جعلا يتغلغلان بين أزقة القرية حتى كانا عند الجامع يقوم بهدوئه وسكونه يذكر بالموت وما بعده. ترن فيه الأصوات مسبحة مقدسة ساعات الصلاة، ذاكرة ما وراء هذه الدنيا الفانية حيث الناس دائمو اللهو مقيمون على الفتك والجنون، ولكنهما بقيا كما كان يضحكان ناسيين في شبابهما الساعة الرهيبة التي تنتظرهما كما تنتظر سواهما. وكل همهما أن يصلا إلى دار عمي سعيد، ليريا ضجة السرور وضوضاء الأفراح، ويسمعا الضحكات العالية يرسلها أولاد الفلاحين، فترن في الهواء تحكي فراغ بالهم وسذاجة نفوسهم.
دخل حامد مع صديقه. وما عتم أن عدى عتبة الدار حتى رأى أمامه جماعة من الفلاحين لا يكاد يكون وسط دائرتهم فتاة واحدة، بل كلهم من الشبان. أما من أردن من الفتيات أن يكن على مقربة فقد بقين حول هذا الجمع غير المنتظم يضم بين جنبيه الواقف والجالس والمتكلم والصامت واليقظ ومن تتلاعب برأسه رسل النوم، ويضيء على الكل مصباح ضئيل النور هو وحده الحزين في هذه الدار الراقصة في سرورها، المنتظرة يوم الفرح الأكبر تستعد له يوما بعد يوم. ويرسل هذا الحزين بأشعته الحمراء على هاته الوجوه التي عمل فيها الشقاء والشمس وبرد الشتاء، فهجرتها النعومة وإن بقيت لها بشاشتها.
ولقد غطى على أصوات المتكلمين، فلا يميزها مميز، صوت «الدربكة» أمسكها بيده من يتقن النقر عليها. وامتدت عيون اليقظى إلى الراقصين وسط حلقتهم.
لما رأى حامد هؤلاء العمال تذكر أيام الصيف، وجعل ينادي من بينهم جماعة الفتيان والفتيات الذين عرف وقتئذ، فيسألهم عن حالهم وما صار إليه أمرهم. ويخبرونه جميعا أنهم يشتغلون كما كانوا من قبل، ولا يكاد يتركهم حتى يرجعوا إلى إخوانهم وينسوا حامدا وكل ما يسأل عنه، ويعطوا أنفسهم لهذا السرور الجم تنهل منه: تلك فرصة لا ينبغي إضاعتها و«ساعة الحظ متتعوضش»..!
وفيما هو يتصفح الوجوه وجد أخت زينب واقفة مستندة إلى الحائط تكلم جارة لها، فسلم عليها وسألها عن أختها. ولكنها لا تعلم إن كانت فوق السطح تتفرج من الدرابزين كعادتها كل ليلة، أو هي قد راحت إلى الدار. فصعد على أمل أن يراها ويسلم عليها. وارتقى السلم بعد أن اخترق هذه الجموع التي لم تترك في المكان شبر فضاء. فلما كان عند الدرابزين فوق السطح الممتد عليه رواق الليل الحالك الظلمة وجد زينب جالسة وحدها، فأخذ مكانا إلى جانبها، ونبهها بحركة لطيفة لوجوده، لكنه دهش لهذه الوحدة التي وضعت الفتاة فيها نفسها تاركة الدار والضجة والضحك، لتبقى منفردة تحت رحمة الشتاء. لذلك لم يزدد دهشة أن رآها حين التفتت إليه بادية الذهول ثابتة العين. وبعد لحظة سألها: ازيك يا زينب..!
ولكن زينب كانت في تيهاء حتى لم تستطع تمييز ما يقوله لها حامد، فحولت نحوه عينيها، وأجابته بنظرة تحوي من الرقة والألم ما ذهب إلى أعماق نفسه. ولو لم يكن ما في المكان من ظلمة ليل الشتاء آخر الشهر لذابت لهذه النظرة نفس الوجود. لكن الحلكة السائدة لم تبق من ثالث يحس مع حامد بما حوته النظرة الأليمة!
وازيك يا زينب..
كرر حامد سؤاله، وأخذ يدها بين يديه، وقبلها على صدغها قبلة أخوية. الواقع أنه أحس كأن الفتاة المسكينة تعاني ألما نفسيا لا يعزيها عنه أحد، فأخذته الرحمة بها. وتقبلت زينب منه ذلك بقنوع وشكر نمت عنه نظراتها. فلما رآها كذلك زاد عطفا عليها، فجذبها وجعل يلاطفها، وهي قد تاهت عن نفسها، ونسيت الماضي والحاضر، واستسلمت للطفه ورقته، وتركت نفسها مستندة عليه. لكنها لم تلبث أن عرتها قشعريرة حين ذكرت أن قلبها ليس بيدها. وفي لحظة غطت عيونها النجل سحابة من الدمع، تنم عما عراها من الحزن وتعبر عن عظيم تقديرها لحامد.
تمر علينا ساعات وقلبنا ملك غيرنا، ولكن لثالث على أنفسنا من السلطان ما نود لو أعطيناه كل حياتنا، فيحزننا الإحساس أنها ليست لنا، وأن أيامنا على الأرض وما تكنه من سعادة وألم وحزن وفرح انتقلت من حوزة يدنا وأصبحت في حيازة غيرنا - في تلك الساعات ونحن ننظر لهذا الثالث تعرونا قشعريرة حين نحس بالعجز دون كل شيء نريد أن نهبه إياه. •••
مد الظلام رواقه على الوجود العظيم، فلم يكن يبدد قوته إلا تلك المصابيح الضعيفة ترسل أشعتها الذهبية في دائرة ضيقة مما حولها، فتظهر كأنها جرح دام في جسم ذلك الجان، أو هي سلاح الفلاح لم يتغير بالقرون يمتشقه كلما خذلته السماء واحتجب عنه نورها. في ذلك الليل حكم بسلطانه القاهر على الموجودات، فخضعت لجبروته، وعنت لحكمه، وتساوت أمام سطوته الحزون والوهاد - نظرات كانت تخترق ظلماته كلها الحيرة خالطها الأسى، ويريد أحد هذين الصامتين - وقد علاهما الذهول - أن يستطلع ما في نفس صاحبه، والآخر في جماله يحوي من الغيب ما يقف أمامه صاحبه حيران عاجزا. في مثل هذا الموقف لم يكن لحامد إلا أن يقطع سكوتهما الطويل بالسؤال عما خلفت الليالي مما غاب عنه. حينذاك تنهدت الفتاة تنهد الرضا، إذ علمت أن في الوجود نفسا تهتم لها، ثم قالت إنها مسرورة، وأن لا شيء قد جاءت به الأيام. ورجع الصمت الأول، حول مل منهما نظره إلى جهة الراقصين والضاحكين.
نامعلوم صفحہ