أما معاملته لأهل بيته من العاملين فهي معاملة الأب لأولاده، ويسمح لهم بأن يناقشوه ويفصحوا عن آرائهم السياسية، ويصحح لهم الفكر الخاطئ، لكن برحمة، والرحمة عنده لا تتعارض مع الصوت العالي.
وفي السنوات الأخيرة احتاج إلى من يساعده في ارتداء ملابسه، ويحفظ أدويته الكثيرة ولا يخطئ فيها، وكان هذا الشخص هو «عادل» وهو يعمل عندنا منذ عشرين عاما، وإذا جاء طبيب ننادي «عادل» ليذكر له أسماء الأدوية ومواعيدها؛ حتى يزيدها أو ينقصها. وكان «عادل» لا يدخر وسعا في خدمة زوجي، وفي الشهور الأخيرة كان لا ينام الليل، ويسهر على راحته مع الممرضات إذا كان في المستشفى، وكان أمينا غاية الأمانة؛ فقد حدث أن جاء طبيب كبير إلى البيت وبعد أن كشف هم بالانصراف، فمشيت معه إلى الباب الخارجي وأعطيته ظرفا به الأتعاب المناسبة لمكانته وعدت إلى الغرفة، وإذا «بعادل» يعطيني مبلغا من المال ويقول لي: وجدت هذا المبلغ على الأرض أمام الباب فأدركت أنها الأتعاب سقطت من الظرف؛ فأسرعت إلى التليفون وشرحت للطبيب ما حدث، فلو أن «عادل» لم يكن أمينا لكان موقفنا محرجا للغاية، وقد كتب ثروت هذه القصة في الأهرام.
وكان «ناصر» شقيق عادل يخدم «ثروت» في غياب أخيه، وله نفس الخبرة، وكانا يتبادلان المبيت في المستشفى؛ لأنهما أعلم من الممرضات بما يريح «ثروت»، وكان الأخوان يناقشانه في الدين ويستمع لهما، ولكن إذا لم يعجبه الكلام فإنه يشرح لهما «يسر ولا تعسر!»
أما حسن الطاهي وأخوه أحمد فقد بدأت خدمتهم له منذ عشرين عاما، رعاهما وأحسن معاملتهما وقدم لهما خدمات لا ينسيانها طوال العمر، ومجاملة لحسن سافر من القاهرة إلى طنطا ليحضر عقد قرانه، وعند رحيل ثروت مباشرة توافد إلى بيتنا مئات المعزين، وكان عمل حسن وأحمد من الصباح إلى منتصف الليل، وبقي الحال كذلك أربعين يوما ورفضا بإباء وإصرار أن يأخذا مكافأة مالية على العمل الشاق الطويل.
وإما إبراهيم السائق فقد كان يسمح له بالتدخين في المسافات الطويلة؛ لأنه يعرف كيف يكون حال المدخن إذا لم يستطع التدخين. ولإبراهيم قصة، ففي يوم اجتماع الجمعية العمومية لاتحاد الكتاب - وكان ثروت رئيسا له حينذاك - دخل السائق بين الأعضاء فسمع أحدهم يصف «ثروت» بما ليس فيه؛ فثارت ثائرته، ورد على العضو بعنف وجرأة؛ فغضب العضو وذهب إلى مكتب ثروت وشكا له السائق، فأمر ثروت بإحضاره وقال له كيف تجرؤ أن تكلم الأعضاء بهذه الجرأة؟ فقال له: «إنه وصفك بما ليس فيك.» فأجابه: «المفروض أن تكلم الأعضاء بكل توقير واحترام!» وأجبره على الاعتذار، وقبل العضو، ومرت المشكلة بهدوء دون أن يحاسب العضو أو حتى يعاتبه.
وقد حكى لي إبراهيم السائق أيضا بكل زهو أنه أوصل «ثروت» إلى البنك الأهلي ولم يجد مكانا يوقف فيه السيارة إلا في صف ثان، ولما جاء عسكري المرور وضع على السيارات التي أمام سيارته مخالفة وعلى السيارات التي خلف سيارته مخالفات وترك سيارته ولم يقترب منها، ولما عاد ثروت ورأى كمية المخالفات الموضوعة ورأى سيارته بدون مخالفة تعجب وقال للسائق: كيف يكون ذلك؟! فأجاب السائق: لما رأى العسكري هيبتك ووقارك لم يقترب من سيارتك. فما كان منه إلا أن نادى على العسكري وسأله لماذا لم تضع مخالفة على سيارتي؟ فارتبك العسكري ولم يجب فقال له: تعال وأد عملك كما يجب، وقل لي: كم قيمة المخالفة؟ ثم دفعها وأمر السائق بالسير بين دهشة العسكري وذهوله، وقال السائق: إن مثل هذه الحادثة تكررت أكثر من مرة وعلى طرق مختلفة.
وقال لي السائق أيضا: إن سيارة ثروت كانت 131 ومرت بجانبه سيارة «مرسيدس» على أحدث طراز فقال السائق: أما كان يجب أن تركب أنت المرسيدس؟ فأجابه ثروت على الفور: أنا ثروت أباظة سواء ركبت المرسيدس أم ركبت عجلة. والسائق يحكي وكله فخر بأنه يعمل عند إنسان يعرف واجباته ويعطي البلد حقها، ولا يستغل الحكومة حتى في مخالفة.
وكان كل العاملين في المنزل يقولون: إنهم لم يشعروا قط أنهم خدم، وكلهم يعملون عنده منذ أكثر من عشرين عاما ولم يشعروا منه إلا بكل حب ورعاية.
حب وتقديس
كان حبه لأبيه تقديسا أكثر منه حبا، وإعجابه وانبهاره بلا حدود، وكنت إذا رأيته مهموما أو صامتا أحاول أن أخرجه عن صمته، ويكفي أن أحدثه عن أبيه؛ فينطلق وتعاوده الذكريات، ويقص علي عنه قصصا كلها إنسانية وشموخ، وتصرفات كلها رحمة؛ فمثلا في طفولته وكان عمره لا يتجاوز الثانية عشرة عنف عاملة في المنزل، ودفعها بيده؛ فبكت وسندها شامل من ناحية وسامح من الناحية الأخرى ليضخما الأمر، وذهبا بها إلى دسوقي باشا وشكت له «ثروت» فما كان من دسوقي باشا إلا أن نادى ابنه الأكبر وقال له ستفعل بك مثلما فعلت بها. ولكن الخادمة رفضت بطبيعة الحال واكتفت بهذا الحكم كترضية لها.
نامعلوم صفحہ