زیتونہ و سندیانہ
الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
اصناف
وليس معنى هذا الكلام عن «الكل» و«العالم» أن شاعرنا قد أصبح - وبخاصة في إنتاجه المتأخر - كوزموبوليتانيا (مواطنا عالميا) فاقد الجذور، أو إنسانا معلقا في الفراغ كما افترض ابن سينا. إنه يحب «الشجرة التي تسكنها العصافير» - أي السنديانة - في شتاء ليبزيج، مثلما يحب النسمة المنعشة في أمسيات دمشق تحت ظل شجرة الزيتون. ودمشق لا تغيب أبدا عن باله، فهو يحمل على لسانه وفي مسام جسده وروحه طعم طفولته في شوارعها وحاراتها و«غوطتها»، كما يحمل غبار أزقتها الضيقة، المتمسكة بجدائل الجبل الهرم، على نعل حذائه، وهو حين يزورها زيارة قصيرة للمشاركة في ندوة ثقافية أو مهرجان مسرحي يؤرقه ويهتف به الحنين إلى سنديانة ليبزيج التي تقاوم الشتاء، أو إلى النعناعة الخضراء الذهبية التي تنتظر أن تظله بظلها الحنون. وأي غرابة في هذا وهو الذي يتمسك بجذور هويته لا يفرط فيها لحظة، كما يتشبث بالجذور التي مدها في تربة الحضارة المكتسبة واللغة والأدب اللذين وجد فيهما السكن والوطن؟ أليس «الجسر» أيضا - إلى جانب الزيتونة والسنديانة - استعارة معبرة عن معنى حياته، ومغزى إبداعه المتواصل إلى اليوم؟! (ج) أجل، لقد استقر في وعي الشاعر - منذ وطئت قدماه أرض «ليبزيج» في أوائل الستينيات للدراسة بها - استقر فيه أنه وسيط بين ثقافتين، وجسر ممدود بين مدينتين ولغتين وأدبين وعالمين. ربما عذبه هذا الوعي، وما يزال يعذبه، لكنه يتحمل قدره وعبئه بجدارة وكبرياء، كما يتذوق في نفس الوقت بهجته ومتعته الممزوجة في كثير من الأحيان بالألم والعناء. ومنذ أن كتب أول قصيدة «عربية» في حياته وهو في الخامسة عشرة من عمره، حتى كتابته لقصائد «هكذا تكلم عبد الله» (1995م)، ومنذ أن كان أصغر الأعضاء سنا في اتحاد الكتاب العرب بدمشق في منتصف الخمسينيات، إلى أن انتخب رئيسا لفرع اتحاد الكتاب الألمان في محافظة ليبزيج بعد إعلان الوحدة الألمانية بين الشطرين السابقين، ومنذ أن هرب من بلده بعد إغلاق اتحاد الكتاب، وصدور أمر باعتقاله حتى استقراره في ليبزيج سنة 1961م، ثم حصوله على جائزة الفن التي قدمتها له سنة 1985م، وعلى جائزة «أدالبير فون شاميسو» - التي تمنح لأفضل كاتب بالألمانية من أصل أجنبي - من الأكاديمية البافارية للفنون الجميلة (1992م)، منذ هذه المحطات الفاصلة بين عهدين ومفرقي طرق حاسمين، وحياة الشاعر - الذي دخل العقد السابع من عمره قبل خمس سنوات - تسير على إيقاعها المألوف الغني بالصدق والإخلاص والرضا بالإنجاز المتحقق، والأمل في المزيد من الجهد لاستكمال بناء الجسور، التي يكافح منذ الستينيات لمدها بين الشاطئين. صحيح أن هذه الحياة لم تخل أبدا من التوتر الذي يعانيه كل من يعيش على الحدود الفاصلة بين عالمين، بل يعيش في الصدع أو الجرح الفاصل بين حدودهما، لكن هذه التجربة الأساسية هي مصدر وحيه، ومنبع عذابه وسعادته أيضا، وهي التي جعلته يصف نفسه أحيانا بأنه زيتونة وسنديانة متعانقتان في ضلوعه، وأحيانا أخرى بأنه جسر «يتحرك تحت نور الحب، ويمتد من خط طول إلى خط طول»،
4
