میرے شوہر ثروت اباظہ

عفاف عزيز أباظة d. 1438 AH
23

میرے شوہر ثروت اباظہ

زوجي ثروت أباظة

اصناف

ولما علت بنا السن كنا نذهب إلى الإسكندرية، ولكن بدلا من السباحة كل يوم أصبحنا نذهب إلى قهوة التريانو في محطة الرمل وهي على الرصيف، ويختار زوجي مائدة محددة تحت شمسية ويقضي فيها فترة الصباح. وعلى رغم أن رسائل التهديد بقتله كانت تصله في هذه الأيام إلا أنه كان يصر على أن يجلس على هذا الرصيف المكشوف من كل جهة، وعبثا حاولت أنا وحارسه الخاص أن نرجوه أن نذهب إلى مكان مغلق ولكن لا فائدة، حتى إن الحارس قال له: «أنا مكلف بحمايتك، ولكني أريد أن أرى ابني الذي لم ير النور بعد وفي هذا المكان المكشوف لا آمن على حياتك.» وبقينا على رصيف التريانو طوال المدة، وكان يسعد عندما يحييه المارة ويعرفونه بأنفسهم، ويتكلمون معه، ويبدون إعجابهم بمقالاته، وكانوا من مستويات مختلفة ومن جميع الأوساط والأعمار؛ فكان منهم أساتذة في الجامعة، ومنهم طلبة من الشباب، ومنهم سيدات وآنسات، ومنهم «سائقو تاكسي وسائقو ترام» يحيونه بحرارة وبابتسامة عريضة، وكنت أتساءل: «كيف لهؤلاء السائقين وهم على قدر بسيط من التعليم أن يعرفوا كتاب المقالات الأدبية والسياسية؟» وكان يقول لي: «الحمد لله أن حياتي لم تذهب هباء.»

وكانت تأتي معنا حفيدتنا «ياسمين» وهي في التاسعة من عمرها، ولتقطع الملل كانت تحصي عدد الذين يسلمون على جدها ويحيونه، ويظل هذا هو شغلها الشاغل طوال إقامتها معنا في الإسكندرية، وأما في المنزل فكانت تتسلى بأن تصنع «كيكة» لا تؤكل، أو «تورته» لا تنظر، أو شيكولاته مخفوقة. والغريبة أنها تكون أيضا مرة المذاق. وكنت أقول لها ارحمينا! في حين كان جدها يقول لها إنه لم يذق شيئا أحلى مما تصنعه، على رغم أنه لا ينطق إلا صدقا.

وكان معروفا عن ثروت عند الأصدقاء أنه لا يحب أن يبقى في الأفراح أكثر من ربع ساعة أو نصف ساعة إذا اضطر أن يجامل من معه على المائدة. دعينا مرة إلى فرح وتأخرنا فيه، ولما نزلنا سألنا السائق متعجبا ماذا حدث؟ فقلنا له السبب، وهو أن الداعي ظل على الباب ينتظر رئيس الوزراء، ورئيس الوزراء تأخر؛ فاضطررنا للبقاء حتى يترك الباب ونستطيع الهروب.

وفي فرح آخر في مصر الجديدة قطعنا مسافة في ساعة تقريبا وقبل الوصول بدقائق أعلن المذيع في الراديو عن حلقة من حلقات «عازف الحب والألم» وهي قصة حياة أبي في أواخر السبعينيات، وطبعا كنت أحب أن أسمعها، ولكننا وصلنا، وقبل أن ندخل من باب المبنى رأيت الزفة تسير أمام الباب الخارجي ولكن من الداخل ورأيت أم العروس، وهي صديقتي، فوقفت على الباب وقبلتها وهنأتها وعدت إلى مكاني لأنتظر انتهاء الزفة لنستطيع الدخول، وإذا بثروت يقول لي: ألم تقبلي صديقتك؟ - بلى. - ألم تهنئيها؟ - بلى. - إذن هيا بنا.

كل هذا ونحن على الباب الخارجي لم ندخل بعد، وعدنا أدراجنا واستمعنا إلى الحلقة في الراديو ونحن في طريق العودة. والمفروض أن السيدات تحب أن تستعد للأفراح؛ فتفكر فيما تلبس، ومتى تذهب إلى «الكوافير»، ومتى تتجمل أو تحاول أن تتجمل، كل هذا يأخذ وقتا طويلا فهل تساوي الدقائق القليلة التي قضيناها على باب الفرح كل هذا التعب؟!

