ثمن الكتابة
إهداء
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
ثمن الكتابة
إهداء
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الزرقاء
الزرقاء
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
قطعة نابضة من نفسي أمنحها إلى أستاذي الكبير الدكتور فهيم فهمي الذي استطاع أن يعلمني الطب وعجز عن أن يعلمني الإنسانية فاستطعت أن أمنحه كل شيء عندي إلا نفسي.
د. نادرة
الشخصيات
د. نادرة:
شابة في الخامسة والثلاثين، قوية الملامح فيها جمال طبيعي وجاذبية.
شهدي:
تمورجي في الأربعين، قوي الملامح، في وجهه إنسانية وطيبة.
د. شرف الدين:
شاب في الثلاثين، رقيق الملامح.
أ.د. فهيم فهمي:
رجل في الخامسة والأربعين، له ملامح قوية جذابة.
د. توفيق:
شاب في الثلاثين، عادي.
تفيدة:
امرأة في الأربعين، ترتدي باروكة وملامحها صناعية أو مصنوعة.
السجان:
رجل في الأربعين، ضخم الجثة، قوي الجسم.
الوالي:
رجل في الخمسين، له هيئة الحكام.
مارة في الشارع.
عمال.
عاملات.
أطفال.
الفصل الأول: 9 مشاهد (1)
د. شرف الدين، التمورجي شهدي، عامل يحتضر (في حجرة الطبيب بالمصنع بها سرير). (2)
د. توفيق، د. شرف الدين (في حجرة الطبيب بالمعمل، بها ميكروسكوب). (3)
د. فهيم فهمي، الوالي (في مكتب الوالي الفاخر). (4)
د. فهيم، د. شرف الدين (في حجرة بالمعمل، بها ميكروسكوب). (5)
د. توفيق، د. شرف الدين (في نفس الحجرة السابقة). (6)
د. شرف الدين، التمورجي شهدي، عامل يحتضر (في حجرة الطبيب بالمصنع بها سرير). (7)
التمورجي شهدي يسير حاملا على كتفيه عاملا، المسرح خال ومظلم (موسيقى حزينة). (8)
امرأة ترتدي السواد تجري مهرولة وتجتاز المسرح ومن خلفها أطفال يجرون خلفها. (9)
أصوات تسمع فقط (حسب النص) المسرح خال ومظلم.
المسرح مظلم
الصالة تضاء. استراحة قبل الفصل الثاني.
تستمر الموسيقى الحزينة خلال الاستراحة والمسرح يظل مظلما.
الفصل الثاني: 8 مشاهد (1)
طفل صغير يجلس وحيدا على خشبة المسرح . المسرح مظلم وخال. المسرح يمتلئ بالمارة في كل اتجاه. المسرح يضيء. (2)
د. فهيم، زوجته تفيدة (في حجرة نومها الفاخرة). (3)
التمورجي شهدي، د. شرف الدين يحتضر، د. توفيق (في حجرة الطبيب بالمصنع بها سرير). (4)
التمورجي شهدي، السجان (في زنزانة). (5)
شهدي، د. نادرة (في نفس الزنزانة السابقة). (6)
د. نادرة، د. فهيم (في مكتب د. فهيم الفاخر). (7)
د. فهيم، د. توفيق (في المكتب السابق). (8)
نادرة، شهدي، شرف الدين، فهيم، توفيق، تفيدة، السجان، الوالي يدخلون المسرح بهذا الترتيب ويخرجون منه بهذا الترتيب؛ نادرة في المقدمة والوالي في المؤخرة.
الملابس
د. شرف الدين، ود. توفيق، ود. نادرة يظهرون دائما بالبالطو الأبيض.
د. فهيم فهمي يرتدي حلة أنيقة بغير بالطو أبيض.
الملابس الأخرى حسب الشخصية.
الديكور
بسيط للغاية؛ سرير، ميكروسكوب، كراس، فيما عدا الأثاث الفاخر الآخر.
الفصل الأول
7 مشاهد
المشهد الأول (د. شرف الدين طبيب المصنع جالس إلى مكتبه. يدخل التمورجي شهدي حاملا أحد العمال يساعده اثنان من العمال. يضعون المريض على السرير. د. شرف الدين يسرع إلى إسعافه. شهدي يساعده. المريض في حالة سيئة يتنفس بصعوبة. شفتاه زرقاوان.) (د. شرف الدين يجس النبض.)
د. شرف الدين :
هات لي حقنة كورامين بسرعة.
شهدي :
حاضر يا دكتور. (يجري شهدي، يحضر الحقنة، وشرف الدين يعطيها للمريض في ذراعه.) (العاملان لا يزالان يقفان، ينظران إلى زميلهما المريض في حزن.)
شهدي :
اتفضلوا انتم يا رجاله شوفوا شغلكم عشان احنا نشوف شغلنا.
أحد العمال :
فيه أمل يا عم شهدي؟
شهدي :
طول ما هو بيتنفس يبقى فيه أمل، مفيش أمل ازاي؟ فيه أمل. فيه. (يخرج العاملان.) (د. شرف الدين يجس النبض.)
د. شرف الدين :
هات كمان حقنة يا شهدي. (شهدي يجري ويحضر الحقنة الثانية.) (المريض يموت قبل أن يأخذ الحقنة.) (د. شرف الدين يقف أمامه حزينا ممسكا بالحقنة في يده.) (شهدي يغطي الميت بالملاءة.) (الاثنان يقفان في صمت وحزن.)
شهدي :
البقية في حياتك يا دكتور، الموت مكتوب علينا، ما حدش بيموت ناقص عمر.
د. شرف الدين :
أيوه.
شهدي :
بس أنا بفكر في ولاده ومراته، كان هو اللي بيجري عليهم ويوكلهم، مالهوش حد غيره، حيعملوا إيه بعد ما راح؟
د. شرف الدين :
لازم نجمعلهم حاجة يا شهدي لغاية ما يصرفوا المعاش.
شهدي :
معاشه هيصرف على عيل واحد من خمسة؛ ربنا معاهم، أنا حلملهم من العمال قرشين لحد ما ربنا يفرجها. (يسكت لحظة.)
أنا لسه لامم منهم الأسبوع اللي فات عشان ولاد المرحوم متولي وقبل كده لميت منهم عشان ... (يسكت لحظة.)
أهو كله بثوابه، مفيش حاجة بتضيع، القرش اللي تدفعه النهارده بيتحوش لولادنا بكرة، حد عارف بكرة حيحصل إيه. (يعود إلى حيث يجلس د. شرف الدين ساهما حزينا.)
شهدي :
عاوز أقولك حاجة يا دكتور.
د. شرف الدين (بصوت حزين) :
إيه يا شهدي؟
شهدي :
أنا ملاحظ ...
د. شرف الدين :
ملاحظ إيه يا شهدي؟
شهدي :
ده رابع واحد بيموت الشهر ده يا دكتور.
د. شرف الدين (بصوت قلق) :
أيوه الرابع يا شهدي.
شهدي :
قبليه كان محمد وقبله كان علي، ومتولي.
د. شرف الدين :
أيوه يا شهدي.
شهدي :
أنا ما بقولش حاجة يا دكتور، الأعمار بيد الله، لكن أنا لاحظت إن كلهم ...
د. شرف الدين (ينهض) :
كلهم إيه يا شهدي؟
شهدي :
مش عارف يا دكتور. هو حضرتك ما لاحظتش إنهم الأربعة تقريبا ...
د. شرف الدين (قلقا) :
تقريبا إيه يا شهدي؟
شهدي :
بقول يعني تقريبا ماتوا موتة واحدة. (شهدي يبدو عليه التوتر والقلق.)
د. شرف الدين :
انت كمان لاحظت يا شهدي؟ أنا كنت باكدب نفسي وأقول إنها جايز تكون صدفة، لكن انت كمان لاحظت؟
شهدي :
أيوه لاحظت يا دكتور.
د. شرف الدين :
قولي لاحظت إيه؟
شهدي :
شفايفهم يا دكتور ازرقت.
د. شرف الدين :
هيه، وإيه كمان؟ (الدكتور يكشف الملاءة عن وجه العامل الميت الراقد على السرير. ينظر في وجهه لحظة ثم يغطيه.)
شهدي :
لما «محمد» شفايفه ازرقت قلت لازم من رطوبة المصنع والدنيا شتا، وهو طول عمره خفيف وما يستحملش حاجة. ولما «علي» شفايفه ازرقت قلت يمكن برضه الشتا ورطوبة البلاط اللي بيقف عليه سبع ساعات. ولما «متولي » راخر قلت إيه الحكاية؟
والنهارده، الرابع في شهر واحد؛ الفار لعب في عبي. (د. شرف الدين يمشي في قلق وتوتر، يفكر.)
د. شرف الدين :
أنا برضه شكيت.
شهدي :
شكيت في إيه يا دكتور؟ (شرف الدين صامت لا يرد.)
شهدي :
طمني يا دكتور عشان أطمن العمال أحسن ...
د. شرف الدين :
أحسن إيه، حد منهم لاحظ كمان؟
شهدي :
حضرتك عارف يا دكتور العمال مشغولين على الآخر وكل واحد منهم ملهي في حاله وعياله، كل واحد فيهم مش لاحق ياخد نفسه عشان يجيب لقمة العيش لولاده، لو طب اللي واقف جنبه ما حدش حيلاحظ حاجة. أنا يا دكتور اللي لاحظت الزرقان الغريب ده في الشفايف.
د. شرف الدين :
ولاحظت إيه كمان يا شهدي؟
شهدي :
مفيش غير زرقان الشفايف. هو إيه ده يا دكتور؟ مرض ده ولا إيه؟
د. شرف الدين :
ما لاحظتش الكحة تاني يوم؟
شهدي :
لا يا دكتور؛ أصلهم كلهم بيكحوا. فيه حد ما بيكحش كحة طبيعية كده أو كحة سجاير.
د. شرف الدين :
لا، بس دي كحة من نوع تاني؛ زي ما يكون حاجة مشروخة في الصدر، وتالت يوم نفسهم ينكرش.
شهدي :
دي حاجة غريبة يا دكتور، تفتكر هم الأربعة ماتوا بعيا واحد؟
د. شرف الدين :
ده اللي مخوفني يا شهدي؛ وعشان كده لازم آخد عينة من الرئة المرة دي وأبعتها المعمل عشان تتفحص. هات لي مشرط يا شهدي.
شهدي :
حاضر يا دكتور. (يناوله المشرط. د. شرف الدين يكشف صدر الميت ويأخذ العينة.) (ظلام.)
المشهد الثاني (د. توفيق في مكتبه، جالس وأمامه الميكروسكوب، ينظر فيه. د. شرف الدين واقف إلى جواره.)
د. توفيق :
تعالى يا شرف الدين بص كده! (د. شرف الدين ينظر في الميكروسكوب.)
د. توفيق :
شايف إيه؟ (شرف الدين يرفع وجهه إلى توفيق في صمت وقلق.)
د. توفيق :
إيه؟ شفت إيه؟ ساكت ليه؟
د. شرف الدين :
أنا مش ساكت.
د. توفيق :
ما انت ساكت اهه!
د. شرف الدين :
بس عاوز اتأكد تاني. (د. شرف الدين ينظر مرة أخرى في الميكروسكوب.)
د. توفيق :
باينة زي الشمس.
د. شرف الدين :
الزر...
د. توفيق :
الزرقا.
د. شرف الدين :
الزرقا؟
د. توفيق :
أيوه الزرقا.
د. شرف الدين :
المسألة تبقى خطيرة يا توفيق.
د. توفيق :
طبعا خطيرة، أنا مش عارف الميكروب ده جه للمصنع منين؟
د. شرف الدين :
يمكن من دفعة الأرانب الأخيرة التي جت من استراليا.
د. توفيق :
لازم هي دفعة الأرانب الأخيرة. وحتعمل إيه يا شرف الدين؟
د. شرف الدين :
دي مشكلة كبيرة؛ الزرقا مرض معدي، الأرانب تنقله للإنسان في تلات ايام يكون انتهى.
د. توفيق :
ومالوش علاج لغاية النهارده.
د. شرف الدين :
مفيش علاج، لكن ممكن نحمي العمال من العدوى.
