وفي غده نفذ عزمه، ومع بعض ما يرسل لها وضع جوابه، وأخذ الكل صغير من الخدم عندهم لا يعلم طبعا بشيء مما فيه ووضعه بين يديها. فلما وجدت الورقة أخذتها حتى إذا كانت في بعض خلواتها قرأتها.
كم كان لهذا القراءة عندها من اللذة! وكم وجدت فيها من العذوبة! وأعادت النظر في الجواب مرات، وهي كلما طوته لم تطاوعها نفسها أن تدعه في جيبها فتخرجه وتقرأه من جديد فتهتز نفسها عند آخره، ويأخذ قلبها ذلك الخفقان الذي يصيبنا حين يملأ الطرب جوانحنا كلما جاءت للسطر الأخير.
إنني في انتظار كلمتك، وأنت عليمة بمرارة الانتظار. واقبلي يا عزيزة حبي وإخلاصي.
حامد
لم تأخذ في حياتها جوابا حلوا كهذا الجواب، وهل يصل إليها إلا جوابات أختها وكرتات معايدة من بعض صاحباتها.
يا سلام! هل في الوجود ما يسع فرحها. لا. أبدا، أبدا. ونسيت الناس وكل شيء ولم يبق لها إلا ذلك السرور الذي امتلأ به كل وجودها، ولم يبق لها من أمنية إلا أن ترى حامدا وتقبل ما بين عينيه.
ظلت كذلك أمدا لم يزعجها عنه إلا من ناداها يسألها عن بعض ما في البيت، أو أن تكون مع الستات. وراحت عندهن وهن يحكين حكاياتهن التي لا تنتهي، ويضحكن فتضحك هي الأخرى من كل قلبها تلك الضحكة القانعة الراضية، وقد احتل السرور كل روحها وجسمها وأسلمت له نفسها، وكثيرا ما كانت تتوه في أحلام سعادتها عما يقلنه، وهي مع ذلك تضحك كلما رأتهن يضحكن غير مبقية للغد شيئا.
فلما راجعها هدوءها وسكونها ووجدت نفسها في خلوة من جديد فكرت فيما عسى أن تجيب به حامدا، وأي شيء تكتب له. وعرتها حيرة طويلة لم تستطع معها أن تجد شيئا.
ومن نافذة الغرفة العالية جدا عن الطريق حتى لا يستطيع المارة أن يروا شيئا مما في داخل الدار تبينت شمس العصر تنحدر متمهلة وتجلل بنورها فسيحا من الأرض يفصل ذلك القسم من القرية عن القسم الآخر، وتغطي الأشجار الكبيرة تلعب فروعها مع الهواء، وتبعث على الأرض بظلها الكبير. وعلى مرمى العين تبين المزارع يغطيها الذرة والقطن، وتنساب بينها الطرق المدقوقة العامرة بالفلاحات تلك الساعة ذاهبات للملية وخيالاتهن السوداء تموج في لجة النور بين خضرة الزرع، ويتتابعن في سلك طويل منتظم، وعلى رؤوسهن جرات الفخار إما نائمة في ذهابهن أو هي في جيئتهن معتدلة يلمع الضوء على سطحها المبلول. وهناك من الشباك الثاني يرى الإنسان جماعة المدريين وقد ملأوا الجو بعفارهم وتبنهم حتى سد الفضاء ولم يبق في طوق الناظر أن يتعرف وراءه شيئا. وعزيزة تحدق مبهوتة إلى تلك الموجودات تائهة عنها ولا تعرف ما ستكتب.
ثم أخذت ورقة وقلما تريد أن تحبر بعض كلمات مما في بالها:
نامعلوم صفحہ