والحمد لله أنه قرر بعد ذلك عدم الذهاب إلى الأفراح نهائيا، ولكن هناك أفراح لا نستطيع أن نرفضها؛ فأصحابها من أعز الأصدقاء وأقربهم إلى قلوبنا، وكنت أقوم أنا بهذه المهمة وحدي مندوبة عنه، ولم تكن هذه الأفراح كثيرة بل كانت في أضيق الحدود.

وكان دائما يهتم بملبسه، ويختار الألوان المتناسقة، ويقول: «إن هذا الاهتمام معناه احترام الذات واحترام الغير.» وعندما يخرج من البيت صباحا مرتديا «بذلته» البيضاء كان كثير من أصدقائه وزوجاتهم يقولون له: «إن «البذلة» البيضاء لائقة عليك جدا.» وعندما يعود إلى المنزل يعيد علي الإطراء الذي سمعه، فأجيبه: «فعلا أنت تبدو جميلا في «البذلة» البيضاء.» وهذه الكلمات الحلوة لم أنطق بها إلا عندما وصلنا للكهولة، وأظن أنها لم تكن ذات تأثير يذكر عنده.

وكان يعنف شباب الأسرة إذا وجد مظهرهم ليس كما يجب، وكان يحب أن يرى شعرهم في شكل لائق ولا يهملون في حلاقة ذقنهم. وحدث أن اجتمع أربعة من شباب الأسرة وكانت مهمتهم أن يوزعوا دعاوى فرح «عمر رضوان» ووصلوا إلى باب منزلنا، وأخذ ينظر كل منهم للآخر ليختاروا الأليق منظرا؛ حتى يتفادوا تعنيف ثروت، وأخيرا اختاروا «طاهر أباظة»، وسلمه الدعوى، ولكنه لم ينج من الانتقادات الحادة، ولكنها أبوية، وكانوا يتقبلونها برحابة صدر وبحب كبير.

ولما كبر أبناؤه ظل يتابعهم وكان يقر عينا إذا رآهم بخير، ويشتعل قلبه بالوجل إذا مسهم سوء، ولكن «دسوقي» تولى عنه إدارة أرضه في «غزالة» وحمل عنه هذا العبء، وأصلح منزل الأسرة هناك، الذي كان آيلا للسقوط؛ على مسئوليته الشخصية، وجعل من الحديقة آية في الجمال والتنسيق، ودسوقي ابن بار يحس بكل ما يقض مضجع أبيه، ويسارع إلى مشاركته فيه وتخفيف الوطأة عنه، وفي مرة حاولت أن أقنع زوجي أن نسافر أسبوعين إلى سويسرا كما هي عادتنا، ولكن «دسوقي» قال لي: لا تلحي عليه؛ فقد وهن جسده ولا يحتمل متاعب السفر مهما كانت التسهيلات التي تقدم له عندما يسافر هنا أو في جنيف.

وفي الشهور الأخيرة من مرضه استأذن «دسوقي» من عمله ولازم أباه وبقي إلى جانبه يحايله ويلاطفه حتى ينفذ أوامر الأطباء؛ فقد كان له دراية ليست عندي في إقناعه بأن يأكل وهو مضرب عن ذلك، وفي أن يوافق على العلاج الطبيعي الذي يرفضه، وفي أن يقنعه بأخذ الدواء الذي يضيق به، كل هذا بصبر وبرفق، وفي نفس الوقت كان يحاول أن يهيئني للمصير الذي لا مفر منه. أما أمينة فهي تجسد المثل الذي يقول «كل فتاة بأبيها معجبة» فهي معجبة بمبادئه وأخلاقه، ومعجبة بأدبه الذي ينادي بالحرية دائما، وبالتفاؤل الجميل الذي تتسم به طباعه، وينضح على كل كتاباته، وتحب فيه صراحته ومرحه وسرعة بديهته ، وتشترك معه في هذه الصفات، والتشابه كبير بينهما، فهما دائما النقاش، ولكن كلا منهما يقدر الآخر، وأمينة لها قلب كبير يتسع لحب الناس جميعا، والحيوانات أيضا، ويعتبر حبها لأبيها حبا ممزوجا بالتقدير والإعجاب، أمينة شفافة النفس، مرهفة الحس، طاهرة القلب، تقرأ باللغتين العربية والفرنسية منذ طفولتها، وهي أديبة ومحبة للجمال، يصل كرمها إلى حد مبالغ فيه، وتساعد المكروبين ما وسعها ذلك، ويحبها الأطفال لنقاء سريرتها ومرحها، وهي لها أفكار خاصة بها لا يتفهمها كل الناس؛ فهي واسعة الأفق لا تعترف بالصغائر، وذلك يجعلها في نقاش دائم مع بعض الناس، وفي المجموع هي إنسانة رقيقة طيبة القلب رفيعة الخلق.

نامعلوم صفحہ