د. توفيق :
ازاي؟
د. شرف الدين :
طبعا في المصنع الحالي مش ممكن؛ المصنع قديم، أصله ماتبناش عشان يبقى مصنع، المصنع ده لازم ينهد، رطوبة وضلمة وغير صحي بالمرة، لازم ينهد ويتبني مصنع جديد يفصل بين الأرانب والعمال، انت عارف الزرقا بتنتقل عن طريق الهواء، ولو فصلنا الأرانب عن العمال حنمنع العدوى منهم. المصانع في استراليا كلها بالشكل ده. إيه رأيك يا توفيق؟
د. توفيق :
والله أنا مافهمش في الحاجات دي، إحنا لازم نروح نقول للدكتور فهيم؛ هو المسئول وعليه هو اللي يفكر ويشوف الحل.
د. شرف الدين :
يالا بينا بسرعة. (ظلام.)
المشهد الثالث (الوالي جالس إلى مكتبه الفاخر. الأستاذ الدكتور فهيم جالس أمامه في تأدب واحترام.)
الوالي (قلق) :
والأرانب يا دكتور فهيم، مفيش أي خطر على الأرانب؟
د. فهيم :
لا يا فندم زي ما أكدت لسيادتك الأرانب تحمل الميكروب بس ولا تعياش أبدا.
الوالي :
برضه مش قادر أفهم إزاي الميكروب يعيش جوه رئة الأرانب وما يعملش حاجة ولما ينتقل للبني آدم يجبله الزرقا، أو البلا الأزرق ده؟
د. فهيم :
دي حاجات معروفة في الطب يا فندم، وفيه ميكروبات كتير بالشكل ده؛ تعيش جوه الحيوان ولما تنتقل للإنسان تسببله المرض.
الوالي :
الأرانب هم ثروة البلد، راسمالنا الوحيد، مش عاوز يكون عندي أي شك إنها ممكن تكون معرضة لأي خطر.
د. فهيم :
من ناحية الأرانب يا فندم مفيش أي خطر، الخطر على العمال.
الوالي :
احنا عندنا كام أرنب السنة دي؟
د. فهيم :
13 مليون يا فندم.
الوالي :
أفتكر انهم بيزيدوا بمعدل كويس.
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
يبدو إن حبوب زيادة النسل إلي انتم بتدوها لها من السنة اللي فاتت جابت نتيجة.
د. فهيم :
أيوه يا فندم، الحبوب زودت نسل الأرانب إلى حوالي 50٪.
الوالي :
كويس خالص، والنسل الجديد قوي وصحته كويسة؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
والدفعة الجديدة من الأرانب الأسترالي كلها كويسة؟
د. فهيم :
كلها كويسة.
الوالي :
وهي اللي جابت الزرقا؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
انتم مش بتاخدو منها عينات قبل ما تحطوها مع الأرانب التانية؟
د. فهيم :
أخذت عينات يا فندم، وكانت كلها سلبية. سعادتك عارف إن العينة وبالذات في الزرقا جايز تكون سلبية لكن الميكروب يكون كامن جوه الرئة.
الوالي :
شيء غريب فعلا! ومفيش أي أرنب ظهرت عليه أي أعراض؟
د. فهيم :
لا يا فندم مش ممكن تظهر عليه أي أعراض لأن الأرانب مش بتعيى بالزرقا. من ناحية الأرانب سعادتك تكون مطمن وعلى مسئوليتي أنا، الخوف على العمال.
الوالي :
ازاي؟
د. فهيم :
الزرقا في 3 أيام بتقضي على العامل.
الوالي (قلق) :
يعني ممكن تخلص على العمال بتوعنا؟
د. فهيم :
لا يا فندم، الزرقا مش بتنتشر بسرعة، انتشارها بطيء.
الوالي :
بطيء ازاي؟
د. فهيم :
يعني بتصيب عدد قليل من العمال؛ العامل القوي اللي صحته كويسة ممكن يقاومها، لكن العامل اللي جسمه ضعيف بتقضي عليه، وكمان الميكروب ميتحملش الحرارة والشمس؛ وعشان كده تقريبا بيموت في الصيف.
الوالي :
لله في خلقه شئون.
د. فهيم :
الشهر اللي فات مات أربعة من العمال.
الوالي :
اشمعنى يعني أربعة؟
د. فهيم :
كان ممكن يبقى أقل من كده أو أكثر شوية، لكن على العموم تقريبا نسبة انتشار الزرقا زي ما قلت لسعادتك انتشارها بطيء لكن بتستمر سنوات كتيرة.
الوالي :
سنوات طويلة؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
وكل شهر تموت أربع عمال؟
د. فهيم :
تقريبا يا فندم.
الوالي :
أربعة في 12 شهر يعني حنفقد حوالي خمسين عامل في السنة.
فهيم :
تقريبا يا فندم.
الوالي :
وقلت لي إن مفيش علاج لها لغاية النهارده؟
د. فهيم :
أيوه.
الوالي :
إذن مفيش في إيدنا حاجة نعملها يا د. فهيم.
د. فهيم :
مفيش، لكن ... ممكن نمنع المرض.
الوالي :
مش فاهم.
د. فهيم :
المصنع الموجود مصنع قديم زي ما سعادتك عارف، ماتبناش في الأصل عشان يبقى مصنع.
الوالي :
لكن بقى مصنع وشغال كويس والإنتاج بيزيد. مش كده ولا إيه؟
د. فهيم :
أيوه بيزيد يا فندم.
الوالي :
إحنا زدنا أد إيه السنة دي؟
د. فهيم :
حوالي 50٪ يا فندم.
الوالي :
يعني زي نسبة زيادة الأرانب.
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
كويس خالص. (الوالي يصمت ويفكر لحظة.)
الوالي :
تعرف يا دكتور فهيم؟ أنا لسه مش متصور ازاي الميكروب يعيش جوه رئة الأرانب، وما يسببش لها أي مرض.
د. فهيم :
ربنا خلقه كده يا فندم.
الوالي :
ربنا كبير، عالم بحالنا، لو جرى أي حاجة للأرانب البلد تضيع يا دكتور فهيم. فاهم تضيع يعني إيه؟
د. فهيم :
فاهم يا فندم، سعادتك تكون مطمن خالص على الأرانب، أنا احب افكر سيادتك إن احنا فقدنا أربعة من العمال.
الوالي :
اشمعنى الأربعة دول اللي جالهم الزرقا؟
د. فهيم :
جايز جسمهم أضعف، جايز مناعتهم أقل، سنهم أكبر ...
الوالي :
يعني الميكروب بيختار الأضعف؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
ميكروب عنده عقل! والميكروب ده يستمر كده؟
د. فهيم :
هو بيزيد في الشتا عشان البرد والعطس؛ الميكروب زي ما قلت لسعادتك بينتقل عن طريق الهوا. (الوالي ينظر إلى الهواء في قلق وفزع.)
الوالي :
الهوا؟ يعني ممكن يوصل لغاية عندنا؟
د. فهيم :
لا يا فندم مش ممكن؛ الميكروب بيموت بسرعة في الجو، وخصوصا إذا كان فيه شمس وهوا، الميكروب لا يمكن يقدر يخرج بره المصنع.
الوالي :
الكلام ده أكيد مية المية؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم، دي حاجة معروفة في الطب.
الوالي :
يعني مفيش خطر علينا، أي احتمال لأي خطر؟
د. فهيم :
مفيش أي خطر يا فندم، الخطر بس على اللي جوه المصنع، أو اللي يدخل المصنع.
الوالي :
كان لازم تنبهني للمسألة دي يا د. فهيم؛ أنا كنت نازل مرور للمصنع بكرة.
د. فهيم :
ما كنت حقول لسعادتك.
الوالي :
وانت كمان يا د. فهيم بلاش تروح المصنع، إدي تعليماتك من مكتبك؛ إنت راجل كفء ومخلص للبلاد ولازم نحافظ عليك.
د. فهيم :
أشكرك يا فندم.
الوالي :
انت قلت حنخسر كم عامل تقريبا في السنة؟
د. فهيم :
حوالي 50 عامل.
الوالي :
عدد مش كبير بالنسبة لعدد العمال عندنا، وممكن تعويضهم من الدفعات الجديدة اللي بتاخدوها كل سنة، بيتقدم لكم طلبات كثيرة مش كده؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
الأيدي العاملة عندنا كثيرة قوي، وكل سنة بتزيد عن السنة اللي قبلها، وإمكانياتنا محدودة ومصنعنا ما بيقدرش يشغل كل دول، بنواجه مشكلة بطالة، ومشكلة عيال بيتولدوا وبيزيدوا يوم ورا يوم، لا لهم شغل ولا لهم أكل، أجيب منين يا د. فهيم؟ أنا قلت لك تشفلي حل في المشكلة دي.
د. فهيم :
أنا كلفت الدكتور المختص اللي اكتشف الحبوب اللي زودت نسل الأرانب، إنه يعمل بحوث ويحاول يشوف دوا يقلل نسل البني آدمين.
الوالي :
وعمل إيه؟
د. فهيم :
هو اكتشف دوا تشربه الست من دول معلقة تلات مرات في اليوم الواحد، بعد أسبوع واحد نسلها يقل 50٪.
الوالي :
يعني الست من دول اللي كانت بتولد عشر عيال تولد خمسة؟
د. فهيم :
أيوه، النسبة طلعت كده من التجارب بتاعتنا.
الوالي :
برضه مش كفاية يا د. فهيم، أنا عاوز الست الي كانت بتولد خمسة تولد واحد بس. كفاية عيل واحد؛ احنا عندنا نسبة بطالة كبيرة. انت بيتقدم لك كام طلب كل سنة عشان يشتغلوا في المصنع؟
د. فهيم :
حوالي ألفين طلب يا فندم.
الوالي :
وبتقدر تشغل كام؟
د. فهيم :
حوالي 200 أو 250، بالكتير 300 حسب حاجة المصنع.
الوالي :
يعني بتشغل العشر.
د. فهيم :
تقريبا.
الوالي :
يبقى عيل واحد برضه كتير يا د. فهيم. احنا عاوزين نخفض عدد الناس للعشر؛ يعني الست اللي كانت بتولد عشرة تولد واحد بس، واللي بتولد خمسة تولد نص.
د. فهيم :
نص؟
الوالي :
النسبة لازم تبقى كده عشان نقضي على البطالة.
د. فهيم :
أنا حكلف الدكتور المختص يبحث عن دوا تاني أكثر فاعلية.
الوالي :
متشكر يا د. فهيم. لازم وراك شغل.
د. فهيم (ينهض) :
أيوة يا فندم، بس كنت عايز آخد رأي سعادتك في موضوع الزرقا.
الوالي :
رأي في إيه؟
د. فهيم :
قصدي حكاية أربعة أو خمسة من العمال يعيوا ويموتوا كل شهر دي جايز تخلي العمال يلاحظوا إن فيه حاجة مش طبيعية.
ثم إن الدكاترة حللوا وعرفوا الميكروب.
الوالي :
وإيه فايدة ما عرفوا؟ هل عندهم علاج؟
د. فهيم :
مفيش علاج للمرض نفسه، لكن الدكاترة بيقولوا إن العلاج الوحيد هو إن احنا نمنع المرض.
الوالي :
إزاي؟
د. فهيم :
كان عندهم اقتراح؛ بيقولوا إن احنا نهد المصنع القديم ونبني مصنع جديد يتصمم بطريقة حديثة، بحيث إن الأرانب تعيش في غرفة خاصة معزولة عن العمال. أستراليا عملت كده.
الوالي :
واحنا زي استراليا يا د. فهيم؟! أنا مش عارف الدكاترة بتوعك عايشين معانا ولا في المريخ. تفكيرهم ده يدل على إنهم يجهلوا الواقع بتاعنا، يجهلوا إمكانياتنا. التفكير العلمي هو التفكير اللي يتمشى مع الواقع، أما الأحلام والأفكار الخيالية دي كلها دليل الجهل والرعونة. أنا حاهد المصنع وابني مصنع جديد بأد إيه وعشان إيه؟ حادفع كام وآخد كام؟ الهد والبنا يكلفنا أد إيه؟
د. فهيم :
حوالي 10 مليون جنيه.
الوالي :
أدفع عشرة مليون جنيه منين وعشان إيه؟ عشان أوفر خمسين أو ستين عامل في السنة بيجيلي بدلهم كل سنة ألفين؟
د. فهيم :
هو فعلا اقتراح خيالي شويه يا فندم؛ أصلهم شباب.
الوالي :
مش خيالي بس، ده اقتراح يدل على عدم الوعي. أنا مش عارف الدكاترة ليه دايما أفكارهم قاصرة بالشكل ده؟ ده لأنهم معزولين عن المجتمع، مش فاهمين المشاكل اللي بتواجهنا.
