زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة
زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة
اصناف
أما ابنك رياك فعاد أدراجه إلى المنزل ونام، دائما ما كانت الطرق السهلة مقفلة أمام زوجتك مليكة، فلم تستطع يوم الكارثة أن تودع أمها، ولو بنظرة سريعة خاطفة، ولو بهمسة، أمها العجوز، ولم تستطع أن تقبل خد والدها الأعجف وعظامه البارزة، لم تتمكن من تلبية ندائه: اديني حقة التمباك.
لم تستطع أن تأخذ من جدتها العجوز ذات السن الواحدة آخر حكمة تخامر عقلها القديم، فكانت القذائف كالصواعق، والرصاص كالمطر تنشد موسيقى الرعب في سماء القرية الوادعة الجميلة النائمة على أحلام الغزلان والسناجب، المموسقة بتغريد الطيور وزقزقة العصافير. مليكة لم تسمع في حياتها أروع من زئير أسد الأبقار، وما كانت تتخيل أن هنالك صوتا أكثر رعبا وعنفا من زئير هذا الأسد الأحمر، جدها بونا لا يعلم أيضا أن في هذا العالم الذي يمتد من غابات ما بعد الغابات إلى بلاد العرب، يمكن أن يوجد صوت أقوى وأعنف من زئير أسد الأبقار الأحمر الغاضب في ليلة هادئة، وأنت تعرف جيدا أن مليكة شول انتزعت من ديار ما كانت تود مغادرتها، لتصبح في حضنك دافئة مباركة، ولو أنك تعرف جيدا خلفية الصراع في الجنوب كنت تقنع نفسك بأنها لا تنوي غير إرهابك، عندما كانت تريك جمجمة والدها الذي أرسلها لها ماجوك بعد حريق القرية، وهو يحمل حربته ويدخل الغابة، كنت تمشي نحو الذي ينتظرك، وأنت موقن أنه هنالك، في نهاية المسافة ينعس في انتظار طويل، أو يصرخ في وجهك الغائب: أيها الأبله!
ما كنت تدرك له وجها، جسدا أو علامة، وما كنت تستطيع أن تتخيله كشخص ما، أو شيء ما، لكن أقل ما يمكن أن تصفه به أنه كطنين ذبابة تحلق في وجهك، عميقا كحلم مليكة شول مادنق، يجلس على حجر بضفاف النهر، أو على ماء النهر، أو يطير كالغراب محلقا في السماء، أو يقبع في وكر كيمامة، أو يجلس في ركن قصي في سجن مظلم رطب على أذنيه غراب أسود يبتسم، أو قملة، أشعلت سيجارة، أطفأتها، سألت رجلا عجوزا له وجه قديم مهمل، قلت: هل رأيت يا شيخنا القديم، الجميل وأنت تجلس هنا، هل رأيت امرأة، امرأة مرت بهذا الطريق قبل عام؟ أو رأيت رجلا، هل رأيت شيئا ينتظرني؟ هل أنت تنتظرني؟
فابتسم الشيخ العجوز القديم بعينيه؛ لأنه ما كان بإمكانه فتح فمه ليريك أسنانه المتآكلة، وفمه ملآن باللالوب، وأخيرا عندما استطاع أن يبتلع حصاة ثلاث لالوبات، ويبصق واحدة، بالتالي يصبح فمه فارغا، قال لك: أنت حزين يا بني ...
