرف حانة فيتا؟ .. ألم تدمن الخمر في التل الكبير؟
فأجابه عباس قائلا باقتضاب: كلا. - كيف عاشرت الإنجليز ولم تشرب الخمر؟ يا لك من خروف تعس .. الخمر شراب منعش ومفيد للمخ، تعال.
وتأبط ذراعه ومال به إلى حارة اليهود، وكانت فيتا تقع على بعد يسير من مدخلها؛ على جانبها الأيسر، وهي أشبه بدكان متوسطة، مربعة الشكل، تمتد في جانبها الأيمن طاولة ذات سطح رخامي ينهض وراءها الخواجا فيتا، وقد ثبت في الجدار خلفه رف طويل صفت عليه الزجاجات، وقامت في نهايته من الداخل براميل ضخمة، وعلى سطح الطاولة وضعت جفان الترمس والأقداح، ازدحم حولها الشاربون من أهل البلد؛ حوذية وعمال وآخرون حفاة ونصف عراة كالشحاذين إن كان الشحاذون يسكرون. وبقي من الحانة غير ذلك موضع اتسع لبعض المناضد الخشبية. فجلس إليها أعيان السوقة والعاجزون عن الوقوف لكبر أو لسكر شديد. ورأى حسين مائدة شاغرة في نهاية الحانة فقاد صاحبه إليها، وجلسا حولها، وقلب عباس عينيه في المكان الصاخب المدوي في صمت وقلق، حتى استقرتا على غلام في الرابعة عشرة قصير مفرط في البدانة، مطين الوجه والجلباب، حافي القدمين، يزحم الشاربين ويكرع من قدح مترع، ويتمايل رأسه سكرا، فاتسعت عيناه دهشة ولفت حسين إليه، ولكن هذا لوى بوزه استهانة وقال بسخرية: هذا عوكل بائع الجرائد، يبيع الجرائد في النهار ويسكر في الليل، غلام ولكن قل في الرجال مثله، أرأيت يا غشيم؟!
ومال برأسه نحوه قليلا وقال: كأس النبيذ بقرش ونصف لذة للمتعطلين أمثالي. منذ شهر كنت أشرب الوسكي في بار فنش ولكنها الدنيا القلب، معلهش يا زهر!
وطلب كأسين، فجاء بهما الخواجا ووضعهما على المائدة ومعهما طبق ترمس. ونظر عباس إلى كأسه بقلق وقال مشفقا من لسان صاحبه إشفاقه من الإقدام على التجربة الجديدة: يقولون إنها مؤذية!
نامعلوم صفحہ