يحملق المحقق في وجه الشاب، لا يرى الدماء النازفة من خده الأيسر، عيناه الضيقتان الغائرتان مرفوعتان نحو وجه الله في السقف، في السماء من خلال السقف، مقلتاه صغيرتان تتذبذبان داخل بياض كبير، نظرتهما باردة خاوية مفرغة من المعنى، مقلتان من مادة تشبه الزجاج، البلاستيك، مثل الجلد المشدود في الكرابيج، ضوء كهربي قوي من أربع لمبات، مسلط في عيني الشاب الجالس فوق الكرسي الخشبي دون ظهر، عضلات ظهره مشدودة يقاوم الانحناء، يشد جفونه يقاوم الغيبوبة، يحاول تثبيت عينيه في عيني المحقق.
استمر التحقيق طول النهار وجزءا من الليل، دون فترة راحة إلا دقائق يذهب فيها المحقق إلى المرحاض، أو يشرب ماء، أو يأكل وجبة الغداء والعشاء. الشاب لم يتحرك من مقعده، يحبس البول في المثانة، يحبس الدم داخل الجرح، السؤال وراء السؤال يدق فوق رأسه بصوت المطرقة الحديدية: ألم تقرأ الفتوى التي قالت: إن الموسيقى والرقص والغناء من أعمال الشيطان؟ كيف تدافع في مقالك عن امرأة ساقطة من بنات الشوارع، بنت زنى؟ - زينة بنت زينات فنانة كبيرة، الناس تحبها، تذهب إلى حفلاتها، تشعر بالسعادة حين تسمعها. الفن الجميل من عند الله، لأن الله هو الجمال. - أنت لا تعرف الله لتتكلم عنه، أنت تضلل الناس، تقول: إن بناء المدارس والجامعات أهم من بناء المساجد والكنائس، هل قلت ذلك؟ - نعم. - أليس هذا تضليلا للناس وإبعادهم عن الإسلام؟ - الإسلام بني على العقل، كل ما يبني العقل والمعرفة يدخل في الإسلام. - أنت قلت: إن غسل الميت عادة قديمة لا علاقة لها بالأديان، هل قلت ذلك؟ - نعم. - أنت ضد النظافة؟ ألا تعرف أن النظافة من الإيمان والوساخة من النسوان؟! - النظافة تحتاج إلى ماء جار في الصنابير وصابون. أغلب الناس الأحياء ليس عندهم ماء ولا صابون، كيف نغسل أجساد الموتى، والأحياء لا يستحمون؟ ثم إن جسد الميت يأكله الدود والتراب، فما فائدة الغسل؟ - أنت تجادلني؟ ألا تعرف أن مقالك مثير للجدل؛ أي: مثير للفتنة. - الجدل يؤدي إلى المعرفة والفهم، وليس إلى الفتنة. - أنت تعارض حجاب المرأة، وتقول: إنه ليس في الدين ولا علاقة له بالأخلاق، ألا تخالف أمر الله؟ ألا تعرف أن وجه المرأة عورة، أن مفاتن المرأة تسبب الفتنة. - المرأة ليست سبب الفتنة، هناك أسباب أخرى للفتن بين الناس، منها الدين والظلم والفساد والكذب. - هذا كلام كفر، كيف تقول هذا الكلام؟ أنت تستحق الموت. - قبل أن أموت أريد أن أعبر عن رأيي، نحن نرث الدين عن الأب والجد، سلوكنا الأخلاقي يعتمد على الوعي والضمير وليس على الدين. هناك قساوسة ومشايخ يغتصبون الأطفال ويختلسون الأموال، هناك نساء ورجال لا يؤمنون بأي دين، لكن أخلاقهم مستقيمة، يدافعون عن الحق، يموتون من أجل الدفاع عن العدل والحرية. الموسيقى ترفع الروح، توقظ الضمير، الموسيقى لا تسبب الفتن ولا الحروب، الأديان تسبب الفتن الطائفية والمذابح، لا