قال: لقد رأيت أن أنضم إلى المحفل الماسوني الاسكوتلاندي ؛ لأنه يضم طائفة من المصريين والأجانب، وظننت أني أستطيع أن أنقل أفكاري إليهم، ولكن ظني خاب.
ثم قال: أول ما شاقني في «بناية الأحرار» عنوان كبير خطير، هو: «حرية، مساواة، إخاء»، وأن غرضها منفعة الإنسان، والسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق. وقد كنت أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة عجيبة، ولكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكن أن يدخل بين أعمدة المحافل الماسونية.
واستطرد يقول: إذا لم تتدخل الماسونية في سياسة الكون وفيها كل بان حر، وإذا كانت آلات البناء التي في يدها لا تستعمل لهدم القديم وتشييد معالم حرية صحيحة، وإخاء، ومساواة؛ فلا حملت أيدي الأحرار مطرقة، ولا قامت لبنايتهم قائمة! •••
وكانت الساعة قد أشرفت على الثانية صباحا، ورأيت أن أريح الشيخ مني، على أن يسمح لي بأن أتعبه مرة أخرى، فدعاني إلى مقابلته في داره غدا.
ولم أكد أخرج من المقهى حتى وجدت حي الحسين كله ساهرا بمقاهيه ودكاكينه، بالعربات المضاءة بالفوانيس تحمل الفاكهة والحلوى وشراب العرقسوس والخروب والتمر هندي، والليمون والشاي والقهوة ... بالدراويش يروحون ويجيئون، وفي أيديهم مجامر البخور، بصفوف كبيرة من الحمير والعربات الكارو، فهذه هي الوسائل الوحيدة لنقل الناس من مكان إلى مكان.
وضاع من رأسي كل أثر للإشعاعات، التي ملأت الأسماع عن التنكيل بجمال الدين.
وذهبت إلى بيتي وحاولت أن أنام، ولكن صوت الشيخ وصورته وأفكاره كانت تغريني بالسهر، كنت أحس أن سهري عليها أحلى من النوم! •••
وفي الصباح استيقظت مذعورا على أصوات غريبة تنطلق في الشارع، من الناس الذين يهرولون في غير قصد ولا هدى من الأبواب والنوافذ، من البيوت والدكاكين والمقاهي، كل الأصوات تصيح: أين جمال الدين الأفغاني؟ اعتقلوه؟ نفوه؟ قتلوه؟
واتجهت إلى الحي الحسيني، وكان الطريق المؤدي إلى الحي، والناس الذين امتلأ بهم الحي؛ أشبه بخلية نحل تطن بأسئلة ليس لها جواب!
وسهرت مع الناس في المقهى إلى اليوم التالي، وإلى اليوم الثالث؛ وفي هذا اليوم، بدأ بعض أصدقاء جمال الدين الأفغاني يظهرون في المقهى، ويتحدثون عن قرار الحكومة بطرد جمال الدين الأفغاني من مصر، لقد طردوا جسده ولم يطردوا أفكاره؛ لقد طردوا شخصه ولم يطردوا شخصيته؛ فما زال الشيخ جالسا، لا في مكانه من المقهى أو البيت، ولكن في كل مكان، وما زال اسمه يدوي اليوم وغدا، وسيظل كذلك أبدا.
نامعلوم صفحہ