وأفرغ زيتون جميع الدلاء في المنزل من الماء، ووضعها من جديد تحت الثقوب في السقف، وأخذ أهبته للرقاد. كان الجو شديد الدفء في الخارج، خانقا في داخل المنزل، ورقد في الظلام، وانسرح يفكر في قوة العاصفة، والزمن الذي استغرقته، وكيف كان من الغريب ألا تصيب المنزل إلا بأقل الأضرار، وذهب إلى النافذة الأمامية، لم تكن الساعة قد جاوزت الثامنة مساء، ولكن الشوارع كانت قد جفت جفافا كاملا، وتأمل الجهد الذي بذل في الهرب. ولماذا؟ لقد اندفع مئات الآلاف للسفر إلى الشمال فرارا من هذا: من ماء لا يزيد ارتفاعه على عدة بوصات، ولم يعد له أدنى أثر.
كان الصمت والهدوء يسودان تلك الليلة، لم يسمع صوتا للريح، ولا للبشر، ولا لصفارات الإنذار بالسيارات، لم يعد يتردد غير صوت مدينة تتنفس كما يتنفس، مرهقة من الكفاح.
الثلاثاء 30 من أغسطس
واستيقظ زيتون في وقت متأخر، ورفع بصره إلى النافذة من فوقه، وشاهد اللون الرمادي نفسه في السماء، وسمع الهدوء الغريب نفسه، لم يعرف في حياته وقتا مثل هذا الوقت، لم يكن يستطيع السير بالسيارة إلى أي مكان، ولم يكن يستطيع العمل، ولأول مرة منذ عقود طويلة، لم يكن لديه ما يفعله، سيكون يوم هدوء وراحة. وراوده شعور غريب بالكسل، وإحساس رهيف بالرضا، فعاد لنعاس غير عميق.
كانت جزيرة أروض، موطن أسرته الموروث عن الأجداد، غارقة في الأضواء. كانت الشمس دائمة السطوع هناك، والضوء الأبيض الدافئ يكسو بالبياض المباني الحجرية، والحارات المرصوفة بالحصى، فيظهر بوضوح لا يصدق لون البحر الأزرق الأدكن الذي يحيط بالجزيرة.
كان عندما يحلم زيتون بأروض التي كان يزورها كل صيف، تبرز له صورة أروض في طفولته وصباه، وكان في تلك الأحلام يمارس ما يمارسه الصبيان؛ كالجري حول الجزيرة الصغيرة، وإفزاع طيور النورس فتطير، والبحث في البرك التي يخلفها المد والجزر عن سرطانات بحرية أو حلزونات أو أي كائنات غريبة يقذف بها البحر على شاطئ الجزيرة الصخري.
وبحذاء الجدار الغربي، الذي يواجه البحر الشاسع في الغرب، كان يقوم مع أحمد بمطاردة دجاجة منفردة في الأطلال التي تحيط بالمنازل في آخر الجزيرة، وكان الطائر الهزيل يعدو مسرعا فيصعد تلا من القمامة والأنقاض، ثم يختفي في كهف من المرجان والأحجار، وكان يجذب انتباههما صوت فرقاطة «سفينة حربية صغيرة»، ألقت مرساتها، في انتظار الرسو في طرطوس، الميناء الذي يقع على بعد ميل واحد إلى الشرق. كانا دائما ما يشاهدان نحو ست سفن، من ناقلات البترول ومن شاحنات البضائع، واقفة تنتظر أن ترسو في المرفأ المزدحم، وكثيرا ما كانت تلقي مراسيها على مسافة قريبة تجعلها تلقي بظلالها على الجزيرة الصغيرة. وكان عبد الرحمن وأحمد يتطلعان إليها، وهياكلها تعلو على سطح البحر بمسافة تتراوح بين عشرين وثلاثين قدما. وكان الغلامان يلوحان بأيديهما إلى البحارة، ويحلمان بأن يكونا على متون السفن. كانت حياتهم تبدو لهما حياة رومانسية وحرية لا تتحقق إلا في الخيال.
وحتى في تلك الأيام، عندما كان أحمد غلاما نحيفا في الخامسة عشرة لوحته الشمس، كان يعرف أنه سوف يصبح بحارا. كان يحرص على عدم إخبار والده، لكنه كان واثقا بأنه يريد أن يقود إحدى هذه السفن. كان يريد أن يرشد السفن الكبرى المبحرة في شتى أرجاء العالم، وأن يتحدث عشر لغات ، وأن يتعرف على أبناء كل أمة.
لم يراود الشك عبد الرحمن قط في أن أحمد قادر على تحقيق ذلك؛ إذ كان أحمد، في نظر عبد الرحمن، قادرا على أي شيء، كان أقرب أصدقائه ومثله الأعلى ومعلمه، وكان أحمد قد علمه كيف يغرس الحربة في السمكة، وكيف يجدف وحده في القارب، وكيف يمارس الغطس في البحر من الصخور الفينيقية العظمى في جدار الجزيرة الجنوبي. وكان يريد أن يتبع أحمد أينما ذهب، وكثيرا ما كان يفعل ذلك.
كان الغلامان يتجردان من ملابسهما ويكتفيان بالملابس الداخلية، ثم ينطلقان سابحين إلى أرخبيل صخري قريب، وكانا يتناولان الحربة التي يخفيانها دائما وسط الصخور، ثم يتناوبان الغطس لصيد الأسماك بها. وكانت السباحة رياضة طبيعية عند البنين في أسرة زيتون وجميع أطفال أروض، فاستطاعوا السباحة بمجرد تعلمهم المشي، وكانوا يحبون البقاء في الماء، سابحين أو منغمسين وحسب ساعات طويلة. وعند خروج أحمد وعبد الرحمن من الماء كانا يستلقيان على جدار حجري منخفض، يحفهما البحر من ناحية، وطريق كورنيش البلدة من الناحية الأخرى.
نامعلوم صفحہ