فطمأنها الرجل من الخارج قائلا: لا تخافي يا بنتي، البسي ثيابك يا مريم وافتحي. - يا محمود، يا مرجانة، دهتكم داهية، من الغريب الواقف في الباب؟
فجاء محمود ويده على عينه يصيح ويتوعد الغريب. - يا بنتي يا مريم لا تخافي أنا القس جبرائيل، صديقك القس جبرائيل مبارك، البسي ثيابك وافتحي الباب!
فسمع القس جبرائيل غصن البان تهمس اسمه همسا أشد من الصياح وساد داخل الغرفة سكوت عميق قصير، ثم قالت تخاطب محمودا: دع الرجل يا محمود، رح نم.
وبعد هنيهة فتحت الباب وقد ارتدت غلالة خضراء، ووقفت تحت العتبة كالتمثال لا تبدي حراكا، نظرت إلى الراهب نظرة جامدة باردة، ثم قالت: وماذا تبتغي مني اليوم؟ - ما أبتغيه من خمس سنوات ولم أزل أبتغيه. - وكانت بغيتك قريبة منك فلم تظفر بها، فكيف إذا أصبحت بعيدة عنك بعد السماء من الأرض؟ - البعيد من الله أقرب إليه من القريب منه. - اتركني إذن قريبة من الله.
ولاح في عينيها بريق الشقاء المستهتر وهي تبتسم ابتسامة التهكم. في السنين التي قضتها نائية عن وصيها ومرشدها - خارج السجن - في نعيم الحياة وبؤسها، نشأ فيها خلق الازدراء والتفوق، فكان يخفي في بعض الأحيان فطرتها الطيبة، زالت سذاجتها كما يزول لون الزهرة وشذاها إذا قطفت وعرضت للشمس، ولكن تلك الغريزة الحميدة كمنت في قلبها كما تكمن في الزهرة بذور الحياة الخالدة، والخلق المكتسب فيها؛ خلق الغواني والممثلات منشأ الغرور والتفوق، خلق من يقفن كل ليلة أمام الناس فتسكرهن ضجات الاستحسان والإعجاب، ذاك الخلق الأنيق الباهر الكذوب خانها تلك الآونة، ولم تكن لتستطيع أن تخفي ما جاش في صدرها من جيشان الغم والأسى، فلما أجابت القس جبرائيل الجواب الذي ظنته قاطعا مفحما عبس بها وأجابها قائلا: ما جئت أمازحك.
فارتعدت فرائصها وتساقطت منها حلي الغرور والتصنع كما تتساقط من الأشجار أثمارها المتهرئة، فوقفت لا كغصن البان أمام أحد مريديها معتزة شافنة، بل كمريم الناصرية أمام الله صاغرة خاشعة، نظرة من نظرات القسيس القاسية أحيت فيها حقيقة حالها، كأنه تناول الوردة البالية فنفخ بها فتطايرت بتلاتها وبدت في قلبها العاري بذور الحقيقة الرائعة؛ بذور الحياة الطاهرة، فمدت غصن البان يدها إلى الراهب كأنها تقول: خذ ما تبقى في قلبي وازرعه حيث شئت. - ما جئت أمازحك.
ثم قال دون أن يقترب منها: تعالي معي. - إلى أين؟ - إلى حيث أشاء. - سيدي القس جبرائيل. - ولا كلمة، هاتي يدك، ومد يده إليها. - لي كلمة واحدة أقولها، ادخل يا مولاي، ادخل بيتي وإن كان لا يليق بك.