د. فهيم :
أصلهم محصورين في أبحاثهم الطبية. هم يفهموا في الميكروبات والأمراض والهرمونات ده تخصصهم يا فندم.
الوالي :
وهم عرفوا إن فيه زرقا في المصنع؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم؛ هم اللي حللوا وعرفوا.
الوالي :
تدي أوامر لهم إن ما حدش يقول حاجة للعمال؛ مش عاوز العمال يعرفوا. لو عرفوا حيهربوا من المصنع والبلد كلها تجوع. احنا كلنا عيشين على المصنع. مش كده ولا إيه؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
صوف الأرانب بتعنا واخد سمعة طيبة في كل حتة، مش عاوز العمال تعرف حاجة، لو عرفوا حيهربوا والمصنع يقفل، العمال مش حيفكروا في مصلحة البلد، هم حيفكروا بس ازاي يهربوا من المصنع، مفيش عندهم روح التضحية من أجل البلد، كل واحد حيفكر في نفسه وبس. مش كده ولا إيه يا د. فهيم؟ وعشان كده عاوزكم تعملوا لهم توعية وطنية، والعامل منهم لازم يبقى فوق مصلحته الخاصة، يبقى عنده إحساس بالصالح العالم ومستعد يموت وهو واقف قصاد آلته في المصنع، عشان مصلحة البلد، بالظبط زي الجندي اللي بيموت على مدفعه وهو بيحارب من أجل الوطن. فاهمني يا د. فهيم؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم.
الوالي :
والدكاترة بتوعك يا د. فهيم لازم يعرفوا إن مفيش حاجة اسمها زرقا في مصنعنا، مصنعنا نضيف زي الفل وشغال عال العال؛ إذا كان فيه تلاتة أو أربعة من العمال بيعيوا أو بيموتوا كل شهر فده شيء طبيعي، ما حدش ما بيعياش ومفيش حد ما بيمتش. في كل بلاد العالم فيه ناس بيعيوا وناس بتموت، ربنا اللي بيموت مش الزرقا، لا يمكن حتة ميكروب مفعوص يموت بني آدم واحد من غير إرادة ربنا. مش عارف ليه يا دكتور فهيم أنا بلاحظ إن الناس اللي بيدرسوا الطب بيبعدوا شويه عن ربنا! غرور يا د. فهيم، غرور؛ بيتصوروا انهم ما دام عرفوا حاجة عن الأمراض أو الميكروبات أو قدروا ينقذوا بعض الأرواح، خلاص عرفوا سر الكون، مع إني متأكد ومؤمن إيمان لا يقبل الشك إن مفيش روح واحدة يقدر الدكتور ينقذها إلا إذا ربنا أراد، وإذا ربنا ما أرادش لازم العيان يموت غصب عن أي دكتور. مش كده ولا إيه يا د . فهيم؟
د. فهيم :
تمام يا فندم.
الوالي :
عشان كده أنا عاوزك تعمل شوية توعية دينية للدكاترة بتوعك؛ أنا بصراحة حاسس إنهم بيبعدوا عن الدين شوية شوية.
د. فهيم :
لا يا فندم، كلهم مؤمنين وكويسين والحمد لله، لكن برضه زي ما سعادتك أمرت؛ نعمل لهم توعية. (الوالي ينهض. يقترب مع د. فهيم ناحية الباب.)
الوالي :
وزي ما قلت لك، تدي أوامرك من مكتبك وما تنزلش المصنع، أنا عارف إنه أحيانا بتجيلك نوبات عاطفية غريبة، أنا شخصيا بسميها تهور، تقوم تتهور وتنزل مرور المصنع. أنا بمنعك بالأمر من نزول المصنع؛ حياتك مش ملكك، دي ملك البلد، ولازم نحافظ عليها، لازم نحافظ على العقول البشرية تمام زي ما أنا مؤمن باستثمار الثروة القومية بتاعتنا. فكرتني! أنا كنت عاوز أسألك سؤال صغير؛ يا ترى هل الحبوب اللي بتزود نسل الأرانب ممكن تزود نسل الإنسان؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم، بس بدل ما نستخدم هرمون أرنب نستخدم هرمون إنسان.
الوالي :
يا سلام! الطب ده علم عظيم خالص. الحقيقة أنا عاوز اسألك كمان سؤال؛ انت يا دكتور راجل علمي ولا حياء في العلم، الجماعة بتاعتي، قصدي يعني السيدة زوجتي تموت موت في الأطفال، ومش مكفيها الولدين اللي عندنا، ودايما تزن على دماغي عاوزة عيال تاني، عاوزة تاني، وتقعد تقولي: واحد والي عظيم زيك لازم يجيب عشر عيال على الأقل يورثوه ويحملوا اسمه ومجده. لكن مش عارف يا د. فهيم، انت دكتور وراجل علمي ولا حياء في العلم، مش عارف، أنا يظهر عجزت (يبتسم في حياء)
أو يمكن من الإرهاق وكتر الشغل، الواحد ما بقاش زي الأول، لكن الغريبة يا د. فهيم، وانت راجل علمي ومفيش حياء في العلم، الغريبة إن الرغبة زي ما هي، بل بالعكس يمكن زادت عن الأول، الرغبة عندي كويسة خالص إنما (يبتسم في حياء)
انت فاهمني يا د. فهيم؟
د. فهيم :
أيوه فاهم سعادتك.
الوالي :
تفتكر يا د. فهيم الدوا ده اللي بيزود النسل يفيد في الحالة بتاعتي؟
د. فهيم :
أيوه يا فندم، لازم يفيد، وإن ما كنش يفيد أكلف الدكتور المختص إنه يبحث عن حاجة أكثر فاعلية. (الوالي يضحك.)
الوالي :
متشكر قوي يا د. فهيم، أنا باعتبر الناس اللي عندهم عقل زي عقلك ثروة، ثروة قومية لازم الحفاظ عليها. (الوالي يضحك بانشراح.)
المشهد الرابع (د. فهيم جالس وأمامه الميكروسكوب ينظر فيه، في حجرة الطبيب بالمعمل، د. شرف الدين والدكتور توفيق واقفان إلى جواره.) (د. فهيم يرفع رأسه ببطء من فوق الميكروسكوب وينظر إليهما وهو يبتسم ابتسامة الأساتذة الكبار.)
د. فهيم :
مين اللي قال إن ده ميكروب الزرقا؟
د. شرف الدين :
أنا يا فندم.
د. توفيق :
وأنا كمان شفته.
د. فهيم (بلهجة الأساتذة الكبار) :
انتم نسيتم الطب ولا إيه؟ ميكروب الزرقا طويل زي العصايا مش ممكن يكون بيضاوي بالشكل ده، وكمان مالوش ديل، ومش ممكن يكون «أسد فاست»
بالشكل ده، ماقدرش أقول إن ده زرقا، ماقدرش أحلف إن ده زرقا؛ انتم عارفين إن في الأمراض الخطرة زي الزرقا الدكتور مننا لازم يتروى وما يصدرش أي حكم إلا وهو متأكد كل التأكد.
د. شرف الدين :
والعمال الأربعة يا د. فهيم، الأربعة جات لهم نفس أعراض الزرقا، شفايفهم ازرقت والكحة.
د. فهيم :
هي كل شفايف تزرق تبقى من الزرقا يا شرف الدين؟! فيه ناس شفايفهم تزرق من البرد، وانت عارف المصنع بلاط ورطوبة والعمال بيهملوا في صحتهم، وطبعا حالتهم المالية تعبانة، ما يقدروش يشتروا بلوفرات صوف زي ده (يشير إلى بلوفر توفيق) ، وما يقدروش ياكلوا زبدة في الفطور، زائد انهم بيبقوا مرهقين من الشغل والإرهاق طبعا بيقلل مقاومتهم للبرد، وجسمهم ضعيف وخصوصا إذا كانوا كبار شوية في السن. الزرقا مش لعبة، ده مرض قاتل وخطير وعشان أقول إن في زرقا لازم أكون متأكد. أنا كأستاذ طب لازم أكون متأكد، أنا كأستاذ طب لا يمكن أقول إن ده ميكروب الزرقا مية في المية.
د. توفيق :
مفيش حاجة مية في المية يا دكتور فهيم، مفيش حقيقة في الدنيا لا تقبل الشك. ومع ذلك فإن كل الأعراض والتحليل بتقول إنها زرقا.
د. فهيم :
مين قال مفيش حاجة مية في المية؟ مين قال إن مفيش حقيقة لا تقبل الشك؟ انت مثلا، انت توفيق، الدكتور توفيق مية في المية. حد يقدر يقول غير كده؟ أهي دي حقيقة مية في المية. إنما إنك تبص لي في الميكروسكوب وتشوف حاجة طويلة زي العصايا تقوم تقول عليها زرقا! فيه ستين حاجة طويلة زي العصايا بنشوفها تحت الميكروسكوب، فيه ستين سبب في الطب بيخلي الشفايف تزرق في الشتا، فيه ستين سبب للموت، والأمراض عندنا كتيرة والميكروبات أشكال وألوان، اشمعنى بس الزرقا اللي جت في دماغكم؟ إحنا ناقصين أمراض؟ انتم مش مقدرين خطورة المرض ده، مش عارفين زرقا يعني إيه! زرقا يعني المصنع يتقفل. مش فاهم ازاي تقولوا ببساطة كده وبدون أي إحساس بالمسئولية إن دي زرقا؟ (ينظر إلى شرف الدين)
وانت كمان يا شرف الدين، تلميذي اللي علمته الطب واللي علمته ازاي يفكر كويس قبل ما يصدر أي حكم؟!
د. شرف الدين :
كل إنسان بيغلط يا د. فهيم؛ أنا آسف.
د. توفيق :
وحنعمل إيه دلوقت يا د. فهيم؟
د. فهيم :
حنعمل إيه في إيه؟ كل حاجة تمشي زي الأول، وعاوزكم تطمنوا العمال خالص، ولو حد سأل عن أي حاجة تفهموهم إن ده كله من برد الشتا والشتا عمره قصير وقرب يخلص وكل حاجة تبقى عال، وعاوزكم تقعدوا مع العمال وتثقفوهم؛ لازم تبقى عندهم ثقافة عامة، ويهتموا بالمسائل العامة أكتر من اهتمامهم بمسائلهم الشخصية. أنا عمري ما قعدت مع العمال في اجتماع إلا وكل طلباتهم مطالب خاصة. (ينظر في ساعته)
ياه، أنا ضيعت وقتكم. (ينهض)
أسيبكم بقى عشان تشوفوا شغلكم وربنا يوفقكم. (يخرج.)
المشهد الخامس
في نفس المكان (د. شرف الدين ود. توفيق وحدهما ينظران إلى بعضهما البعض في صمت.)
د. شرف الدين :
إيه رأيك يا توفيق؟
د. توفيق :
رأيي هو رأي د. فهيم.
د. شرف الدين :
يعني الميكروب اللي شفته مش الزرقا؟
د. توفيق :
د. فهيم بيقول إنه مش زرقا يبقى مش زرقا ، ده رأيه. إيه رأيك انت؟
د. شرف الدين :
د. فهيم أستاذي وماقدرش غير إني أصدقه، لكن الحقيقة الواحد اتلخبط؛ أنا شفته بعيني، زي الزرقا تمام، لكن د. فهيم مش ممكن يغلط في حاجة زي دي.
د. توفيق :
طبعا هو مش ممكن يغلط في حاجة زي دي، لكن ممكن إنه ما يقولش الحقيقة.
د. شرف الدين :
هو ما قلش الحقيقة؟
د. توفيق :
طبعا ما قلش الحقيقة. أنا متأكد إنها زرقا، متأكد زي ما أنا متأكد اني واقف قدامك كده.
د. شرف الدين :
مش معقول! وليه ما قلتش للدكتور فهيم كده؟ ليه سكت؟
د. توفيق :
وانت ليه سكت؟
د. شرف الدين :
أنا لما سمعت كلامه غلطت نفسي، قلت لازم هو اللي صح وأنا اللي غلط، هو أستاذي ويعرف أكتر مني في الطب، لكن انت ازاي تبقى متأكد أنك صح وتسكت؟
د. توفيق :
حقول إيه يا شرف الدين؟ أنا فهمت كل حاجة.
د. شرف الدين :
فهمت إيه؟
د. توفيق :
د. فهيم جاي من عند الوالي ودي أوامر عليا لازم نقبلها.
