ونفذ وعيده، فلم يعد يحمل شيء من طرفه إلى بيوت أبنائه، وحرم مطبخ سراياه من الأنواع الفاخرة التي اشتهر بها، والتي حرمت عليه هو بعد مرضه، ليشاركه الجميع - خصوصا زوجه - فيما فرض عليه. ولهج بحديث الزواج المزعوم حين وجد السهم النافذ الذي تحطمت دونه ما تدرع به زوجه من صبر وأناة. وتشاور أبناؤه فيما بينهم، وقد ألفاهم الخطب قلبا واحدا في التوجع لأبيهم، والإخلاص له في محنته، وقال كبيرهم: نتركه وشأنه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
بيد أن المحامي قال بشيء من الحزم مستدركا: اللهم إلا إذا شرع في الزواج حقا، فأشد ما نتخذه من احتياط أهون من أن نتركه هملا بين أيدي الطامعين. •••
وكان اختفاء حميدة حدثا فظيعا في حياته. ومع أنه لم يعد إلى ذكرها - منذ مرضه - فتخلفت عن تيار شعوره، إلا أن خبر اختفائها أثار اهتمامه وجزعه، فتتبع بقلق بحث الباحثين عنها. ولما تناهى إليه ما تهامس به اللاغطون من أنها فرت مع رجل مجهول، انزعج انزعاجا شديدا، وثار غضبه ذلك اليوم، فلم يجرؤ أحد على الدنو منه، فرجع مع المغيب إلى بيته مهدم الأعصاب، وأصابه صداع شديد أرقه حتى مطلع الفجر. وحنق على الفتاة الهاربة حنقا كبيرا، وتآكل قلبه حقدا وغضبا، وتمنى أن يراها يوما متدلية من مشنقة، مندلقة اللسان، جاحظة العينين. ولما علم بعودة عباس الحلو من التل الكبير سكن روعه لغير ما سبب واضح، ودفعته رغبة لا تقاوم إلى استدعاء الشاب، وقربه ولاطفه في الحديث وساءله عن أحوال معيشته، متجنبا ذكر الفتاة، فسر الشاب بعطفه، وشكر له حدبه، وأقبل على الحديث في استفاضة من استنام إلى لطفه، والسيد يسترق إليه النظر من عينيه الغائرتين .. وفي الأيام الأولى التي أعقبت فرار حميدة وقع حادث، ربما كان في ذاته تافها، ولكنه مما يؤرخ به في زقاق المدق .. كان السيد سليم علوان متجها نحو الوكالة في ضحوة من النهار، فالتقى بالشيخ درويش ذاهبا لبعض شأنه، وكان السيد - في عهده الأول - من محبي الشيخ درويش، وكثيرا ما تعاهده بالبر والإحسان والهدايا، ولكنه أغفله في مرضه وأهمله، وكأنه لم يعد يشعر له بوجود. ولما التقيا على كثب من باب الوكالة هتف الشيخ درويش وكأنه يخاطب نفسه: اختفت حميدة.
فبهت السيد، وظنه يعنيه بقوله، فما تمالك أن صاح به: ما لي أنا ولهذا؟!
ولكن الشيخ درويش واصل خطابه قائلا: ولم تختف فحسب، ولكنها هربت، ولم تهرب فحسب؛ ولكنها هربت مع رجل؛ ويسمون ذلك في الإنجليزية
Elopement
وتهجيتها:
E...
وقبل أن يتم الرجل تهجية الكلمة انفجر السيد صارخا: إنه ليوم شؤم إذ أصبحت على وجهك يا مجنون، اغرب عن وجهي، عليك لعنة الله.
وجمد الشيخ في مكانه، تسمر في الأرض، ولاحت في عينيه نظرة طفل مذعور إذا لوح له شخص بعصا مهددا، ثم أعول باكيا، ومضى السيد لطيته، ولبث الشيخ درويش بموقفه باكيا، وعلا صوته فصار أشبه بالصراخ، حتى أهاب نواحه بالمعلم كرشة وعم كامل والحلاق العجوز، فهرعوا إليه متسائلين، وقادوه إلى القهوة، وأجلسوه على أريكته وهم يطيبون خاطره ويسكنون روعه. وطلب له المعلم كرشة قدحا من الماء، وربت عم كامل على كتفه قائلا بتوجع: وحد الله يا شيخ درويش، اللهم اكفنا السوء .. بكاء الشيخ نذير غير محمود العواقب .. اللهم لطفك!
نامعلوم صفحہ