نأتي الآن للنظر في معالجة المنهجين، فبسبب الخلاف حول قضية العقل والنص ظهر تفسيران لمعناها. فمن ضروريات الدين التي لم يختلف عليها أحد أن جميع أمورنا، صغيرها وكبيرها خاضعة لله تعالى. وأننا مملوكون له جل شأنه لا نتصرف في حياتنا إلا بما يرضاه. وقد تجلى هذا المعنى من خلال أوامر الله تعالى ونواهيه التي طالت تفاصيل حياتنا، حتى وصلت إلى كيفية الاستئذان وأحكامه. ولكن ما معنى هذه الشمولية؟ أهي شمولية نص أم شمولية رؤية؟ هل الشمولية تعني أن جميع مناحي الحياة تقع ضمن النصوص الدينية القرآنية والنبوية؟ تأخير العقل عن النص سيؤدي حتما إما إلى القول بشمولية الإسلام بهذا المعنى، وإما إلى إلغاء مبدأ الشمولية لما تواجهه من مشكلات نابعة من سياقه الذي تفسر فيه. إن النصوص مهما كثرت فهي محدودة، ودلالاتها مهما اتسعت إلا أنها لا يمكن أن تستوعب كل المتغيرات المستحدثات، فضلا عن كونها تشمل جميع تفاصيل الحياة. ولا يتعارض هذا مع قوله تعالى:{ما فرطنا في الكتاب من شيء}[الأنعام:38]، ولا مع قوله تعالى:{تبيانا لكل شيء}[النحل:89] ذلك أن عبارة "كل شيء" لا تعني العموم المطلق، وإنما العموم المخصوص بمقتضيات السياق الذي وردت فيه العبارة. فقوله تعالى: {تدمر كل شيء}[الأحقاف:25] لم يقصد تدمر كل شيء من الأشياء، بل كل ما بتدميره تكون العقوبة التامة على القوم قد تحققت. وقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء}[النمل:23] لا يعني أكثر من أنها أوتيت كل ما من شأنه أن يعزز ملكها. ومحدودية دلالة النصوص تؤدي في نهاية الأمر إلى تكلف كبير في استخراج دلالات خارجة عن مقصود النصوص، أو إلى القول بمحدودية دور الدين في حياة الإنسان ضمن نطاق ما صرحت به النصوص. المنهج العقلاني، باعتبار جعله العقل مصدرا أوليا للمعرفة، اعتبر أن الشمولية أعم من شمولية النصوص. إنها شمولية رؤية. شمولية تنطلق من تأثير الإسلام على لون رؤيتنا للحياة. إن كل ما يقع فيه الإنسان مشمول برؤية ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) وكل ما يعمله الإنسان تتناوله هداية. فالقرآن الكريم كتاب هداية أولا، وكتاب تشريع ثانيا. والهداية هي الدلالة إلى المطلوب. وهداية القرآن هي إلى الله تعالى، وإلى سعادتنا. وقد وضع الله في كتابه كل ما يحتاج إليه الإنسان لكي يسير على الطريق المقصود، كما قدم له ما يغنيه لكي يحدد تفاصيل ذلك المسار. ولكن الله تعالى كما دلنا على الطريق، بغير أن يوصلنا إليه بنفسه، وإنما ترك الوصول علينا، وترك باب الاستعانة به مفتوحا؛ فهو كذلك قد دلنا على كيفية وضع تفاصيل ذلك المسار،وترك لنا الكثير مما يجب القيام به. مثالا لهذا الأمر موضوع الدولة، والتي تعتبر من أهم القضايا ومن أولويات الدين. فضرورة الدولة العادلة التي ترعى مصالح الناس وفق منهج الشمولية الأول ينطلق من وجود النص. في حين أنها وفق المنهج الثاني أمر ينطلق من العقل ولا يتطلب النص. كما أن التحرك نحو تلك الدولة يتأسس على جملة من المفاهيم حول العدل، والحرية، والمساواة، والحقوق ونحوها. وهذه مفاهيم عقلية يدرك الإنسان ضرورتها، وضرورة العمل بها بغير أن يكون هناك نص شرعي. فإذا أشار النص الشرعي إلى أي من تلك المفاهيم فإنما يؤكد ويشدد على ضرورتها، ويجعل من الله تعالى حاميا لها، ومدافعا عنها، ولكنه لا يؤسس لها. فهي مشمولة بحضور الله معها، وليست مشمولة بتشريع الله لها. هذا المعنى الروحي في حين أنه لا يسلب العقل استقلاليته في إدراكها، فإنه أيضا يعطي الفرد والمجتمع دافعا أكبر نحو العمل لتحقيق تلك المفاهيم، ولإنشاء مثل تلك الدولة. ولكن لما تم تأخير العقل عن النص، صار العقل منتظرا للنص ليعطيه الإذن بالعمل في هذا الاتجاه أو ذاك. ولما كان النص من شأنه أنه لا يعطي التفاصيل كلها، اعتمادا على العقل وخبرته، وجدنا أنفسنا بعقل ممنوع من العمل، وأمام حاجات لم يفصل فيها النص، وصرنا إما نتهم النص بالتقصير، أو نجهد بالتكلف في استخراج دلالات منه، لم يردها ولم يشر إليها. إن النص أتى لينبه العقل إلى معنى الحياة، ليعطي الإنسان الدافع الروحي في التحرك وفق ذلك المعنى، ثم تركه ليحدد معالم وتفاصيل تلك الحركة، مع شيء من التدخل في قضايا فرعية لا تؤثر على جوهر الحركة، ولا على وجهتها، كما لا تقلل من دور العقل في رسم مستقبله. ولكن الذي حصل في الثقافة الإسلامية هو أن العقل تم إلغاؤه، وحصر دوره في فهم النصوص الدينية، واعتبرت جميع القضايا التي أتى بها النص تأسيسا لأحكام لا يمكن للعقل أن يدرك ضرورة القيام بها بذاته، كما اعتبر أن جميع شؤون الحياة لا بد وأن تنطلق من النصوص لتجد مشروعية لها في الحياة. إن شمولية الإسلام كانت من أنه قدم رؤية تغير من نظرتنا للحياة، فأثار العقول نحوها وطلب من الناس السعي إليها وقدم قيمتها الذاتية قبل قيمتها الشرعية، بحيث يكون السعي إليها أساسا نابعا من الحاجة الذاتية للأمر، وليس من التشريع الخارجي له.
صفحہ 56