د. شرف الدين :
مش ممكن يا توفيق، د. فهيم ما يعملش كده، مش ممكن يكدب علينا بالشكل ده، مش ممكن يكون عارف إنها زرقا ويقول إنها مش زرقا.
د. توفيق :
ده شايفها بعينه يا شرف الدين، وده أستاذ كبير ومش ممكن حاجة بسيطة زي دي تفوت عليه، دي باينة زي الشمس.
د. شرف الدين :
د. فهيم مش ممكن يكدب في حاجة خطيرة زي دي، لو كان واحد غير د. فهيم كنت أنا أصدق، لكن أنا أعرف الدكتور فهيم من 15 سنة، كان أستاذي واشتغلت معاه كتير، كان مثلي الأعلى، كان يشجعني على إني أكون صادق دايما، مش ممكن د. فهيم يكذب علي.
د. توفيق :
ما تحكمشي عليه كان زمان إيه، احكم عليه دلوقت بعد ما قعد على الكرسي وبقه مسئول كبير؛ الكرسي بيغير الناس يا شرف الدين.
د. شرف الدين :
مفيش أي كرسي يقدر يغير د. فهيم. كان دايما يقوللي الناس نوعين يا شرف الدين؛ ناس الكرسي يغيرها وناس هي اللي تغير الكرسي.
د. توفيق :
كلهم كده، طول ما هم على البر شاطرين في الكلام. ويا سلام الواحد منهم يتهيأ له إن آخر قوة. اللي على البر شاطر يا شرف الدين ولما الواحد منهم يقعد على الكرسي ويحس بيه ويملاه ويريح جواه، خلاص بقه واحد تاني.
د. شرف الدين :
مش كلهم يا توفيق؛ فيه ناس بتقاوم.
د. توفيق :
أيوه يمكن تقاوم القوة اللي تقدر تقاومها، لكن القوى اللي أكبر منها ما تقدرشي تقاومها، وده بالطبع منطق راجل علمي زي د. فهيم؛ الدكتور فهيم راجل عنده عقل، مش مجنون، عاوزه يقاوم الوالي؟! وانت عارف الوالي يعني إيه! الوالي يعني الجيش والبوليس والمباحث والفلوس والعلم والفن والحرية والهوا والميه والأكل، أكلنا وأكل ولادنا وكل حاجة في حياتنا؛ مفيش غير المجنون هو اللي يقدر يصارع كل القوة دي، ده كأنه بيصارع الطبيعة تماما. (د. شرف الدين يطرق مفكرا لحظة ويهز رأسه بالنفي.)
د. توفيق :
برضه لسه ما اقتنعتش يا شرف الدين؟
د. شرف الدين :
مش قادر اقتنع يا توفيق، مش قادر أتصور إن د. فهيم عارف إنها الزرقا ويقول مش زرقا، مش ممكن يسيب العمال يعيوا ويموتوا.
د. توفيق :
لاحظ إن الزرقا بتمشي ببطء، وكون أربعة أو خمسة يعيوا ويموتوا في الشهر مسألة بسيطة، الناس عندنا على قفا مين يشيل والعدد في اللمون، البني آدم عندنا رخيص يا شرف الدين، رخيص لأنه موجود ومتوفر وزيادة عن اللازم، زي قطع الغيار الموجودة في السوق في أي وقت وبأي تمن، لما تخسر قطعة غيار من دول ترميها وتشتري غيرها؛ لأن تمن الجديدة أرخص من تصليح القديمة، المسألة في كل حتة في العالم بتتحسب بالشكل ده، هو ده الحساب المنطقي في كل الأسواق العالمية، العرض والطلب، المكسب والخسارة.
د. شرف الدين :
الدكتور فهيم تفكيره مختلف يا توفيق؛ د. فهيم عمره ما حسب المسائل بالشكل ده، طول عمره يحترم الإنسان وعمره ما استرخصه حتى وهو عيان أو غلبان، لسه فاكر ازاي كان بيغطي العيان لما يكشف عليه قدامنا واحنا طلبة، لسه فاكر ازاي كان بيخلي تلاتة بس منا يكشفوا على العيان عشان ما يتعبش. غيره من الأساتذة كانوا بيعملوا إيه؟ مش فاكر الأستاذ اللي كان يسيب خمسين طالب يضغطوا بالسماعات على قلب الطفل الصغير لغاية ما تحفر السماعات على صدره حفرة مدورة غويطة وحمرا؟ مش فاكر الأستاذ اللي ضرب العيان الشاب قلم على وشه لأنه رفض يقلع هدومه كلها قدام الطلبة والطالبات؟ مش فاكر الأستاذ اللي كان يعري العيانة قصادنا كلنا في عز البرد وخمسين واحد مننا يفعص بصوابعه في جسمها؟ الدكتور فهيم ما كانش بيعمل كده، عمره ما عمل كده، ولولا الدكتور فهيم أنا كنت كرهت الكلية وسبت الطب لكن هو اللي خلاني أكمل.
د. توفيق :
يا سلام على السذاجة والبراءة! لولا إنك كنت زميلي في الكلية ولولا إني عارف مية المية إنك اتخرجت معايا من الطب، لا يمكن بتفكيرك ده أقول عليك دكتور. انت دخلت الطب ليه يا ابني؟ اللي زيك دول ما ينفعوش في الطب، أحسن لك تروح تكتب روايات أو شعر أو حاجات كده من بتاعة الخيال والعواطف؛ الطب علم، والعلم واحد + واحد = اتنين، اتنين بالظبط، لا يمكن يكونوا تلاتة ولا يمكن يكونوا واحد ونص، اتنين بالظبط، ده علم الحساب، الدكتور فهيم راجل علمي وشاطر في الحساب ولولا إنه شاطر في الحساب ما كانش نجح في عالم بيحسب ليل نهار، ما كانش نجح ووصل في وسط ناس بيجروا ويتنافسوا والأشطر يكسب. وطبعا مفيش مانع من شوية عواطف كده زي البهارات تتحط من فوق وما تكلفش حاجة، زي إنك تغطي عيان غلبان عشان ما يبردش، أو ما تحطش رجلك على سرير العيان، حاجات كده ظريفة وإنسانية ترضي ضمير الواحد وتخليه يحس بالسعادة، زي ما تدي قرش لشحات وانت ماشي في السكة، صدقة حلوة تخلي أمثالك من السذج يبصوله بإعجاب وحب. إنما عند الجد، لما الكرسي اللي قاعد عليه يهتز، لما رزقه ورزق عياله يبقى مهدد بالقطع، المسألة تبقى عاوزة تفكير وعاوزة عقل وعلم وحساب، حساب دقيق جدا جدا، واحد + واحد = اتنين، اتنين بالظبط، لا يمكن يكونوا تلاتة ولا يمكن يكونوا واحد ونص. وفي الحالة دي مفيش حاجة اسمها عواطف، مفيش حاجة اسمها إنسانية، مفيش زرقاء. العواطف هنا اسمها سذاجة، رعونة. والإنسانية هنا طيش، جنون. إنما العقل، يا سلام على عقل الدكتور فهيم فهمي؛ أحسن واحد يعقل في الحالة دي. (د. توفيق يضحك بسخرية.)
د. شرف الدين :
انت طول عمرك كده يا توفيق، ما تفرقشي بين الإنسان الكويس والوحش، كل الناس عندك وحشين، كل الناس عندك يضعفوا قصاد الفلوس والدرجات والكراسي. أنا معاك فيه ناس كتيرة كده، لكن الدكتور فهيم غير دول مش ممكن أنخدع فيه 15 سنة، مش ممكن. انت دخلت عيادته؟ لو دخلت عيادته تلاحظ إنه مش معلق يافظة الأسعار زي ما الدكاترة بيعملوا؛ ده بقرش وده بقرشين. عمره ما تاجر بالطب، عمره ما أخد فلوس من عيان غلبان مش قادر يدفع. أظن يعني كل الناس عارفة عنه الحكاية دي.
د. توفيق :
ما هي برضه ضمن العواطف اللي تنفع أكتر ما تضر؛ على السمعة الحلوة دي عيادته مليانة كل ليلة زي الرز واللي يقدر يدفع أكتر من اللي ما يقدرشي يدفع. دول ناس بحورهم غويطة يا شرف الدين، ناس يعرفوا يحسبوا كويس، كل حاجة عندهم لها تمن ولازم تجيب تمنها حتى ولو كانت عاطفة كده، عابرة.
شرف الدين :
كلامك دايما يتعبني يا توفيق، كلامك دايما يخنقني، بيخلي كل حاجة في عيني وحشة والدنيا كلها وحشة، ازاي انت قادر تعيش بكل الأفكار السودة اللي جواك دي؟
توفيق :
انت بتسمي الأفكار الواقعية العلمية أفكار سودة؟ بقول لك يا شرف الدين يا ابني انت أطيب من انك تفهم العلم! ظلموك اللي عملوك دكتور. الناس اللي طيبين زيك يروحوا يشتغلوا بالمسائل الروحانية أو في الفن، ده انت كمان أطيب من انك تكون فنان؛ لأن الفنان لازم يكون شرير عشان يفهم شرور الحياة ويصورها للناس، انت أطيب من انك تكون حاجة خالص، أطيب من إنك تكون إنسان. حقك تكون ملاك بجناحين وتطير فوق فوق وتعيش في السما.
شرف الدين :
أنا مانيش ملاك ولا حاجة يا توفيق، أنا عارف كويس إن الدنيا مليانة شرور، لكن بالنسبة للدكتور فهيم بالذات ... انت ما تعرفشي الدكتور فهيم في نظري إيه! أنا كنت باعتبره مثلي الأعلى في الحياة، أنا كنت بلف وادور في الحياة وبعدين أرجع ألاقيه الإنسان الوحيد اللي يقف جنبي وانا مهزوم، كان هو الشيء الوحيد اللي بيخليني أحس إن الدنيا فيها خير، وفيها حب وإنسانية. كان هو إيماني الوحيد، كانت بتمر بي ظروف قاسية وخت مقالب كتيرة من ناس كتيرة لكن هو! أفتكر إنه بس موجود كنت باطمن واستريح. أرجوك يا توفيق ما تهزش ثقتي فيه، وخصوصا في حاجة خطيرة زي دي، لا يمكن الدكتور فهيم يسيب العمال تعيا وتموت، لا يمكن يكدب علي ويقول مفيش زرقا. مش يكدب، حيكدب ليه؟!
توفيق :
حيكدب ليه؟! أما انت ساذج صحيح! حيكدب لأنه مش قادر يعمل حاجة. حيعمل إيه؟ فكرة إنك تهد المصنع وتبني مصنع جديد مش مسألة سهلة، فين الفلوس اللي حيبني بها؟
شرف الدين :
يعني مفيش عشرة مليون جنيه في البلد، يعني ما نقدرش نبني مصنع جديد؟
توفيق :
ما نقدرش نبني، وفيه حاجات كتيرة بنقدر نبنيها، فيه بيوت جميلة بتتبني ويسكن فيها ناس محترمين، فيه بيوت زي القصور بتنبني للناس المحترمين الغاليين، اللي تمنهم غالي قوي، مش زي قطع الغيار الرخيصة، بني آدمين كل حتة فيهم غالية؛ بيوتهم غالية، هدومهم غالية، ضوافرهم غالية، اللون اللي بيدهنوا بيه ضوافرهم غالي، كحتهم غالية؛ الواحد منهم يكح كحة واحدة بس ويصرف عليها الآلافات. فيه فلوس مش مفيش يا شرف الدين، لكن هي فين ومع مين وبتندفع في إيه؟ فيه أولويات للدفع يا شرف الدين، أولويات. مش عارف أولويات يعني إيه؟ باين عليك ما درستش تخطيط. (شرف الدين شاردا صامتا.)
توفيق :
سرحان في إيه يا شرف الدين؟
شرف الدين :
برضه أنا متأكد إن الدكتور غير دول كلهم؛ د. فهيم لا يمكن يسيب الزرقا بين العمال في المصنع ويسكت، لا يمكن يسيبني أنا (يسكت لحظة)
لا يمكن يسيبني أنا كمان أروح المصنع وهو عارف إن فيه زرقا، كان على الأقل ينبهني. صدقني يا توفيق لازم تصدقني، أنا متأكد من د. فهيم، أعرفه أكتر ما اعرف نفسي، أقسم لك بشرفي وحياتي، أقسم لك بكل ذرة من وجودي وكل فكري وكل قلبي إن د. فهيم إنسان مختلف عن اللي انت بتصوره، إنسان مختلف، لا يمكن يسبني أروح المصنع وهو عارف إنه بيعرض حياتي للخطر، كان على الأقل يقولي أو ينبهني عشان آخد احتياطي. (توفيق يسكت طويلا مفكرا متأثرا.)
