تركهم وسار تحيط به خضرة المزارع من كل جانب، فلما وصل إلى شاطئ الغدير ووجده خاليا جافا ينتظر التطهير، وقف فحدق إليه مدة، ثم رفع رأسه، فإذا السحب تنقشع واحدة بعد الأخرى، وتظهر الشمس خلال ذلك لحظة تبعث فيها بأشعتها على الأرض فتغير من عبوسها. ثم تختفي ثانية ويرجع للجو قتامته، وتدخل الموجودات في ذلك الحزن المستسلم الذي هي فيه من الصباح. ويتكرر هذا المنظر، ويتلهى به حامد عن همومه.
ثم رجع أدراجه وقد زال النهار، فوجد إخوته وأخا عزيزة يلعبون الطاولة، فجلس يتفرج عليهم، فسئم ذلك بعد قليل، وقام إلى غرفته، فقابلته أخته في الطريق وفي يدها أوراق ناولته إياها، فإذا هي معايدات له من بعض أصدقائه. ولما أتم قراءتها سأل أخته: هل جاءتها معايدات باسمها هي من صديقاتها؟
ولقد حرضه على ذلك السؤال ما رآه عليها من الجذل، وما حفظت في يدها من البطاقات. كذلك غرامها الخاص بمكاتبته هو حين غيابه وبمكاتبة صديقاتها كلما وجدت لذلك فرصة، وعلمه بأنها تريد أن تريه ما في يدها كما هو شأنها في كثير من الأحوال. فناولته ثلاث بطاقات فضها فوجد إحداها من عزيزته، والأخريين من فتاتين كانتا مع أخته في المدرسة، فأمسك بطاقة عزيزة في يده، وأطال النظر إليها وللقليل المكتوب فيها، وعلته رعشة كان في وسع أخته أن تتبينها لو أنها أقدر على الملاحظة مما كانت. وحدث نفسه أن يأخذ هذه البطاقة لنفسه ويضعها تذكرة بين أوراقه، ولكن تمسك أخته بها وتشددها في طلبها وحرصها على ألا ينقص من معايداتها واحدة جعلته يردها إليها آسفا.
فلما خلا إلى نفسه في غرفته جعل يستعيد أمانيه القديمة الماضية، وود من كل قلبه لو أن عزيزة جاءت مع أخيها لتمضية أيام العيد في البلد. لكنها لم تجيء بل بقيت هناك مع أهلها في مدينتهم الصغيرة، وبقيت بعيدة عنه وهي تعلم ما في قلبه من الشوق لها.
وطالت به هذه الآمال التي تجيء إلى رءوس الشبان في أول شبابهم، وراح في أحلام لذيذة صور لنفسه فيها كل ما يشاء ، ورتب الحياة التي سيكون فيها مع عزيزة دائما جنبا لجنب، ولم ينبهه منها إلا ما أحس به من الحركة الكثيرة في صحن الدار الذي تطل نافذة غرفته عليه، حينذاك نظر إلى الغرب أمامه، فإذا الشمس تنحدر إلى مغيبها كأنها تحس مع هذا العالم الجائع فهي تريد أن تسعده بالقضاء على الساعة الأخيرة من رمضان. ولم يلبث إلا لحظة حتى دق بابه من ناداه للطعام، فإذا أهله جميعا ما بين ناظر إلى الغرب يحدد عينيه يريد أن يتحقق من اختفاء النهار، وآخر ممسك ساعته بيده ينظر إليها من لحظة للحظة نظرة ملأى بالقلق، وثالث مسبل عينيه كأنما يريد أن ينسى هذا الوقت الباقي. ورابع يحدق إلى السقف وأعلى الجدران كأنه يجد جديدا في هذه الأشياء التي رآها من قبل مرات لا عدد لها، وصغيرين لا ترتفع أعينهما عن المائدة وما عليها من الأطباق اللذيذة والحلوى يسيل لها لعابهما.
أخذ مكانه بين الجالسين. وما هي إلا لحظة حتى اعتلى وسط الصمت الأخرس الذي حكم على القرية صوت المؤذن مبشرا برجوع الحرية للناس، فابتسمت له الثغور، ونمت الصدور عن تنهد طويل يشعر بالرضا والسرور. •••
غدا يوم العيد يتزاور فيه الناس ويتبادلون فيه التحيات المعتادة، ويتغير شكل الوجود، فيخرج من صمته وحزنه إلى فرح وضجة، وتبسم ثغور الفلاحين الذين يملأون طرق قريتهم رائحين جائين يصافحون كل من قابلوا، ويرجون له سنة طيبة وعمرا طويلا، ويدخلون بيوت أقاربهم وأصدقائهم يشاركونهم في ذلك الجذل العام، ويضحكون معهم عن نفس طيبة راضية بالحياة. وينساب على الطرقات ما بين حين وآخر نساء وفتيات يحملن على رءوسهن عيد أخواتهن وقريباتهن، وهن في جلابيبهن الحمراء أو سترنها بثوب أسود ينم عنها، وتتبع الواحدة الأخرى أو تسير إلى جانبها، وكلهن يتهادين في مشيتهن، ويتحادثن وعليهن علامات السرور، فإذا قابلن سربا من أمثالهن تواقفن للتهنئة بالعيد، ولكنهن دائما ضنينات أن يرسلن في هواء ذلك اليوم الفرح رنين ضحكاتهن خيفة أن يقال خليعات.
قام مع جماعة من أصحابه يطوف البلد الصغير.
انتبه حامد مبكرا وصلى العيد. ثم بعد أن قابل الناس ممن جاءوا يهنئونه ما بين راج له عمرا طويلا وعجائز القوم ضاحكات يردن له عرسا في حضنه العام القابل، قام مع جماعة من أصحابه يطوف البلد الصغير من أدناه إلى أقصاه يشارك أهله في عيدهم. وكلما مر بقوم حياهم وصافحوه جميعا وتبادلوا معا الكلمات المعتادة، أو نزل عندهم وشرب قهوة ثم تركهم إلى غيرهم. وإن مرت به بعض تلك الأسراب لم ينس أن يقول لهن: «كل سنة وانتو طيبين يا بنات»، ويستمر في سيره إن لم يناد بعضهن باسمها ويسألها عن شأنها، فترد عليه كسيرة الطرف قد سترت وجهها بشاشها الرقيق، بكلمات قليلة تلقيها وهي سائرة في نظامها.
مرت زينب في أحد هاته الأسراب، فنظر لها حامد ولم يخاطبها بشيء. ولكن وجودها بين فتيات كلهن من عائلة واحدة هي الغريبة عنها جذب نظره ونظر بعض أصدقائه الذي لم يصبر أن قال: إن شاء الله يا زينب يودوا عرسك السنة الجاية.
نامعلوم صفحہ