علاقة بين العدل والدين. يمكن أن يكون هناك عدل في عالم ليس فيه دين، لا علاقة بين الأخلاق والدين، يمكن أن يتحلى الناس بالأخلاق دون أن يكون لهم دين، بل إن الدين له مكيالان أو أكثر للقيم والأخلاق، مكيال للرجال ومكيال للنساء، مكيال للحاكم المالك، ومكيال للعبيد المحكومين المملوكين، الأجراء، الفقراء، أنا تعبان تعبان، مرهق، أريحوني من عذابكم. الجحيم هنا فوق أرضكم وليس بعد الموت، الموت راحة منكم، لا جحيم في الموت أو بعده! - أتريد أن أكتب هذا الكفر في التحقيق؟ - نعم. - هذه وثيقة أخرى ضدك مع المقال، أنت تسعى إلى الموت؟ - نعم، الموت أفضل من هذه الحياة التي يقتل فيها الإنسان لأنه يكتب رأيه في مقال، لأنه يحب الموسيقى والشعر والجمال، لأنه يكشف الظلم والنفاق والفساد المستتر تحت اسم الله، أنا أعرف أنكم سوف تغتالونني في السر أو في العلن. وضعتم اسمي في قائمة الموت، من أنتم كي تحكموا على الناس بالموت أو بالحياة ؟ من أنتم؟ مجموعات من المأجورين للقوى الحاكمة في الداخل والخارج، تدربتم على القتل في أدغال أفغانستان، تتلقون الأموال والسلاح، تتبادلون النساء والجواري ومن ملكت يمينكم، تطلقون الشوارب واللحى الطويلة، تغطي وجوهكم بالشعر وتفرغ رءوسكم من العقل. - اخرس يا ولد! - سأقول كل ما أريد قبل أن أموت، أنتم بلا ضمير ولا أخلاق ولا دين، أنتم ... عصر الظلام والانحطاط ...
انطلقت الرصاصات في صدره قبل أن يكمل كلامه. سبع رصاصات متتالية، استقرت ثلاث في الصدر، اخترقت واحدة القلب، نفذت رصاصة من الجبهة إلى مؤخرة الرأس، تبعثرت أجزاء مخه على الأرض، داسوها بكعوب الأحذية والبنادق، أرادوا إبادة عقله في عالم قائم على إلغاء العقل.
في اليوم التالي خرجت المظاهرات تهتف باسمه، يحملون صورته فوق الرءوس مع اللافتات والشعارات، الرجال والنساء والشباب والأطفال، عمال وتلاميذ وموظفون في الدولة من الدرجات الدنيا، بنات وأولاد ولدوا فوق الرصيف، زملاء محمد أحمد في جريدة المعارضة، فنانون وفنانات مغمورات، فرقة مريم للموسيقى والغناء، مفكرون ومفكرات وردت أسماؤهم في قوائم الموتى، زوجات مطلقات، عشيقات مهجورات، بنات اغتصبهن الرجال الكبار، يحملن أطفالهن فوق صدورهن، فلاحات وبائعات الجرجير والفجل، خادمات وسكرتيرات وبائعات الهوى، عجائز يسيرون بالعكازات، أطفال يعرجون، وقطط وكلاب شاردة عرجاء، تموء وتعوي وتهتف مع الناس، يتصاعد الهتاف يرج السماء والأرض:
كفاية دين عاوزين تموين.
كفاية طقوس عاوزين غموس.
كفاية صيام وصلا عاوزين ميه وهوا.
كفاية مسابح عاوزين مخابز.
كفاية كنايس ومساجد عاوزين مدارس.
انطلقت صفارات البوليس والعسكر بالبنادق والهراوات، وخراطيم الماء والغازات المسيلة للدموع. أجساد الناس تمشي متلاحمة تصد الدروع، كلهم جسد واحد يمشي لا يخترقه الرصاص، مكبرات الصوت تدوي مع الأجراس والصفارات ودقات الطبول.
نامعلوم صفحہ