توفيق (بصوت رقيق) :
كلامك خلاني اتلخبط، يمكن صحيح مفيش زرقا يمكن، مش ممكن! فهيم يكدب ويكدب عليك بالذات في حاجة خطيرة زي دي، أنا قربت اعتقد فعلا إنه مش ممكن يكدب، إيمانك القوي بيه عداني، الإيمان القوي زي المرض المعدي، أنا ابتديت أحس إن اللي أنا شفته بعيني في الميكروسكوب مش الزرقا، أنا حاسس دلوقت براحة، يمكن لأول مرة أحس بالراحة دي، تستعجب يا شرف الدين لو قلت لك إن الراحة اللي أنا باحسها دلوقت عمري ما حستها أبدا، لأ وانت صادق حسيتها مرة واحدة بس لما شفت اسمي في كشف الناجحين في نهائي الطب، حسيت إن عبء كبير بيتشال من على أكتافي وحسيت براحة، لأ برضه ما كانتش زي دي، فاكر إني اتضايقت ساعتها لأني ما كنتش من الأوائل وعرفت إن النيابة في القصر العيني راحت مني (يسكت لحظة مفكرا)
لكن أنا متأكد إني حسيت الإحساس ده مرة قبل كده، امتى وفين مش فاكر بالظبط، أيوه افتكرت (يبتسم لنفسه)
كنت في أولى طب وأول ليلة أروح فيها لواحدة ست، حسيت زي ما يكون جسمي ده تقل جسمي كله بينشال من على كتافي، (يسكت لحظة)
لأ برضه ما كانش زي دي، فاكر إني ساعتها اتضايقت. (يضحك)
كانت أول تجربة في حياتي وما كنتش عارف إني لازم أدفع قبل ما امشي، الحقيقة كنت عارف بس نسيت أو انكسفت أديها فلوس، وتصور هي اللي فكرتني، فكرتني بصوت غريب وحاد لسه في وداني، أحيانا أسمعه، لما بيجي العيان يخرج من الباب وينسى يدفع أقوم أفكره وأقول له هات الكشف، لحظتها صوتي يرن في وداني غريب وحاد شبه صوتها. تصور أول مرة أقول الحكاية دي لحد، ويمكن أول مرة أقولها لنفسي، عمري ما فكرت فيها وتصورت إني نسيتها (توفيق ينظر في ساعته)
يا خبر أنا ضيعت وقتك يا شرف الدين في كلام فارغ، كان لازم تكون في المصنع (يسكت لحظة متذكرا)
انت رايح المصنع برضه؟
شرف الدين :
أيوه. (توفيق يتجه ناحية الميكروسكوب.)
توفيق :
طيب استنى لما ألقي نظرة أخيرة. (توفيق نظر في الميكروسكوب لحظة، ينهض فجأة.)
توفيق :
هو بعينه الزرقا، مش ممكن عيني تخدعني بالشكل ده، مش ممكن تضيع سبع سنين طب وسنتين دبلوم وتلاتة دكتوراه، أنا شايف إنها الزرقا يا شرف الدين. تعالى بص تاني كده. (شرف الدين يسير إلى الميكروسكوب وينظر بهدوء.)
د. شرف الدين (بصوت هادئ يشبه صوت د. فهيم) :
ميكروب الزرقا يا توفيق زي العصايا، مش ممكن يكون بيضاوي بالشكل ده، وكمان مالوش ديل، ومش ممكن يكون «آسد فاست» بالشكل ده. (يتجه ناحية الباب)
أنا تأخرت ولازم أروح المصنع بسرعة.
المشهد السادس (في حجرة د. شرف الدين بالمصنع.) (د. شرف الدين والتمورجي شهدي يسعفان عاملا يحتضر راقدا على السرير، العامل يموت، شهدي يغطيه بالملاءة، د. شرف الدين يجلس منهارا من التعب على الكرسي، العرق يتصبب منه، يبدو عليه الإرهاق الشديد.) (شهدي ينظر إليه طويلا في صمت وتأثر.)
شهدي :
تعرف يا دكتور شرف الدين انت وانت قاعد كده بتفكرني بمين؟
د. شرف الدين (في إعياء) :
مين؟
شهدي :
الدكتورة نادرة، كانت في شغلها زيك بالظبط، تموت نفسها من الشغل، ليل نهار، كانوا العمال يحبوها حب، ما كناش نحس انها دكتورة؛ تاكل معانا وتسهر معانا، ووشها دايما يبتسم، عمرها ما كشرت في وش عيان. والله يا دكتور شرف الدين اللي يشوفك يقول أخوها ولا قريبها. حضرتك تعرف الدكتورة نادرة؟
شرف الدين :
لأ، ما عرفهاش يا شهدي؛ الدكاترة كتير والدكتورات كتير.
شهدي :
لأ لأ، هي مش زي الدكاترة، ولا الدكتورات، هي واحدة تانية خالص يا دكتور شرف الدين، خسارة انك ما تعرفهاش، خسارة يا دكتور شرف الدين لأنها الخالق الناطق شبهك بالظبط، حتى قعدتها على الكرسي ده لما كانت يا عيني تقع من التعب، تمام هي القعدة، يا سلام ربنا ده كبير يخلق من الشبه أربعين! (يسير شهدي نحو العامل الميت ويحاول أن يحمله.)
المشهد السابع
المسرح مظلم. ضوء خفيف يظهر عند مدخل المسرح من ناحية اليمين. يظهر في الضوء شهدي حاملا العامل على كتفيه ويسير به ببطء مجتازا خشبة المسرح. موسيقى حزينة، يخرج شهدي بحمله من الناحية اليسرى.
المسرح يظل مظلما خاليا، ضوء خفيف يظهر، تظهر من ناحية اليمين امرأة ترتدي السواد تجري بسرعة المذهولة ومن خلفها أطفال صغار يجرون خلفها، يجتازون المسرح بسرعة ويخرجون من الناحية اليسرى.
المسرح مظلم وخال تماما، صمت.
تسمع صرخة امرأة مكتومة: آه يا ضنايا.
صمت وظلام والمسرح خال.
يسمع صوت نحيب مكتوم: آه يا ربي.
صمت وظلام.
تسمع صرخة طفل صغير يبكي.
صمت وظلام والمسرح خال.
يضاء المسرح في استراحة قصيرة.
الفصل الثاني
8 مشاهد
المشهد الأول
المسرح مظلم تماما وخال.
يسقط ضوء خفيف على منتصف خشبة المسرح ويظهر طفل صغير جالس وحده في الظلام، يده ممدودة فارغة.
يبدأ الضوء يغمر المسرح تدريجيا، ويبدأ الناس المارة يملئون خشبة المسرح. الكل يجري بسرعة إلى عمله وحاله، لا أحد يرى الطفل الجالس بيده الممدودة الفارغة. أحد المارة يلقي في اليد الصغيرة الممدودة الفارغة قرشا دون أن ينظر إلى الطفل ويسرع في طريقه. الضوء يخفت تدريجيا على المسرح، والناس تقل تدريجيا حتى يظلم المسرح تماما ويخلو من المارة. لا يبقى إلا الطفل الصغير جالسا مكانه ويده ممدودة أمامه في الظلام.
المشهد الثاني (الضوء القوي في حجرة نوم فاخرة جدا، هي حجرة نوم د. فهيم وزوجته تفيدة.) (د. فهيم بملابس البيت جالس إلى كرسي «فوتيل» يدخن بكثرة ويبدو عليه التفكير العميق والضيق. تفيدة جالسة على السرير بشعرها الصناعي وملامحها المصنوعة وحركتها المصنوعة.)
تفيدة :
برضه مش قادرة اعرف إيه اللي مضايقك في الحكاية دي. الكلام اللي انت قلته ده كله مش شايفة فيه حاجة تضايق أبدا.
د. فهيم (في ضيق) :
بقه كل اللي حكيته ده ومش قادرة تعرفي إيه اللي مضايقني؟ كل الجهد اللي بذلته ده في الكلام وأنا باحكيلك ما قدرتيش تعرفي إيه اللي مضايقني؟ انت إيه؟ انت إيه؟ ما بتحسيش ولا إيه؟
تفيدة :
اسمع يا فهيم، إذا كنت عاوز تقلبها غم زي كل ليلة تقفل الموضوع ده خالص، ستين مرة قولتلك، كفاية طول النهار قاعد في مكتبك تتكلم في الشغل، الساعة الوحيدة اللي نقدر نقعد فيها مع بعض آخر الليل تتكلم برضه في الشغل؟ دي حاجة تكفر، وبرضه مستحملة ومستزوقة وقاعدة باسمع لك. بقى لك ساعة تتكلم وانا قاعدة اسمع لما طلعت روحي، وانا مالي ومال الأرانب؟ يولدوا ما يولدوش؛ والأرانب الأسترالي إيه! ومش عارفة ميكروبات إيه! ومش عارفة الدكتور شرف الدين إيه! والوالي مبسوط مني (تقلد د. فهيم بصوتها)
والوالي يقولي أنا نوع نادر من البشر ولازم نحافظ عليك، ونخاف عليك. تلات اربع كلامك عن إن الوالي مبسوط منك وخايف عليك؛ عاوزني اعرف منين إنك مضايق؟ وعاوزني كمان اعرف إيه اللي مضايقك؟ هو أنا باضرب الودع ولا بافتح كوتشينة؟ كنت بتتكلم وانت مبسوط، ما حستش في صوتك ريحة الزعل لكن ازاي؟ ازاي ليلة واحدة تمر من غير زعل، لازم تنكد علي كل ليلة، لازم تخلق حاجة تزعل عشان تتحجج وتديني ضهرك، اللعبة ما بقتش تنطلي علي يا فهيم، ما تقولها كده بصراحة وشجاعة انك بتحب واحدة تانية. انت فاكرني مش عارفة؟ أنا عارفة كل حاجة والناس كلها بتيجي تقوللي.
د. فهيم (في ذعر) :
إيه الكلام اللي انت بتقوليه ده يا تفيدة؟
تفيدة :
ده مش كلام، دي حقيقة، الناس كلها عارفاها مش أنا بس.
د. فهيم (في قلق) :
عارفة إيه؟
تفيدة :
اعمل نفسك مش عارف حاجة ، مثل علي دور آخر من يعلم، لكن أنا خلاص استحملت كتير وسمعت كتير، وكل مرة أقول بلاش أقولك، كلام الناس كتير وما يسبوش حد في حاله، خصوصا لما يكون واحد زيك ناجح وواصل والوالي راضي عنه، كل الناس بتحقد عليه، وقلت يمكن الستات غيرانين لأنك متجوز واحدة ست راقية من عيلة كبيرة وعوزين يوقعوا بيني وبينك، قلت لنفسي حاجات واستحملت، لكن أنا خلاص عرفت.
عرفت انك مش ممكن تكون بتحبني زي الأول، طول النهار برة البيت ولما تيجي البيت تبقى مش طايق تقعد معايا قعدة هادية ورايقة، لازم تعكر الجو بأي حاجة بأي كلمة. وامبارح تقولي شكلي وحش في الباروكة الجديدة؟! طبعا بقيت وحشة بالنسبة للست الدكتورة!
د. فهيم :
مين دي؟
تفيدة :
ذات الشعر اللي مالوش وصف، بيقولوا إن شعرها مقصوص زي الرجالة ومشيتها زي الرجالة ورجليها معوجة ومقفعة وبالبلا!
د. فهيم :
تقصدي مين بالكلام ده؟
تفيدة :
لكن الحب وحش، الحب أعمى. والغريبة إنهم مش عارفين مين اللي بيحب التاني؛ إنت اللي بتحبها ولا هي اللي بتحبك.
د. فهيم :
مين هي دي اللي انتي تقصديها؟!
تفيدة :
الست الدكتورة اللي انت سيبتها شغلها في المصنع وعملتها قال إيه؟ سكرتيرة خاصة، خاصة قوي!
د. فهيم :
دكتورة نادرة؟ تقصدي الدكتورة نادرة؟!
