وانحدرت الشمس إلى المغرب، وعفا الله، وجعل كل يجاهد في تحميل ما جمع. فلما انتهوا انفلتت زينب وسط المزارع لبعض شأنها، وراح إبراهيم للمصلى يقضي فريضة العصر قبل فواتها، وسيقت الدواب يحيط بها الجمع الكبير، وكل يسير إلى جانب ما جنى.
ولما رجعت هي ورأت إبراهيم جالسا وحده عرتها حيرة في أمرها ولم تجد سبيلا لتنفيذ ما شغلها طول النهار. ثم قام راجعا وسار إلى جانبها وكلاهما ثائر النفس، والبدر الشاحب في السماء يتبعهما في سيرهما، وكأنه يتسمع على نفسيهما ويريهما في نحوله ما تصل إليه حال المحبين، أو هو يرنو إليهما بطرف مريض يصل ما بين قلبيهما، وغطاء السماء يزداد كثافة من حين لحين، فيزدهي القمر وتبين الكائنات في شعاعه وجميعها عاشقة، عمل الحب في وجودها وغير من لونها.
وصلا إلى مصلى على الطريق، فسألها إبراهيم أن تنتظره حتى يخطف ركعات المغرب. فلما اختتمها طلب إليها إن شاءت أن تجلس قليلا حتى يستريحا، فأجابت طلبه بعد شيء من التردد، ولكنهما كانا أكثر صمتا وأشد قلقا من قبل.
وبعد برهة عاودته فيها الرعشة مرات تجاسر فأمسك بيديها. وفوق هاته البقعة الطاهرة المحرمة وتحت عين الله وعين البدر قال لها لأول مرة: - أحبك يا زينب.. ... كل ما في الأرض والسماء من سعادة لا يبلغ ذرة مما تفيض به نفسها هاته الساعة. إن القمر والكواكب والموجودات كلها في عرس كبير، وذلك النسيم العذب الساري في الجو يحمل معه الهناءة. هل تستطيع زينب أن تتكلم الآن؟ وهل يسعدها لسانها؟ كلا! كلا! لقد غلب عليها الفرح فهي واجمة حيرى ثابتة في مكانها ترنو لإبراهيم ولكل ما حولها. ثم بحركة لم يفهمها ارتمت نحوه مسلمة نفسها بين يديه ملقية برأسها، فضمها هو إليه، وراح ذاهلا بتلك النشوة التي يوحي بها جسمها، ولكنها لم تك إلا لحظة حتى عاودتها هزة شديدة، وجاهدت نفسها تريد الخلاص منه والفرار من وجهه والهيام على وجهها لا تدري إلى أين!! وإبراهيم كمن أسقط في يده؛ خانته قواه، فنظر إليها نظرة المستعطف اليائس ولم ينطق بكلمة بل وجم ساكتا، وكاد يغشى عليه. فلما وقفت تريد الذهاب لم تطعها قدماها بل ألقت هي الأخرى نظراتها عليه، وبقيت كذلك لا تدري أهي سكرى بهنائها أم أذهلها الأسف عن كل شيء؟ وصاحبها جاث تحت قدميها رافع رأسه إليها لم يستطع أن يكرر من جديد اعترافه لها أنه يحبها.
وأخيرا، وقد أمسى الوقت، واتشح الأفق بوشاحه الأسود، وراحت المزروعات هامدة مستريحة، يوحي إليها النسيم ألذ الأحلام، قام فسار وسارت إلى جانبه حتى إذا كانا على مقربة من البلد، وآن لهما أن يفترقا، أخذ يدها فقبلها ثم تركها ولم ينبس واحد منهما ببنت شفة.
وذهبت بعد ذلك توا إلى الدار، فأخذت عشاءها، وطلعت فوق السطح أمام الغرفة، وجلست وحدها وهي لا تستطيع أن تقدر مبلغ سعادتها. ثم صعد أخوها وأختها، وجلس الصغير إلى جانبها، ومال برأسه فوضعها على ركبتها، وبقيت هي سارحة تحدق إلى القمر حتى راح الصغير في نومه. وجاء أبوها بعد صلاة العشاء، ونقلوا الولد إلى الغرفة، وناموا جميعا كعادتهم. ولكن زينب لا يحالف النوم عينيها، ولا تستطيع البقاء في مرقدها. فبقيت متيقظة لم تطعم النوم إلا قليلا من الليل، وتعاودها فكرة أن تقوم فتذهب إلى حيث إبراهيم، لتجلس إلى جانبه، وليضمها إليه كما ضمها ساعة رجوعها.
كانت لذيذة تلك الساعة الملائكية الجميلة، وكم تود لو تستعيدها! ولكن أبويها النائمين إلى جهة الباب توقظهما أقل حركة.
وأخيرا جاءها النوم، وتيقظت في غدها مبكرة كعادتها، وذهبت للجمع وهي تسرع، تود لو ترى إبراهيم فتقف تنظر إليه طول نهارها، ولكنها ما إن كانت بين أخواتها حتى راجعها حياؤها القديم، وصارت تخالسه النظرات، فإذا وقعت عينها على عينه عرتها قشعريرة، وودت لو ساخت في الأرض أو تاهت بين الأشجار. فلما كان المغرب ترك هو ما جمعت ليحمله آخر القطن. ولكن المطايا لم تكف وبقي معها ينتظر أن ترجع إليهما مطية تحمله، فلما انفردا جلس إلى جانب المروى وأجلسها إلى جنبه حتى إذا استوت قال: - فاكره يا زينب لما كنا في الغيط اللي جار أبويا خليل ودختي انتي ساعة الغدا ورحت أرش على وشك ميه؟
فاحمر وجهها ساعة ذكرها أول أيام حبها، ورمت ببصرها إلى الأرض، وأمسكت بيدها عودا تنكت به التراب أمامها. لكنه أخذ بيديه يديها كما فعل بالأمس ثم قال: من نهارها أنا أحبك!
فتنهدت ولم تحر جوابا.
نامعلوم صفحہ