3. عناصر تشريعية، وتشترك مع ما سبق في أنها من صناعة المجتمع، ولكنها تختلف في أنها مقننة غير عفوية. أيضا فإن درجة الوعي بها وبحضورها أقوى. هذا الأمر الأخير يجعل تأثيرها أضعف من الأعراف والتقاليد والعادات والتي يمكن اعتبارها "تشريعات" غير حاضرة في الوعي مما يضعف مقاومتها، فيقوى تأثيرها. تتميز العناصر من النوع الأول بامتلاكها قداسة وهيبة الدين، قداسة تعطي الفكرة أثرا مضاعفا سلبا أو إيجابا،حسب خطأ أو صحة الفكرة. والتجارب التاريخية للحركات الاجتماعية والسياسية تظهر أن الرؤية للعالم ذات قيمة كبرى، هذه القيمة لا تختلف باختلاف طبيعة الرؤية دينية أو غيرها، إلهية أو إلحادية. ونجد أن الثورات الحضارية إنما انطلقت في البدء من تغير جذري في الرؤية للحياة وللإنسان ولدوره ومركزه فيها. من المشاكل التي لازمتنا منذ عصر النهضة الفصل بين الرؤية الكونية الغربية وبين المفاهيم السياسية والاقتصادية والعلمية التي أوصلتهم إلىما هم فيه. فلولا تلك الرؤية لاختلفت المفاهيم السائدة بينهم اليوم، ولاختلف تبعا لذلك حالهم حضاريا. من الخطأ اعتبار مفاهيمهم السائدة مجرد أدوات يمكن استيرادها واستهلاكها دون أسسها الفكرية التي تولدت منها. إننا اليوم وكما كنا بالأمس، وكما يشعر كل واحد منا، نحتاج إلى أن نتحرك إلى الأمام. نعلم جميعا أن مظاهر الحضارة لدينا لا تعني كثيرا، حيث إنها التي تتحرك نحونا، في حين أننا لا نسعى إليها أو إلى الأسس التي تنشئها. نحن لا زلنا نستقبل العصر، ولكن لا نتقدم إليه. تلفيقيون في حلولنا، وغاية ما نطمح إليه في كل مرحلة مختلفة إما التكيف نفسيا وفكريا مع الآخر الذي لا ينتظر إذنا ليدخل حياتنا، وليسيطر على جميع مناحيها؛ وإما حسن تطبيق نتائج تجربته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ذلك كله لأننا نغفل الأسس الفكرية التي أنشأت الحركة الحضارية للمجتمع الغربي، ظانين أنه يمكن الفصل بين التجربة وبين الأسس التي أنتجتها. لقد عاش الغرب التخلف قرونا من الزمان، ثم لما تخلص مما كان يكبل حركته، أنتج حضارة متلائمة مع هويته، وظروفه التاريخية. اليوم علينا أولا التخلص مما يكبل حركتنا، لنتحرك وفق هويتنا الخاصة، وظروفنا التاريخية المختلفة فننتج واقعنا المتقدم المتناسب معهما. هذا الواقع الذي سنصل إليه قد يشابه ما وصل إليه الغرب، وقد يختلف عنه، ولكنه في نهاية الأمر سيكون واقعا نملكه نحن، سيكون واقعا مستمدا أساسا من حركتنا، وفي الوقت نفسه يقدم لنا ما نريده لأنفسنا ولمن يلينا من الأجيال. لا يعني هذا عدم الاستفادة من بعض أو كل ما أنتجته الحضارة الغربية من أدوات سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، ولكن لتكن استفادة من يتحرك، وليست استفادة من يستقبل؛ استفادة مجتمع وجدت لديه تلك الروح المحركة نفسها التي وجدت لدى الغرب حين انطلق، تلك الروح التي منحته أسس الفاعلية، وأزالت من فوقه مسببات الانفعالية. تلك الروح التي تشكل أرضية لا غنى عنها لنجاح جميع المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالخطوة التي يجب أن تتقدم استيراد المنتجات الحضارية هي خلق الروح المحركة لمجتمعنا. ولكن لما كانت تلك الروح تستمد وجودها بل وأيضا فناءها من طبيعة الرؤية الكونية السائدة، فلا بد لنا أولا وقبل كل شيء من النظر فيها وما تقدمه لنا من عناصر محركة، أو مثبطة، لنعزز من الأولى، ونتخلص من الثانية. وما يؤسف له أنه وجدت ضمن مفاهيمنا الدينية المؤسسة لرؤيتنا الكونية مجموعة من المثبطات الحضارية التي كان لها دور حاسم في الحد من طبيعة حركتنا الحضارية. بعض هذه المفاهيم لم يعد لها حضور في الثقافة الدينية العامة، وأخرى بقيت محافظة على موقعها ودورها في تشكيل الواقع اليومي للمسلمين إلى اليوم.
صفحہ 25