تفيدة (تصفق في سخرية) :
برافو! ازاي عرفت اسمها؟
د. فهيم :
اعقلي يا تفيدة خلي في مخك شوية عقل؛ د. نادرة كانت تلميذتي، ودي إنسانة طيبة وشغالة ومن عيلة مكافحة ولها تقاليد. انت ما تعرفيش العائلات المكافحة دي تقاليدها ازاي، مش زي العائلات اللي من الطبقة الراقية بتاعتك؛ البنت في الطبقة دي حياتها كلها تنهدم لو سمعتها ساءت. نادرة بنت شغالة ومخلصة في شغلها عشان كده أنا جبتها معايا في المكتب. بتشيل عني شغل كثير، بتموت نفسها في الشغل. وهي تلميذة في الطب كانت بتشتغل بعد الضهر علشان تدفع مصاريف الكلية، كانت تلميذتي واعرفها كويس واعرف أخلاقها، حرام عليكي يا تفيدة ما تسوئيش سمعة البنت، أنا عارفك لما تدبئي واحدة. فاكرة مدام علية اللي طفشتيها من البلد كلها عشان اتهيأ لك انها كانت بتبص لي؟
تفيدة :
ما هي كانت بتبص لك، وانت كنت بتشجعها. عاوز تنكر؟
د. فهيم :
يا تفيدة بلاش نفتح المواضيع دي، احنا متجوزين بقه لنا عشرين سنة وعندنا ولد شاب في كلية الطب، عيب! عيب تفضلي تتكلمي كده زي بنت صغيرة، انتي كبرتي يا تفيدة على الكلام ده!
تفيدة :
كبرت؟ كبرت يعني إيه يا فهيم؟ أنا كبرت؟ شوف كلامك اللي زي الطوب! طبعا كبرت بالنسبة للبنت الكتكوتة اللي عندك في المكتب.
د. فهيم :
أووه!
تفيدة (تقلد صوته) :
حرام عليك يا تفيدة ما تسوئيش سمعة البنت. مين اللي قال إنها بنت؟ ومين اللي قال إن سمعتها نضيفة قوي! مش هي دي اللي هربت من أهلها عشان تتجوز عامل في المصنع، ويا ريته كان جواز! بقى يا أستاذ فهيم تبص لواحدة بالشكل ده؟! طب نقي حاجة كويسة تستاهل!
د. فهيم (غاضبا) :
اقفلي يا تفيدة الموضوع ده أحسن لك!
تفيدة (تهدأ) :
تقصد إيه؟ مالك زعلت كده؟
د. فهيم (غاضبا) :
سيبيني لوحدي خالص، مش عاوز اسمع صوت، أنا تعبان وطول النهار باشتغل، ستين حاجة في دماغي، ستين مشكل، بلاوي متلتلة فوق دماغي (تفيدة تغادر السرير وتسير نحو الباب ببطء) .
فهيم (يكلم نفسه) :
وكمان زادت البلوى دي، الميكروب ده اللي جه المصنع؛ مشكلة كبيرة مش عارف لها حل، واضطريت أكدب على كل الناس، حتى على شرف الدين.
تفيدة (بصوت منخفض تكلم نفسها) :
ما هو أصل الكدب في دمك، إذا كنت بتكدب علي أنا مش عاوز تكدب على الناس الغرب، أنا اللي عشت معاك عشرين سنة، وكل ليلة (تمسح دموعها)
وكل ليلة، كنت بتكدب علي واحنا مع بعض، واحنا سوا في سرير واحد، اخص عليك يا فهيم، يا خاين يا غدار ياللي مطمرش فيك العيش والملح.
د. فهيم (بصوت هادئ) :
يا تفيدة اعقلي، خلي الليلة تفوت على خير، خلينا عايشين زي ما كنا عايشين. بقول لك أعصابي تعبانة ومش مستحمل عكننة، وبلاش حكاية الكدب دي أرجوكي لأنك عارفة مين اللي كدب على التاني، أنا ولا أنتي، نسيتي حكاية ... فاكرة أما ... (يسكت لحظة)
على العموم أنا نسيت وقلت عشان الولاد نعيش، مفيش داعي نمرمط الولاد بينا، خلينا عايشين يا تفيدة (تمسح دموعها وتخرج) . (فهيم وحده يمسك رأسه بيده يكلم نفسه.)
فهيم :
يا رب، أنا تعبان، دماغي! مش ناقص تعب. (يفكر لحظة في صمت.)
لو كان واحد تاني غير شرف الدين كانت بقت المسألة أسهل، إنما شرف الدين! حيقول إيه علي لو عرف إني ... لو كان يقدر يفهم كنت شرحت له موقفي، لكن ده لا يمكن يفهم، لا يمكن يتصور إني ممكن أضعف، إني زي أي بني آدم تاني. كان بيبص لي على إني إله، وأنا اللي كنت باشجعه على كده، كان بيرضيني إني أحس إني إله، أنا اللي رسبت الفكرة دي في نفسه؛ إني واحد تاني غير الناس، ماقدرش، ماقدرش أنزعها منه دلوقت، ماقدرش أنزعها منه بسهولة، بس لو كان واحد تاني غير شرف الدين، كانت المسألة بقت أسهل. (يمسك رأسه.) (ظلام.)
المشهد الثالث (د. شرف الدين راقد على السرير بحجرته بالمصنع يلفظ أنفاسه الأخيرة وإلى جواره التمورجي.) (شهدي يحاول أن يسعفه.)
شهدي :
دكتور شرف الدين، يا نهار اسود! أعمل إيه بس؟ أنا مانيش دكتور، أسعفه ازاي بس؟ (يقرب كوبا من الماء من شفتي شرف الدين. شرف الدين يفتح عينيه.)
شهدي :
د. شرف الدين، أنا شهدي.
شرف الدين :
شهدي، فين توفيق؟ اندهله.
شهدي :
ندهلته، جاي حالا في السكة، زمانه يوصل حالا.
شرف الدين :
لو جه توفيق وأنا ما كنتش ... قوله يا شهدي شرف الدين بيقولك إنها الزرقا (يدخل توفيق مهرولا مسرعا) .
توفيق :
شرف الدين، مالك؟ هات كورماين يا شهدي بسرعة. (يعطيه حقنة.)
شرف الدين (بصعوبة) :
د. فهيم كدب علي يا توفيق، دلوقت بس عرفته، ازاي ما عرفتش قبل كده؟ عرفت دلوقت بس، عرفت متأخر قوي، خلاص الفرصة راحت يا توفيق، الأمل راح (يلفظ أنفاسه) .
توفيق (في اضطراب) :
لا يا شرف الدين، الأمل ما راحش، لسه فيه أمل ، لسه فيه فرصة، هات كمان حقنة كورماين يا شهدي. (شهدي يجري كالملسوع ويأتي بالحقنة، توفيق يغرزها في ذراع شرف الدين.)
توفيق :
شرف الدين اصحى، اصحى يا شرف الدين، لسه فيه فرصة، لسه فيه أمل، يا شهدي هات كمان حقنة. (شهدي يجري ويأتي بحقنة أخرى.)
توفيق :
شرف الدين، اسمعني، قاوم الموت يا شرف الدين زي ما كنت بتقاوم كل حاجة. قاوم ما تستسلمش. عمرك ما استسلمت. قاوم يا شرف الدين، فيه فرصة، فيه أمل، مش ممكن تموت، مش ممكن الملاك يا ناس هو اللي يموت. (توفيق يلقي الحقنة على الأرض فتنكسر ويبكي.) (شهدي يغطي جسم شرف الدين الميت وهو ينظر إليه في ذهول وحزن شديدين.)
توفيق :
شرف الدين مات يا شهدي، شيله، شيله على كتافك، الملاك اللي رفض إنه يبات ليلة واحدة خارج المصنع، كان بيسهر عليكم ويشيلكم واحد ورا واحد. شيله يا شهدي في عينك، شرف الدين كان مؤمن، كان مؤمن بشيء غير موجود وعمره ما فقد إيمانه، حتى كلامي اللي زي السم ما أثرشي فيه، كان عايش في وهم، الدكتور فهيم ما يكدبش، مفيش زرقا يعني مفيش زرقا، والزرقا عمالة تنهش في لحم العمال، والزرقا عايشة في المصنع، عايشة وعمالة تكبر وتترعرع، الميكروب عايش ويترعرع والملاك الطاهر مات، ربنا رحمه واستريح، شرف الدين استريح يا شهدي، وعاش كمان مستريح، كان مصدق إن فيه خير في الدنيا دي وإن د. فهيم بيقول الحق، وشرف الدين مات واستريح، إنما أنا ... أنا اللي عايش وتعبان، أنا اللي مش مؤمن بحاجة خالص؛ دنيا وحشه وكلهم كدابين، كلهم كدابين، والصادق النهارده بكرة يكدب لما الظروف تتغير، والشجاع النهارده بكرة لما يقف قصاد الأكبر منه يبقى أرنب، أنا مش مؤمن بحاجة يا شهدي، مش مؤمن حتى بنفسي، أنا جبان، أنا عارف إنها الزرقا وساكت، أيوه ساكت ومقدرش أقول. اشمعنى انا دونا عن الكل اللي اقول؛ عاوز ولادي يا شهدي يعيشوا وياكلوا ويروحوا المدارس. ولادي هم السبب يا شهدي! هم السبب، يمكن لو مكانشي عندي أولاد يمكن كنت أقول، لكن برضه ما اعرفش، أنا باخاف يا شهدي، أنا جبان يا شهدي (يبكي) . (شهدي يواسيه.)
شهدي :
ما تعملش في نفسك كده يا دكتور توفيق.
توفيق :
دي كانت آخر فرصة يا شهدي، كان آخر أمل، خلاص الفرصة راحت، الأمل راح.
شهدي (في عزم) :
لأ ما راحش، الأمل ما راحش ولسه فيه فرصة طول ما احنا عايشين، طول ما فينا نفس فيه فرصة وفيه أمل. فيه! فيه!
المشهد الرابع (شهدي راقد على الأرض في زنزانته. السجان يضربه السوط.)
شهدي (يصيح) :
فيه!
السجان (يضربه) :
مفيش!
شهدي :
فيه!
السجان :
مفيش! (يستريح السجان قليلا من الضرب، يجفف عرقه يمسك ذراعه الذي آلمه من رفع السوط والضرب مدة طويلة.)
السجان :
آه يا دراعي، دراعي انخلع من الضرب وانت لسه ما حستش؟ قول مفيش زرقا.
شهدي :
فيه زرقا.
السجان :
قول مفيش.
شهدي :
فيه. (السجان يبدأ بضربه مرة أخرى.)
السجان :
مفيش.
شهدي :
فيه.
السجان :
مفيش.
شهدي :
فيه. (يستريح السجان قليلا، يجفف عرقه، يدلك ذراعه من التعب.)
السجان (في غضب) :
انت إيه؟ انت مش بني آدم ولا إيه؟ والله والله العظيم لو كان بغل كان حس.
شهدي (بصوت متعب جدا) :
أصل أنا مانيش بغل، أنا شهدي، أنا إنسان، عشت وسط الناس في المصنع، كنت بشيلهم على إيديا دول، كنت بحس جسمهم وهو سخن زي النار وبعدين يبرد ويتلج زي حتة اللحمة، شيلتهم بإيديا دول وشيلت عيالهم، شيلتهم بإيديا وشفتهم بعيني؛ كنت اشوف العيل من دول ينبش في صفيحة الزبالة زي الكلب عشان يعتر في عضمة، على لقمة بايتة ومعفنة، على شوية رز فضلوا من الجيران ورموهم في الزبالة. وشفت الدكتور شرف الدين، كان زي الشعلة المنورة، يروح ويجي ويكلم كل واحد ويضحك، تمام شبه الدكتورة نادرة. يا ترى انت فين يا نادرة؟! (السجان يضربه بالسوط.)
السجان :
قول مفيش زرقا.
شهدي :
فيه.
السجان :
مفيش.
شهدي :
فيه. (السجان يستريح ويبصق عليه ويتركه قليلا.)
السجان :
أقسم بشرفي لو بغل كان حس.
شهدي :
أيوه، لو كنت بغل ما كنتش حسيتهم بإيديا دول وشفتهم بعيني دول. أعمل إيه؟ ذنبي إيه؟ أنا بني آدم، لي إيدين بتحس ولي عينين بتشوف. (السجان يلسعه بالسوط.)
السجان :
بني آدم إيه؟ لو كنت بني آدم كنت حسيت لسعة الكرباج ده!
شهدي :
لسعة الكرباج مش بتوجع زي لسعة الألم والجوع، مش بتوجع زي لسعة عنين على يتيم بيدور على لقمة في التراب!
