ذكر الأستاذ الموسيقار المعروف كامل أفندي الخلعي في كتابه «الموسيقى الشرقي» أن الموسيقى «لم يعرف لها واضع، وكل من حدد واضعا لها، فقد أخطأه الجد وخدعه الباطل، ولم يدرك حقيقة العمران وأطوار بني الإنسان، فإن الإنسان في أي طور ظهر وأرض انتشر فالغناء حليفه، والشعر أليفه. أو ما تراك ترى الأمم الهمجية والقبائل الوحشية لها ألحان وأنغام تلائم طبعها وتناسب حالها؟ نعم إنها تختلف في الأمم اختلافا هائلا، وتتباين تباينا عظيما، ومنشأ هذا تفاوتهم في المدنية، ودرجاتهم في العلم والحضارة، فالذي ينظر مثلا إلى الزنجي في أفريقيا، والأديب في أوروبا، ويضع كل واحد منهما في كفة ميزان، يرى أن الأول كأنه بالنسبة إلى الآخر ليس من نوع الإنسان، بل هو من نوع آخر يشبهه في اعتدال القامة وتقاطيع العضلات، وكما أن الفرق تراه في شكلهما وعلمهما تراه كذلك بين لحنهما وغنائهما.»
وهذا أبلغ ما يقال في الإشادة بمحاسن الموسيقى الغربية، واعتراف لا بد منه إذا كانت لنا رغبة حقيقية في النهضة الفنية. وقد اقتبست هذه الملاحظات لأن القصائد والأغاني التي ازدان بها هذا الديوان ذات نزعة أوروبية في معناها، وإن لم يكن معظمها كذلك في مبناه. وقد يتوهم بعض الناس أن المعنى ثانوي بجانب المبنى في اختيار التوقيع المناسب، وهذا خطأ لا يقل عنه تصور بعضهم أن حسن الصوت هو كل شيء في الغناء.
قال الأستاذ ه. جيلز
H. Giles : «الموسيقى في مؤلفات أعاظم أساتذتها أكثر غرابة وأعظم غموضا في أسرارها عن الشعر.» فبديهي إذن أن الموسيقار العصري أكثر حاجة من سامعيه إلى معرفة وتقدير ما يغنيه تقديرا فنيا وافرا. وهذا ركن ثان من أركان نهضتنا الفنية المنشودة، فكثيرا ما أفسد الغناء جهل المغنين، وتقليدهم الأعمى عن غير إصابة، وعجزهم عن الاختراع.
وقد أصاب وأحسن الأستاذ الخلعي في عقده فصلا خاصا بكتابه السالف الذكر عن «صفة المغني الحاذق»، وفي عنايته بذكر فضل العلم والدراية في بلوغ الإتقان صناعة. ألم يقل الأستاذ الموسيقي الكبير بيتهوفن
Beethoven : «الموسيقى هي الوسيط بين الحياة الروحية والحياة الحسية»، وكيف يتسنى ذلك إذا لم تكن للموسيقار أولا المؤهلات الكافية ليكون حارس هذا الوسيط؟ لهذا أغتبط بالنزعة الحديثة لترقية الغناء والشعر والأدب جنبا لجنب، وأشكر الأستاذ الغيور حسن أفندي صالح الجداوي أجمل شكر على مساعدته لهذه النهضة الفنية، فإن هذه المجموعة على صغر حجمها من أنفس ما ازدانت به المكاتب من شعر الغناء، ورغم أنها فياضة بالمعاني الأوروبية الجذابة، فإنشاؤها عربي متين، ورقتها وعذوبتها مما يتهافت عليه طلاب الأدب، وعشاق الجمال الفكري، والشعر الوجداني المطرب. وأملي أن تنتشر أبياتها السنية العطرة في محافل الغناء بفضل عناية نابغات الفن ونابغيه، بدل الطقاطيق والأدوار والمواويل المألوفة، التي كثيرا ما آذى بعضها أسماع وأفهام الطبقة الراقية من الجمهور. ولا يسعني كذلك إلا شكر زميلي في تمجيد الأدب والفن الجداوي أفندي، لتذييله هذا الديوان الذهبي بناء على اقتراحي بقصيدتين للناظم من أبدع شعر الغناء، وكان الأولى به في نظري أن يضمهما إلى ما اختاره أولا، وأن أعتذر بضيق الفراغ، ولعله في الطبعة الثانية يتوفق إلى إضافات أخرى مما شاقني الاطلاع عليه وإن لم ينشر بعد.
ويحسن بي بعد ذلك أن أشير على سبيل المثل إلى شيء من البدائع الفنية في هذا الديوان؛ لأنها مصدر الحبور والإلهام للموسيقي الحاذق، وخصوصا لمن امتاز بعواطف حساسة، وشارك الناظم في عوارض حبه وشكواه.
خذ مثلا قصيدته «الطيب والزهر»، فهي من أبلغ قصائد الحب؛ لأنها على إيجازها جمعت الكثير من المعاني والتشابيه والأوصاف الفتانة وعمق الحس الكشاف. فما أبدع قوله:
رحلت عنك رحيل الطيب عن زهر
يودي به البعد لولا حبك الداني
نامعلوم صفحہ