وأحيانا ثالثة بأنه كالراقص على الحبل بين هنا وهناك، بين هذا وذاك ولا هذا ولا ذاك، بين وطن عانى فيه الغربة، وغربة وجد فيها وطنا، أو بالأحرى موطنا للغريب. (د) من الشعراء من يكتب الشعر، ومنهم من يكتبهم الشعر. وإذا كان عبقري الشعر الفرنسي رامبو يقول: «أنا لا أكتب، وإنما أكتب (بصيغة المبني للمجهول).» وكان عبقري الشعر الإيطالي «أنجاريتي» قد نشر أعماله الشعرية والنثرية الكاملة، تحت هذا العنوان الدال: «حياة إنسان». فإلى أي حد يمكن أن نلتمس سيرة حياة الشعراء بين سطور قصائدهم؟ هل يمكن ببساطة أن نتتبع حياة الشاعر من تتبعنا لمراحل تطور شعره بالعربية والألمانية؟
5
الأمر بطبيعة الحال أعقد مما نقول ونتصور، والفن - والشعر بوجه خاص - من الرهافة والدقة والصعوبة والخفاء، بحيث يتعذر أن يكون مجرد مرآة عاكسة لحياة صاحبها بصورة مباشرة، ومع ذلك فقد اعتمدت في هذا الكتاب، الذي أعتبره مجرد مدخل متواضع إلى حياة عادل قرشولي وشعره، اعتمدت في المقام الأول على شعره المكتوب بالألمانية، واستقرأت من نصوصه مراحل تطور فكره واتساع آفاق رؤيته وشمول نظرته - لا سيما في آخر دواوينه - إلى ماهية الشعر والعالم والإنسان، وكذلك ماهية «الرسالة أو المهمة» التي حمل عبئها، كما سبق أن قلت، بجدارة وكبرياء، ولذة ومتعة لم تنج من التوتر والقلق والعذاب، لتصل في النهاية - وهذا هو حدسي ورجائي - إلى الطمأنينة والرضا بالتحقق والنضوج.
لقد بدأ في كتابة شعره بالألمانية في مطلع الستينيات، بعد رحلة مضنية وشاقة في بحور اللغة الألمانية، وتعمق لا نظير له في دروب أدبها السفلية والعلوية، وفي نصوص أدبائها وشعرائها القدامى والمحدثين والمعاصرين. أحس منذ أن بدأ دراسته في ليبزيج أنه دخل معركة تحد وإثبات للذات الفردية والجماعية، وأن عليه أن يكسبها وينتصر فيها مهما كان الثمن، كما شعر، منذ ذلك الحين، بأنه قد فقد ظله الذي لازمه منذ مولده عندما فقد المخاطب العربي الذي كان يتوجه إليه بشعره، واكتشف أن فقدان اللغة معناه أن يعيش بغير ظل ولا هوية. ولكيلا تصل أزمة الهوية إلى أقصى حدودها، وجد نفسه مضطرا للكتابة باللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداث الجارية من حوله، أي وجد نفسه أمام أحد اختيارين لا بديل عنهما:
إما أن يغرس جذرا في اللغة والثقافة المكتسبة والجديدة عليه، وإما أن يدفن نفسه في قبر الصمت. واختار الأول بطبيعة الحال حتى يؤكد لنفسه أنه لم يفقد ظله ولا هويته؛ أي إنه حي وفعال ومشارك. وبعد أن خاطب الآخر بلغته، وانتزع منه الاعتراف والإعجاب، بل والانبهار بشعره الذي قدمه وقرأه عليه في البداية (وتمثله قصائد مجموعته الأولى «كحرير من دمشق» التي ترجمت في معظمها عن قصائد عربية أو بمعنى أدق أعيد إبداعها في الألمانية بمساعدة بعض أصدقائه من الشعراء المقربين إليه)، بعد ذلك لم يشعر بالارتياح لذلك الإعجاب والانبهار، وتأكد له أنه يرجع بالدرجة الأولى إلى الصور والأخيلة المنسوجة بخيوط عربية أو شرقية؛ أي إنه يختزل إلى ما هو عجيب وغريب ومثير وطريف . وكان أن تحول بعد ذلك إلى التعبير بنفسه عن نفسه، والتخلص من تأثير من تأثر بهم في تلك المرحلة من شعراء كلاسيكيين أو معاصرين، وبالأخص بريشت، أو من خاصة أصدقائه الذين جذبوه معهم إلى موجة الشعر الجديد، أو الموجة السكسونية في مطالع الستينيات، وكانوا من روادها وفرسانها الجسورين.