ثم حشا فمه باللالوب مرة أخرى، واندس في شيخوخته، كنت تعرف إجابته مسبقا، لكنك فقط كنت تريد إثارة دهشته، أو كسب عواطفه، حقيقة أنك لا تدري، حقا لا تدري! لأنك لست في حاجة لإثارة دهشة هذا الرجل العجوز، النائمة في ضوء أيامه السوداء، لست في حاجة لكي توقظ دهشته، تلك الباردة الكسولة، من عهر وسنها، لكي تثبت لنفسك أنك موجود، وبإمكانك فعل شيء تجاه شيء ما، ولو مجرد إثارة دهشة! دهشة صغيرة خرفة، كما أنك لست محتاجا لعاطفة هذا الشيخ الهرم، الذي رغم قدم كتفيه وأدواته التناسلية ما زال يختلف إلى منزل جارته العانس ليحتسي وإياها فنجانا من القهوة بالقرنفل أو الهبهان، يخطر بباله أن يراودها عن نفسها، لكنه دائما ما يعدل عن رأيه في اللحظات الأخيرة الحاسمة، فيحدثها عن الرجال الإنجليز، حرب الصحراء الليبية أو مجاعة «سنة ستة» يقول لها كيف أنه كان فحلا تعشقه النساء، يسألها: هل لديك عشاء؟
يخرج وهو نعسان، ينام قرب معزاته وحماره المكادي، ليحلم بأطفاله الذين لا يدري وطنا لهم، لكنه لا يزال بإمكانه أن يتذكر هيئتهم وأسماءهم، فهم بنتان وولدان، وخامسهم كلبهم، وهو جرو، يذكر إلى الليلة كيف سرقه من أمه الشرسة، فأنت لست محتاجا إلى مثل هذه العاطفة الشائخة المعقدة والمرهقة من جراء تجوالها في البلاد بحثا عن لحمة تخصها؛ لأن مليكة شول مادنق أعطتك كل ما تمتلك من عاطفة، وما لا تملك أيضا، وباعترافك أنت وجعفر تأكد قولها.
قلب المرأة الجنوبية يمكنه أن يسع عشرة من الأفيال الأفريقية، وأن هذا القلب كله مملوء بالحب لرجل واحد ووطن واحد، تذكرت جعفرا، جعفر مختار.
صليت، حاولت أن تشرب شيئا باردا، أو ليكن صاليا كالجحيم، أشعلت سيجارة، أطفأتها، السماء كانت زرقاء، حاولت أن تحصي أكبر عدد من النجوم ممكن، ضحكت، تبولت تحت حائط هرم، تذكرت قصة قصيرة لكاتب يقول في المقدمة إنه حداثي، وإن طرائق كتابته تحتاج إلى ثقافة وسعة أفق وفهم لبعض مذاهب النقد الحديثة، بصقت. بصقت مرة أخرى، فكرت في العجوز الهرم القديم الجالس أمام منزله المهمل، وجهه القديم الجاف، شاربه الكث الأبيض، فكرت فيه وقلت في نفسك: لماذا لا يترك هذا الشيخ ما تبقى له من عمر قرب مربط حماره ويموت؟ لماذا يصر على الحياة؟ لكنك لم تسأل نفسك: لماذا تصر أنت على الحياة أيضا؟
لم تر ماجوك، لكن مليكة أرتك صورته، وأيضا الجمجمة التي أرسلها، جمجمة والده المثقوبة بطلق ناري التي هي الآن بدولاب مليكة شول مادنق، الأسود المغلق منذ وفاتها، وكنت تتخيله دائما ماسكا بجمجمة والده وهو يرقص رقصة شيطانية غاضبة، رقصة حرب حقيقية، هل يرعبك ماجوك؟ قلت لها: تخيلي أن بحرا من دماء السحالي يمر من هذه الناحية، دماء سحالي بارد لزج ونقي، تخيلي أن امرأة كانت تمر من هنا بهذا الطريق منذ مليون سنة، امرأة خصبة حرة، نقية كالخيال، امرأة كالقرنفل، تخيلي أن جيشا من الدهشة سكن هذا الطريق، جيشا سيفه أعور، تخيلي أن بئرا من العصافير ذات الأرياش الذهبية والغناء البنفسجي. عصافير ...
وغلبك الاسترسال في الاستعارة فأحسست بضآلتك وعقم روحك وقلت لها وأنت تبرد تدريجيا كريح شتوية: إن أحدهم ينتظرني في مكان ما، زمن ما، شجر ما، ينتظرني حاملا بندقية صيد آلية أو رشاشة توجه بالليزر أو حمامة مشوية، وفي فمها غصن زيتون ذابل. ربما ينتظرك وفي قلبه سلام حقيقي لست تدري، كنت بليدا كالنائم، تعبا كلحظة الحزن، قصيرا كالدهشة، سكيرا إذا، كنت تظن أن أمك تلك المرأة القصيرة البدينة الغنية الشحيحة هي السبب الأول والنهائي فيما أنت فيه على كل حال، قابضة على لا وعيك، محركة وعيك بشيطانية كما لو كنت بيدق شطرنج بين أناملها السمينة. أشعلت سيجارة، أطفأتها، حاولت مرات عديدة أن تتعلم التدخين لكنك حتى الآن لم تحدد موقفا سلبا كان أم إيجابا.
نامعلوم صفحہ