السجان :
دراعي انخلع ودمك ساح على الأرض ولسه مش عاوز تسمع الكلام! شايف اللي على الأرض ده؟ ده دمك بص شوفه.
شهدي (يتحسس جسمه) :
ده دمي ده، مش عارف إنه دمي، حتى جسمي ما بقتش حاسس بيه، اضرب زي ما انت عاوز؛ خلاص أنا مش حاسس بجسمي. (السجان يضربه بشدة.)
السجان :
قول مفيش زرقا.
شهدي :
فيه زرقا.
السجان :
مفيش.
شهدي :
فيه، فيه، فيه. (يصرخ وهو يقول بجنون) : فيه، فيه! (ظلام.) (يسمع فقط صوت السوط وهو يضرب وصوت شهدي يئن بضعف ويقول مرددا بصوت خافت جدا: «فيه، فيه، فيه.» صوته يخفت تدريجيا دون أن ينقطع.)
المشهد الخامس (شهدي راقد في حالة سيئة على الأرض في الزنزانة السابقة، يفتح فمه بصعوبة ويقول بصوت خافت ضعيف جدا.)
شهدي :
فيه، فيه يا دكتورة نادرة. (دكتورة نادرة واقفة إلى جواره تنظر إليه في ألم وذهول.)
شهدي :
فيه يا د. نادرة، بقى لي زمان بدور عليكي يا د. نادرة، كتر خيرك اللي تعبتي نفسك وجيتي لغاية هنا، لكن أعمل إيه يا د. نادرة، ما حدش راضي يجيب رباط شاش محدش سائل عني، عشان كده سألت عليكي وقلت لهم يدوروا عليكي؛ انت الوحيدة اللي حتقدري ... حتقدري تعرفي ازاي لما الجرح يبقى مفتوح لازم يتربط برباط شاش، انت اللي حتقدري تجيبيلي رباط شاش أربط دراعي، الجرح مفتوح والدود بياكل فيه وما حدش راضي يجيب لي رباط شاش، خايفين يجيبوه أقوم ألفه حوالي رقبتي وأموت نفسي. قولي لهم يا د. نادرة شهدي مش ممكن يموت نفسه، شهدي مش ممكن ينتحر، لو كان عاوز كان موت نفسه من زمان. انت عارفاني يا د. نادرة عارفاني ، عارفة ازاي أنا عاوز اعيش، عاوز اعيش عشان ارجع المصنع، عشان ارجع واقول للعمال إن فيه زرقا، فيه، فيه، يا د. نادرة فيه. (د. نادرة واقفة جامدة كالتمثال تنظر حولها في ذهول وألم وحزن وغضب.)
د. نادرة (صوتها يعبر عن كل هذه الانفعالات) :
ازاي؟! ازاي ده حصل؟! ازاي قدر يسكت ولا يقولش؟! ازاي قدر ما يقولش؟ الدكتور فهيم؟! ازاي قدر يسكت؟ ازاي؟!
المشهد السادس (في مكتب د. فهيم الفاخر.) (د. نادرة واقفة أمام د. فهيم. فهيم جالس يبدو عليه التعب والانكسار.)
د. نادرة (نفس صوتها السابق) :
ازاي؟! ازاي قدرت تسكت؟! ازاي ما قلتش؟
د. فهيم (بصوت منكسر) :
كان شيء فوق طاقتي يا نادرة، ما تتصوريش لما شرف الدين مات أنا حزنت أد إيه.
نادرة :
شرف الدين؟! بس شرف الدين اللي انت حزنت عليه، بس شرف الدين اللي انت بتفكر فيه، لأنه شرف الدين، لأنه التلميذ اللي كان بيبص لك على إنك فوق فوق، التلميذ اللي كانت عينيه تلمع من الفرح لما يشوفك ويبص لك على إنك إله، كنت بتحب شرف الدين لأنه كان بيعبدك، كنت بتحب عبادته ليك، كنت بتحب إيمانه بيك، بتحب «الأنا» بتاعتك فيه، لكن عمرك ما حبيته هو؛ وعشان كده قدرت ترميه للموت لما خفت، لما المسألة بقت أنا ولا هو، اخترت «الأنا» بتاعتك وكنت دايما تختار «الأنا» بتاعتك، عمرك ما اخترت حد غير الدكتور فهيم.
د. فهيم :
أرجوكي يا نادرة حاولي تقدري موقفي، موقفي كان صعب، صعب جدا. لو كنتي مكاني يا نادرة كنت حتعملي إيه؟
نادرة :
كنت لازم أقول، لازم أقول! وحاقول. ماقدرش ما قولش، ماقدرش! أنا غيرك يا د. فهيم، انت قدرت تسكت، إنما انا ماقدرش.
د. فهيم :
يمكن بعد عشر سنين يا نادرة لما تبقي في سني يمكن تقدري تفهمي موقفي، فيه حاجات في الدنيا يا نادرة انت لسه ما تعرفيهاش، احتياجات كثيرة بتتولد في حياة الإنسان لما يكبر، أنا سكت عشان الولاد يا نادرة، يمكن لو جربتي إنك تكوني أب أو أم يمكن تعرفي. أنا خفت مش على نفسي، لو كانت نفسي كانت المسألة سهلة، لكن الولاد، تصوري لو كنتي أم وجت قوى كبيرة أقوى منك عاوزة تحرمك من طفلك وتحرم طفلك منك! أم أو أب؛ شعور الأب زي شعور الأم واكتر، وخصوصا لما يحس بإنه مهدد، فيه حاجات في الدنيا يا نادرة لسه حتعرفيها، لما تبقي أم حتقدري تعرفيها وتعذريني.
د. نادرة :
مين قالك إني ما كنتش أم؟ أنا كنت أم من 18 سنة، كنت تلميذة في آخر سنة في ثانوي، فتحت عيني لقيت نفسي نايمة على مرتبة قديمة في أوده بلاط، ما كنش معايا محمود، كان في المصنع، بصيت جنبي لقيت طفل صغير قوي ومد إيده الصغيرة، صوابعه كانت صغيرة قوي، لكنها كانت تشبه صوابعي، ومديت إيدي عشان امسكه، بصيت لقيت إيده لفت حوالين صباعي ومسكته قوي قوي، حطيته في صدري وبصيت في وشه، وشه كان أسمر محمر، وعينيه كانت مدورة والنني كبير، وبيلمع، بيلمع، زي فص الألماز، كنت عاوزة محمود يرجع بسرعة من المصنع عشان يشوفه، لكن محمود ما رجعش، وسمعت من زمايله في المصنع إنه مات بالزرقا، كنت لسه صغيرة، سبعتاشر سنة، وهربانة من كل الناس، وهربانة من أبويا وأمي وكل الناس؛ كانوا عاوزين يمسكوني ويحطوني في القفص، لكن أنا هربت، أخدت شنطة هدومي الصغيرة وهربت في نص الليل وهم نايمين، ومشيت لوحدي في الشارع الطويل الضلمة. كانت الدنيا مطر وبرد والدنيا ضلمة، في لحظة خفت، ووقفت، وفكرت ادور وارجع، كان الطريق قدامي طويل وضلمة وفي كل ركن شبح واقف يتربص، وقفت في وسط الطريق وحركت قدمي عشان ادور وارجع، قلت لنفسي لحظتها: القفص أرحم، السجن برضه فيه أمان عن الدنيا الضلمة الواسعة، السجن له أربع حيطان تحميني وتخبيني. لكن ماقدرتش ارجع؛ كان فيه حاجة غريبة بتزقني لقدام، حاجة غريبة لا إرادية زي القدر، أبدا ما كانش القدر، أبدا ما كانش حاجة لا إرادية، ما حدش ضربني على إيدي وقالي اهربي، كنت ماشية على رجليه بإرادتي، كنت عارفة إني رايحة للأوده البلاط والمرتبة القديمة والشباك المكسور بتبص منه عنين الناس، وألسنة الناس وإيدين الناس حتنهش في زي حتة لحمة، لكن ما قدرتش ارجع، كان فيه حاجة بتزقني لقدام؛ حاجة أقوى من الإرادة، حاجة أقوى من الحب والجنس. في الليلة دي بالذات ما نمناش سوا، في الليلة دي بالذات ماكنتش عاوزة محمود، كنت عاوزة اهرب من القفص، قفص المجتمع المزيف، التقاليد المزيفة، والشرف المزيف، والحب المزيف، والكلام المزيف، والوجوه المزيفة، والزواق الكدب. كنت عاوزة اهرب واحرر نفسي، كانت أصعب لحظة في حياتي، دست عليها بقدمي ومشيت عليها ومشيت. كان ممكن في كل خطوة اقف وادور وارجع؛ أرجع لأبويا ولأمي ولبيتنا الدافي واتجوز ابن عمي زكريا تاجر الموبليات الغني وأجيب جهاز وعيال وأعيش زي الناس ما هما عايشين، لكن مارجعتش، كنت شايفة الطريق قدامي ضلمة وطويل وصعب لكن مارجعتش، دست على قدمي ومشيت، دست على أصعب لحظة ومشيت. فيه ناس ما تقدرش تدوس على اللحظة دي وتمشي، تفضل واقفة عندها، ماسكة فيها وخايفة، متبتة فيها وخايفة، يفضلوا أسرى اللحظة دي، اللحظة هي اللي تمسكهم وتأسرهم وتدوس عليهم ويفضلوا واقفين، الدنيا من حواليهم تمشي والزمن يمشي وهم واقفين في مكانهم عند اللحظة دي، دايساهم، حبساهم زي الفيران في القفص. دي اللحظة اللي حررتني، لا أبدا، ما كنش برضه هي دي، دي كانت تيجي نقطة تانية، لحظة بس، أول خطوة على الطريق، كانت نقطة البداية وبعد كده تيجي نقطة تانية، لحظة تانية وتالتة، خطوة ورا خطوة نقطة فوق نقطة، لغاية ما الدورق يتملي، طريق طويل، وكل لحظة فيه صعبة وطويلة زي الدهر، تخلي جدور الشعر تقف والشعر يشيب والعمر يتملي ويكبر وإن ما فاتش فيه كتير، عدد اللحظات دي هي اللي بتعمل العمر مش عدد السنين. لحظة ورا لحظة بالتدريج، لحظة ورا لحظة بالتدريج زي المية على النار تسخن شوية شوية وبعدين تيجي لحظة تغلي وما تبقاش ميه؛ تبقى بخار، كذلك الإنسان لحظة تتراكم على لحظة على لحظة تراكم كمي بالتدريج، وبعدين تيجي لحظة يتغير النوع، يفتح الواحد عينه يحس إنه بقى واحد تاني، إنسان جديد، غير الأولاني، يفتح دراعاته ويحس إنه يقدر يحضن الهوا والسما والدنيا والناس، يحس إنه يقدر يحضن كل الناس، يفتح دراعاته عن آخرها ويحس إنه مالك الدنيا، مالك كل لحظة في عمره، مالك كل حتة في نفسه، مالك نفسه ومالك جسمه ومالك عضلات وشه، يقدر يفتح بقه ويضحك ويقهقه بصوت عالي، يقدر يفتح بقه ويقول اللي هو عاوزه. صوت يخرج لوحده طبيعي بدون مجهود ويقول: فيه زرقا، أيوه فيه زرقا. شوف أنا بقولها سهلة ازاي؟ سهلة علي، طبيعية زي الهوا ما بيدخل جوه الصدر ويطلع. ازاي كانت صعبة عليك؟! ازاي ما قدرتش تقولها؟ ازاي؟!
د. فهيم :
ما قدرتش أقولها يا نادرة؛ كانت صعبة علي، أصعب حاجة قابلتها في حياتي، أصعب حاجة.