6
والكتاب يتابع هذه التحولات بقدر الطاقة من خلال النصوص الشعرية نفسها، ويرصد اتجاه القصيدة إلى مخاطبة الذات ومناجاتها، بعد استبعاد المخاطب القديم، وتجاوز التحدي والصراع المرير مع الآخر، ومع ظروف الحياة اليومية المحبطة، وذلك في إطار رؤية يمكن - إذا صح التعبير - أن توصف بأنها رؤية صوفية أرضية، وربما استطعنا أن نقول باختصار: إن القصيدة في مرحلتها الأخيرة قد تخلت عن طابع الدعوة والنداء والتبشير الذي ميز عددا كبيرا منها في البداية (مع الإيمان الراسخ للشاعر ولجيله، سواء في عالمنا العربي أو في قسم كبير من العالم الغربي في الستينيات بأن الكلمة فعل، وأن كلمة الشاعر يمكن وينبغي أن تغير العالم) كما تخلت عن جدليتها المعرفية إلى جدلية الصورة التي أضافت الجمالية إلى العقلانية. ونستطيع أن نقول على الإجمال إن هذا الشعر في تحولاته المختلفة قد حافظ على طابعه الجدلي، بل إن صورة المثلث الجدلي المشهور تكاد تغريني بتطبيقها على تطوره المتصل؛ فالضلع الأول من هذا المثلث الشعري يقدم الموضوع الممتلئ بالحنين للوطن وبتجارب الغربة المؤلمة (كحرير من دمشق)، والضلع الثاني يقدم الموضوع ونقيضه في صراعهما وتوترهما بين ضدين أو نقيضين يمثلان عالمين وثقافتين، كما يصور عذاب الذات الشاعرة ومحاولاتها الدائبة لنصب الجسور بينهما (عناق خطوط الطول، وطن في الغربة)، أما في المرحلة الثالثة والأخيرة فيتخلق مركب جديد يصالح بين الضدين من خلال الروح الفلسفية والرؤية التأملية والصوفية، التي لا نبالغ إذا قلنا إنها وصلت إلى جوهر الشعر أو الشعر الخالص، أو روح الشعر التي لا تخضع للمقاييس التقليدية، ولا تندرج تحت الأطر الفنية المعتادة؛ لأن الشاعر هنا لا يصدر إلا عن ذاته، ولا يتجه إلا إلى ذاته، ولأنه يتدفق من نبع داخلي خاص وكلي في الوقت نفسه، فيلتقي بالإنسان في كل مكان وزمان
7 (راجع قصائد «هكذا تكلم عبد الله» التي تجدها بين يديك في هذا الكتاب). (ه) لم يقتصر إبداع عادل قرشولي على الشعر الذي عاش له، واحتل نقطة المركز من دائرة حياته وعطائه. فهو كاتب مقال سياسي، وناقد أدبي، وباحث مسرحي معروف بدراساته عن مسرح بريشت بخاصة وآفاق تلقيه في العالم العربي، ومحاور قدير تتسم محاوراته التي يزخر بها العديد من الصحف والمجلات الألمانية والعربية بالموضوعية والدقة والعمق، ومترجم أمين، من اللغتين وإليهما، لعدد كبير من المسرحيات والقصائد لكتاب وشعراء معاصرين ومرموقين، فضلا عن همه واهتمامه الدائم بالأحداث والقضايا العربية، ومبادرته لتعرية الخداع والتزييف الإعلامي الذي أحاط وما يزال يحيط ب «سيناريو» حرب الخليج والعدوان المتجدد لدولة الإرهاب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب، وموجات العداء للأجانب في ألمانيا، ودفاعه عن الحق والحقيقة في مواجهة الأحكام المغرضة والتحيزات المسبقة التي تروجها أجهزة إعلامية كاسحة ومتآمرة وموجهة ضد العرب والمسلمين بوجه عام (راجع الفصل الأخير من هذا الكتاب). ولما كانت القائمة المختصرة بأهم مؤلفاته ودراساته الواردة في ختام الكتاب ستلقي بعض الضوء على هذه الجهود المتميزة والمشرفة، فلا بأس من ذكر طرف منها في هذا التمهيد السريع.
نامعلوم صفحہ