في حصة الموسيقى تقول أبلة مريم: الموهبة وحدها لا تكفي، الأصابع وحدها لا تكفي لإتقان في العزف. أنت يا مجيدة كسولة، تريدين كل شيء بسهولة، عندك كل شيء من نعم الله. ليس عندك دافع للإبداع، ليس عندك طموح، زينة بنت زينات تنام وتحلم بالموسيقى، لا تكف عن العزف والغناء، تتدرب ثلاث ساعات في اليوم، في المدرسة أو في بيتي. فتحت لها بيتي لأنها تحب الموسيقى والغناء، هذا الحب هو سرها ودافعها في الحياة، الحب الذي حرمت منه في الدنيا وجدته في الموسيقى، الموسيقى مثل الكتابة مثل أي فن آخر، لا تحب إلا من يحبها، ولا تخلص إلا لمن يخلص لها، زينة بنت زينات ليس في حياتها إلا هذا الحب، وأنت يا مجيدة ما حب حياتك؟ ما حلم طفولتك؟ ماذا تريدين أن تكوني؟
تفكر مجيدة الخرتيتي في السؤال، يراودها في الليل وهي نائمة: ماذا أريد أن أكون؟ ماذا أريد أن أكون؟
لا تعرف الجواب، كل ما تعرف أنها لا تحب اللغة ولا الحروف، تفضل الأرقام على الحروف. - واحد زائد واحدا يساوي اثنين، اثنين بالضبط، لا ثلاثة.
هذا شيء واضح بسيط، لكن اللغة معقدة، الكلمة الواحدة لها أكثر من معنى، ينقلب المعنى من النقيض إلى النقيض بجرة قلم أو نقطة فوق الحرف، أو شرطة أو شدة أو همزة أو لمزة، قد يصبح الشيء ونقيضه شيئا واحدا، قد تساوي اللحظة الواحدة آلاف اللحظات أو العمر كله.
لا تحب مجيدة هذا الغموض، هي تحب الأرقام المحددة الواضحة غير المراوغة غير الملتبسة، لكن أكثر ما تحبه مجيدة هو النوم أن تغيب في النوم عن الواقع والحقيقة، عن صوت أبيها وأمها يتشاجران، عن صوت الله يهددها بالحرق في نار جهنم، عن صوت إبليس يغويها بالإثم، قبل أن تبلغ العاشرة من عمرها اقترفت مجيدة كثيرا من الآثام، أحدها أنها كانت تكره أباها وأمها والمفترض أن تحبهما، وهي أيضا تبتلع قطرات ماء في شهر رمضان قبل مدفع الإفطار، لا تتوضأ أحيانا قبل الصلاة، أو تفلت من أمعائها ريح وهي تصلي فلا تقطع الصلاة لتتوضأ من جديد، وهي لا تغطي شعرها وهي تقف بين يدي الله، وتبول في فراشها أحيانا خوفا من السقوط من فوق الصراط المستقيم بعد أن تموت، ترى نفسها في الحلم تمشي فوق هذا الحبل الرفيع الممدود بين الجنة والنار، تتأرجح فوقه بجسمها القصير السمين، لم تتدرب في حياتها على السير فوق الحبال الرفيعة الممدودة في الهواء، قدماها الصغيرتان الناعمتان يدميهما الحبل المشدود ، مثل شفرة السكين، تمشي فوق الشفرة تترنح حتى تسقط في النار، ثم تصحو مبللة بالعرق والخزي.