وأخذت يده فأدخلته غرفتها وأجلسته على الديوان أمام سريرها، فاعترت الراهب هزة حين شاهد وجهها في نور القنديل، سبحانك اللهم! أتكذب المآثم، أتخطئ الدعارة؟ هذه النضارة وهذا الرونق في وجهها، لقد زادتها السنون جمالا، وليس في عينيها ولا في فمها أثر من آثار الخطيئة، إلا أن نظراتها ولهجتها في بعض الأحايين كانت تزعجه. - أجئت تنقذني مرة ثانية يا مولاي؟ هل تعرف من أنا الآن؟ لما هربت وإياك إلى طبريا كنت بنتا جني عليها فصرت أما؛ أما حزينة، ثم فررت من تلك البلاد ومنك هاربة، فخضت عباب الحياة راغبة طامحة مستهترة، نسيت ولدي ونسيتك إلا في أوقات ال ... نسيتك ونسيت قديم بلائي، قاتلت أهوائي واسترسلت في أهوائي، مددت يدي إلى الثمار المحرمة، الثمار التي اشتهتها نفسي، فقال الناس: إني راقصة بغي، قاتلت من حاول هتك عرضي ممن يكرههم قلبي فغلبوني، لقيت منهم الويل والبلاء، وقال الناس: هذا الترفع كذب وهذا التمنع صاغته حيل النساء! رأوني ساعة استهتاري ولم يروني في ساعات عذابي، رأوني راقصة بغيا، ولم يروا ما في قلبي من الأماني العالية والمطامع الشريفة، فكرهت نفسي الرجال وطردت من قلبي الحب وذكراه، إلا أن زوايا هذا القلب الكسير، في زواياه المظلمة الباردة شيء واحد أعزه وأقدسه وأهتدي به، شيء واحد يشفع بي أمامك وأمام الله، أبتي القس جبرائيل، مولاي، منقذي، لا تنظر إلي غضبا، عبوسا، أخاف هاته النظرات، ترجفني كلماتك، سامحني، ارحمني، ارث لحالي.
خرت غصن البان أمامه جاثية وطفقت تقبل يديه وتنظر إليه تارة خاشعة حزينة وتارة بهيجة غانجة، نفس مريم في قلب غصن البان، قلب غصن البان في نفس مريم، إنما هذه الامرأة التي خرت أمام القس جبرائيل جاثية فأحزنته كلماتها، وأزعجته حركاتها، وعذبته منها تلك النظرات المريبة، وارتعشت جوارحه من قبلاتها الحارة، فأبعدها عنه قائلا: انهضي انهضي، وسيري معي. - لا، لا، إليك عني، دعني في بلائي، في وحدتي، في وحشتي، إن يدك لا تصل إلي لتنقذني ثانية، وإذا حاولت ذلك قد تسقط معي، سر في سبيلك، ودعني في شقائي. - إني لأعرف ما في قلبك وما ليس في قلبك امشي معي. - مستحيل، مستحيل. - امشي قدامي.
وأخذها بيدها فتفلتت منه نافرة حانقة. - البلاء المحيق اليوم بي خير من القساوة التي تمد إلي يدها، الشقاء المكتنفني خير من تبرد كلماتك. - السعادة تناديك وتنتظر قدومك، امشي معي. - ولكن رسول السعادة لا يكون ظالما قاسيا. - مخطئة أنت. - برهانك، برهانك أني مخطئة، أنظرت إلى ما في أعماق قلبي وبششت له، أأريك ما لم أزل أقدسه فلا تحفل به؟ - ومن قال لك ذلك يا مريم؟ إن أوهامك باطلة، انظري إلي، تقدمي مني، أأسألك عن هذه الذخيرة وهي بادية لناظري، عزيزة عندي كريمة مقدسة؟! - وأخذ الذخيرة يقبلها ويقول في نفسه: رحمة الله عليك يا سارة، فلاحت إذ ذاك في وجه غصن البان ابتسامة السرور والرضى وسكتت هنيهة، ثم أخذت يديه بيديها وقالت: لا تقساني، لا تظلمني، لا تعاملني كمن ظفر بالحياة فأذلها، عاملني كمن يحب الحياة وإن أذلته، مولاي القس جبرائيل، أنا رهينة إشارتك، أنا خاتم في بنصرك، ولكني لا أجسر اليوم أن أسألك ما سألتكه مرة، لقد أفسد الخير سذاجتي، فصرت أخشى ما أعلم وما أجهل، أنت تعرف ما أريد، أنت تدرك بغيتي القصوى، فقد حفظتها مقدسة هذه السنوات كلها، وكنت في نعيم الحياة شقية حزينة، كنت أبكي وأنتحب حين تعتريني لذكراه هزة الشوق، ولدي، ولدي. - سيري معي فيكون لك ما تبتغين، السعادة تناديك وتنتظر قدومك. - إلى حيث شئت، إلى حيث تريد، حتى إلى الجحيم . - نحن الآن في الجحيم، أسرعي، أسرعي لنخرج منه. - الآن؟ - الآن، هذه الساعة، هذه الدقيقة. - وبيتي وأمتعتي و... - غدا يجيء من يعتني بذلك، انفضي الآن يدك من كل شيء وسيري معي إلى بيتي، دعي خادمتك نائمة، وخادمك، البسي ما يقيك هواء الليل البارد، اقفلي الباب، هاتي المفتاح. - بارك الله فيك.
نامعلوم صفحہ