نادرة :
لأنك ما عشتش لحظة أصعب منها، لأنك ما مشتش في الطريق الصعب. مش كل واحد يقدر يمشي فيه، فيه ناس بتاخد الطريق السهل القصير، بتبقى مستعجلة تزق غيرها وتبقى عاوزة توصل، عاوزة تنجح، عاوزة، عاوزة، عاوزة ... العوزان النهم، أنا عاوز أنا أريد، أنا أريد ... الإرادة الجشعة السريعة. المسألة مش إرادة بس، المسألة مش أنا أريد، المسألة مش أنا عاوز، فيه ناس بتعوز تاكل وغيرها يجوع، فيه ناس إرادتها حديد؛ تقتل عشان تملا بطنها وغيرها يجوع. المسألة أكبر من الإرادة واللاإرادة، وأصعب من الإرادة أو اللاإرادة. المسألة ازاي الإنسان يمشي في الطريق الصعب لحظة ورا لحظة ورا لحظة ويحرر نفسه، يحرر نفسه من جوه ذاته ويخليها تخرج بره جسمه وتحس غيره، يحررها من «الأنا» ويحس غيره زي ما تحس جسمه! ويبقى في الوقت ده يعوز غيره ياكل زي ما بياكل، يبقى ممكن يقتل عشان غيره ياكل زي ما هو بياكل. من أربع سنين بس مريت باللحظة دي؛ كان عندي نوبتشية حوادث في المصنع وخرجت راجعة بيتي قبل الفجر بشوية صغيرين، كانت الدنيا شتا ومطر ومالقتش حاجة اركبها فمشيت. وأنا بعدي كوبري عباس شفت حاجة صغيرة ملفوفة ومحطوطة على الرصيف، وقفت وبصيت شفت إيد صغيرة وصوابعها صغيرة، مديت إيدي بصيت لقيت الصوابع الصغيرة بتلف حوالين صباعي وتمسكه قوي قوي، حطيته في صدري وبصيت في وشه، وشه كان أسمر ومحمر وعينه كانت مدورة والنني كبير وبيلمع، بيلمع زي فص الألماز. حسيت إنه ابني، أنا اللي ولدته اتولد من صلبي أنا، ولدته فين أو إمتى معرفشي! لكن أنا اللي ولدته، عمرك ما جالك الإحساس ده؟ عمرك ما وقفت العربية بتاعتك على كوبري عباس وبصيت؟ لو كنت وقفت مرة لو كنت بصيت مرة يمكن كنت عرفت، يمكن كنت عرفت إن كل الأطفال بيتولدوا شكل بعض، كل الناس بيتولدوا زي بعض، لكن بعد كده بيختلفوا؛ ينقسموا نوعين: نوع بيدور على الطريق الصعب ويمشي فيه ويعرف الألم ونوع يدور على الطريق السهل ويهرب من الألم وما يعرفوش. الألم ده هو الإنسان، نفس الإنسان، القوة، الروح، الإله اللي جوه الإنسان، هو الفرق بين إنسان وإنسان، فرق رفيع وشفاف، أحيانا ما ينشافش ويفوت علينا، يفوت زي الشعرة في العجين بتفوت.
د. فهيم (بصوت متأثر) :
أنا فعلا يا نادرة عمري ما عرفت الألم، كنت باجي لغاية عنده واهرب. حياتي كلها كانت سهلة، أبويا علمني وصرف عليا في كلية الطب، كنت ارجع ألاقي عشاي جاهز وسريري جاهز وأودتي نضيفة، كان عندي كل حاجة، عمري ما عرفت يعني إيه واحد يجوع، وبقيت دكتور وأستاذ طب. ما عرفش كل حاجة كانت سهلة ازاي؛ عشان كده كان متهيأ لي إن كل حاجة سهلة والدنيا مافيهاش ألم. حتى لما كنت بسأل العيان وأقوله فين الألم يا ابويا؟ ويشاور على صدره أو بطنه، أحط إيدي على جسمه وما احسش بالألم. وأنا صغير لما كانوا يغرزوا في دراعي حقنة التطعيم كنت اصرخ من الألم، وفضلت طول عمري اكره آخد الحقن. أصعب ألم شفته في جسمي هو إبرة التطعيم، لكن لما كنت أغرز الحقنة في دراع العيان ويشد إيده أستغرب ليه بيشدها، وأقول له ما تشدش إيدك وخليك شجاع وخليك راجل، مع إني كنت عارف بعقلي كطبيب ازاي الجسم يتألم، لكن ما كنتش عارف بإحساسي يعني إيه ألم، العقل سهل يعرف ويتملي معلومات عن أكبر المعضلات اللي في الدنيا والعلوم، سهل إن العقل يتعلم، لكن الإحساس! أصعب حاجة إن الإحساس يتعلم. ذنبي إيه يا نادرة؟ ذنبي إنه ظروفي كانت سهلة وكويسة؟ ذنبي إيه؟
نادرة :
كنت لازم تقلق وتدور، كنت لازم تقلق وتحس بنقص، اللي عمره ما اتألم ويكون إنسان لازم يحس إنه صغير ووحيد وقلقان، لازم يحس إن حياته ناقصة وحاجة في حياته ناقصاه، حاجة في حياته ضايعة ومش لاقيها، حاجة مهمة خالص مش لاقيها، ما يحسش طعم الأكل ولا الشرب ولا النوم ولا الجنس وكل حاجة تبقى من غير طعم زي المية الفاترة. فيه ناس تعيش وتسكت وترضى بالعيشة الناقصة وتقول أدي احنا عايشين، وفيه ناس تقلق وتدور على الحاجة الضايعة، وتفضل تلف وتدور وتدور زي الأسد المحبوس جوه القفص، يفضل يدور ويدور ويدور، يفضل حاسس إنه وحيد، وإن حواليه سور بيعزله عن غيره، سور تخين وهو جواه وحيد محبوس مخنوق. يفضل يدور ويموت وهو بيدور عن إنه يقعد جوه القفص. فيه ناس تموت وهي تدور عن إنها تفضل وحيدة محبوسة لوحدها جوه «الأنا» لكن إذا ما ماتتش، إذا قدرت تكسر الباب وتخرج برة «الأنا» حتلاقي أغلى حاجة في الدنيا؛ حتلاقي نفسها.
د. فهيم (يقترب من نادرة في حب) :
دلوقت بس فهمتك، دلوقت بس عرفت ليه أنا كنت بحبك، ليه دونا عن كل طالبات الكلية، دونا عن كل البنات والستات كنت بحبك. لما كنت ابص في عينيكي كنت باخاف، ما كنتش بعرف أنا باخاف ليه، ولما تمشي من قدامي اضحك لنفسي واقول عبيط، ما هي واحدة زي كل الباقيين. لكن لما أشوفك من بعيد ابقى عاوزك تقربي مني عشان اشوف عينيكي وابص فيها واعرف أنا باخاف من إيه، كنت عاوز أعرف أنا باخاف من إيه، كنت أستاذك وانت تلميذة، تلميذة مبهدلة؛ شعرها منكوش وفستانها قديم وجزمتها كعبها متاكل ومعوج، ولما تمشي من قدامي أضحك لنفسي وأقول عبيط، لكن لما ألمحك من بعيد أبقى نفسي تقربي عشان اشوف عينيكي وابص فيها واعرف ليه أنا باخاف. دلوقت بس عرفت إني كنت بخاف من نفسك، نفسك دي اللي لقيتيها بعد ما مشيتي مشوار طويل وقطعتي الطريق، نفسك دي اللي لقيتيها وماسكاها بإيديكي واسنانك ومتبتة فيها ومش ممكن تخسريها، نفسك دي اللي كنت باشوفها جوه عينيكي من جوه ومقدرش امسكها، أمسك إيدك وماقدرش أمسكها، أمسك جسمك كله بين إيديا ومقدرش أمسكها. فاكرة الليلة الوحيدة اللي مضناها سوا، ما تتصوريش يا نادرة أنا الليلة دي حسيت بإيه، حسيت إنك بتديني كل حاجة، كل حاجة في جسمك إلا نفسك، حسيت ليلتها إنك غالية قوي، نفسك غالية قوي، مش ممكن أقدر آخدها، ما حدش يقدر يأخدها، بأي تمن، أغلى من أي تمن، أغلى من إنها تتشري أو تتباع بالعملة المتداولة في عالمنا، العملة اللي بتحسب واحد + واحد = اتنين. وخفت يا نادرة، لقيت الطريق لك صعب وغالي، واستسهلت واسترخصت؛ اشتريت تفيدة بكل فلوسي وخفت اتجوزك، عاوز مراتي تكون أنيقة ومن عيلة وراقية وأبوها مركزه كبير مش عامل في المصنع. سامحيني أنا عرفت دلوقت بس، أنا فهمت دلوقت بس، أنا اتعلمت دلوقت بس. صحيح اتأخرت في التعليم، بعد ما كبرت وشبت وبقيت أستاذ كبير، اتعلمت دلوقت بس وتلميذتي هي اللي علمتني. (يركع عندها)
سامحيني يا نادرة لأن أنا اللي خسرت مش انت، أنا خسرت نفسي، وعشرين سنة من عمري (يبكي) .
المشهد السابع (نفس المنظر السابق.) (د. فهيم جالس، يقف أمامه د. توفيق.)
د. فهيم :
بتقول إيه يا توفيق؟
د. توفيق :
التمورجي شهدي يا فندم مستمر في إضرابه عن الأكل، مش عارف طالعة في دماغه حكاية الزرقا دي، مش راضي يبطل ليل نهار يقول فيه زرقا، لا نافع فيه تخويف ولا نافع فيه ضرب؛ باين عليه مسكين فقد عقله.
د. فهيم (بصوت هادئ جدا) :
لا يا توفيق، شهدي ما فقدش عقله، احنا اللي فقدنا إحساسنا، شهدي كنا بنشوفه تمورجي صغير وهو في الحقيقة كان الإنسان، النفس، الروح، القوة، الإله، اللي جوه الإنسان. وأنا، أنا الأستاذ الدكتور فهيم كانوا بيشوفوني، إله مع إني في الحقيقة كنت صغير، كنت أسير، كنت عبد من العبيد. شهدي هو الحقيقة، شهدي بيقول الحقيقة، أيوه فيه زرقا، فيه زرقا يا توفيق (توفيق ينظر إليه مذهولا) .
توفيق (بصوت ذاهل) :
د. فهيم اللي بيقول فيه زرقا؟ أنا مش مصدق وداني!
د. فهيم :
لا صدق ودانك يا توفيق، أخيرا الأستاذ الدكتور فهيم فهم واتعلم. التعليم اللي احنا بنتعلمه في المدارس والكليات والوظايف ده مش تعليم، دي كلها مجرد معلومات بنحشي بيها مخنا زي الكوسة لما تنحشي بالرز، أو الكيس الدمور لما ينحشي بالقطن، مجرد حشو، ويفضل إحساسنا زي ما هو، إحساس جاهل غير متعلم، إحساس ما عندوش إحساس، ما بيحسش، ما بيحسش حاجة إلا جسمه، جسمه هو وبس، ما يحسش إلا الإبرة اللي بتغرز في جسمه، إنما الإبرة اللي تدخل في جسم غيره! السكاكين اللي تتقطع بيها أجسام الناس التانية هو ما يحسش بيها، طالما هي بعيدة عن جسمه. (د. توفيق يمسك رأسه ويبكي بصوت مكتوم.)
د. فهيم :
الكلام ده يا توفيق لازم يخليك تبتسم وتضحك مش تبكي.
توفيق :
أنا بابكي لأني أنا اللي عايش وباسمع الكلام ده، كان نفسي شرف الدين هو اللي كان عايش وهو اللي يسمعه، هو اللي بيسمعه من أستاذه الدكتور فهيم، أستاذه اللي صدقه وآمن بيه، آمن بيه لغاية آخر نفس، لغاية آخر لحظة من عمره.
د. فهيم :
شرف الدين فهمني قبل ما أفهم أنا نفسي، شرف الدين حس بي قبل ما أحس أنا بنفسي، شرف الدين سبقني. فيه ناس بتسبق يا توفيق، دايما فيه ناس بتسبق واحنا بنتعلم من اللي سبقونا، واللي جايين ورانا يتعلموا منا، هي دي الحياة يا توفيق، واحد ورا التاني، واحد ورا التاني، والإنسان هو اللي يسبق.
المشهد الأخير (المسرح مضاء جيدا وخال.) (تدخل من ناحية اليمين نادرة ومن خلفها يسير شهدي ثم شرف الدين ثم فهيم ثم توفيق ثم تفيدة ثم السجان ثم الوالي. يجتازون خشبته بهذا الترتيب؛ نادرة في المقدمة والوالي في المؤخرة، حين تصل تفيدة إلى منتصف المسرح يتقدم السجان خطوة ويمسك ذراعها ويسيران معا. حين يصل الوالي إلى منتصف خشبة المسرح يقف ويستدير مواجها الجمهور.)
الوالي :
بقى أنا اللي دايما كنت امشي قدامهم آجي على آخر الزمن امشي وراهم؟! أما مؤلف جاهل صحيح، مؤلف غبي غير عملي، ما يفهمش الأصول، ما يعرفش البرتوكول، المؤلف ده لازم يترفد، هاتوا لي المؤلف، هاتوه وارفدوه. (النهاية)
نامعلوم صفحہ