أكبر إثم في حياتها ما بعد العاشرة من عمرها أنها أطاعت أباها زكريا الخرتيتي، ودخلت قسم الصحافة. كان أبوها منذ من طفولته يتطلع نحو أصحاب الأعمدة في جريدة أبو الهول الكبرى، يرى صورته داخل البرواز على رأس عموده الطويل الرفيع في الصفحة الأولى ناحية اليسار. كان يميل ناحية اليسار مثل إبليس، ثم تحول إلى اليمين بعد أن امتلك عمودا من العلم والإيمان بالله، رأسه في الصورة مثلث الشكل مدبب القمة يشبه هرم خوفو، عيناه تطلان من داخل البرواز شاردتين تحدقان في الأفق البعيد، تشبه عيون المفكرين الكبار، أفلاطون وأرسطو ونيوتن وفرويد وماركس وابن سينا وابن رشد. ملامحه رغم التحديق في الأفق البعيد لا تشبه ملامح المفكرين، لا تنم عن التفكير بحال من الأحوال، فقط انعكاس الضوء على الصلعة المصقولة أثناء التقاط الصورة، ظلال ودخان السيجار يخفي جزءا من الملامح ويظهر بعضها خاصة الأنف، يتغير شكل عظمة الأنف مع تغير الضوء المسلط على الوجه، وحركة الأرض حول الشمس.
أصبحت مجيدة الخوتيتي كاتبة مرموقة في مجلة النهضة تحصل على أعلى أجر، يساعدها أبوها وأمها في الكتابة، حصلت على جائزة الأدب في عيد الصحافة عن مقال كتبته بعنوان: «إنجازات سيدة مصر الأولى في عيد المرأة.»
كان مبنى المجلة يشبه الهرم الأبيض بين المباني المنخفضة السوداء من حوله، والمباني خلفه في الحي الفقير، يسمونه عشوائيات المدينة، يعيش فيه المهاجرون الجدد من الريف، الباحثون عن الرزق، والمهاجرون القدامى العاطلون عن العمل وأصحاب السوابق والقوادون وبنات الهوى، وبائعو الفسيخ والسردين والبولوبيف المستورد والمسابح والأحجبة والمباخر وإمساكية شهر رمضان.
كان رئيس التحرير أحد أعوان السيدة الأولى، نشرت صحيفة من صحف المعارضة حقائق عن اختلاسه بضعة ملايين من أموال المجلة، خرج الناس في مظاهرات يطالبون بتقديمه للمحاكمة، معظمهم من الشباب العاطل والشابات، فرقتهم عربات البوليس بخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، وبضع رصاصات انطلقت. سالت دماء فوق الرصيف، ذابت الدماء في مياه المجاري بعد انفجار الماسورة. عاد الهدوء إلى المدينة بعد ساعات قليلة، نسي الناس القضية، وعادت صورة رئيس التحرير تتألق داخل البرواز فوق عموده الأسبوعي أو اليومي، صورة جديدة يظهر فيها أكثر شبابا، اختفت الصلعة تحت باروكة شعر أسود مستعار. التجاعيد راحت بعد عملية تجميل جراحية في نيويورك، عيناه أصبح فيهما نيولوك، يكسوهما بريق متأجج بالنشوة، شفتاه تبتسمان في زهو وانتصار.
مجيدة الخرتيتي كان لها مكتب كبير في الدور العلوي بجوار مكتب رئيس التحرير، فوق بابها لمبة حمراء، لا يدخل إليها أحد إلا عبر مدير المكتب والسكرتير الخاص، ما إن يسمع أحدهما صوتا لشاب أو شابة مغمورة تطلب مقابلة الأستاذة الكبيرة حتى يهتف: آه، الأستاذة في مؤتمر خارج القطر مع الهانم السيدة الأولى، الأستاذة في اجتماع هام مع السيد الوزير، الأستاذة مشغولة بكتابة عمودها، لا ترد على المكالمات ولا تقابل أحدا. أي والله، الأستاذة أغلقت على نفسها باب مكتبها بالمفتاح لتكتب مقالها، أي والله العظيم، إنها الآن تكتب ولا يمكن لأحد أن يقتحم عليها الكتابة، أي والله، فاليوم هو الخميس، هذا يوم مقدس عندها، يوم كتابة مقالها، أي والله، المطبعة متوقفة في انتظار مقال الأستاذة، هل يمكن الاتصال بها الأسبوع القادم؟ أرجو المعذرة.
نامعلوم صفحہ