هل يأسف ويأسى إذا رأى زينب وعانقها وقبلها؟ هل يذهب كالمحموم ينزل في الماء ليطهر من رجسه ويصيبه من أجل ذلك ألم يتقطع له نياط قلبه حزنا على ماضيه المثلوم؟.. كلا.. كلا. إنه ليود من أعماق روحه تلك القبلة التي تثير الماضي الطويل ليس عليهما فيه من شهيد إلا الله وإلا نفساهما!
من يدري، قد تكون نسيتني زينب اليوم وأصبحت عني في شغل! قد لا تعرفني إذا رأتني أكثر مما تعرف أي إنسان في البلد!.. وهل كان بيني وبينها أكثر مما بين أي أحد من إخوتي وبينها. إنها جميلة وفتية وتستحق إعجاب الجميع، فإذا كنت أعجبت بها أكثر من غيري فما كان ذلك ليدعها أن تحسب في صديقا أو محبا؟! كنت دائما إزاءها المسيطر المالك، واليوم أنا غريب عنها وكل كلام مني فيه شبهة ويمس زوجيتها.
يا أسفا على الأيام الماضية! هل لنا في العيش بعد من مزية؟ وهل مع هاته الآلام التي تحيط بنا أو على الأقل ذلك التخلي عن كل شيء وغض النظر عن كل شيء من سبب للوجود؟
ما أقسى هاته الفضيلة التي يحببون إلى قلوبنا! إنها لأقسى من الموت العنيد لا محيص منه.
هأنذا إلى اليوم لم أذق للحياة إلا ذلك الطعم العادي لا هو بالمر تنقبض له النفس ولا بالحلو تسر منه وتفرح له. وما بعد اليوم شر وأضل سبيلا. أيام باهتة متشابهة تنقضي تحت تصريف الزمان القاسي ثم حفرة تنام فيها النوم الهادئ الطويل.
لقد ودعت الدنيا من يوم ولدت، وما أنا اليوم إلا بعض ذلك الجماد أثارته عاصفة من الأرض ثم يرجع لها ويركز فيها وقد انتقل من سكون إلى سكون ولم يتذوق شيئا. •••
في ذلك الحلم الطويل كان حامد ينظر في الفراغ الهائل أمامه يموج بالنور الساطع على السماوات المبيضة تذهب أمام عينيه إلى حيث لا يدري، والهواء لا حراك به يترك الأشجار البعيدة في سكونها المطلق، وأمامه معتدلة قناة الماء تسير وسط الزرع الأخضر تنحدر مع تيارها السريع عيدان الرز الساقطة من الخف، ويلمع عليها شعاع الشمس المحرقة في تلك الساعة من النهار. ثم يتوه الكل عند مسافة قريبة لا يتصورها حامد إلا الفضاء العظيم المخوف.
والعمال والعاملات يجدون في عملهم ويتحادثون أحيانا ويضحكون، فتموت أصواتهم حولهم ولا يرددها مردد.
ثم راح فاستند إلى العش، ووقف يحدق إلى كل ما حوله وهو مشتت الفكر لا يفكر في شيء ولا يعرف شيئا، مبهوتة نفسه ... وأخيرا صمم أن يرجع إلى البلد في تلك الساعة.
ورنا ببصره فإذا الجميع بعيدون عنه في آخر المزرعة من الجهة الأخرى، وبعضهم قد جلس على الجسر، فعمد نحوهم، فإذا هم انتهوا من ذلك الجانب وسيذهبون للجانب الآخر، فتركهم وأخذ طريقه إلى البلد بعد أن أوصى أخت زينب قائلا في ابتسامته: لما تشوفي أختك سلمي لي عليها.
نامعلوم صفحہ