وبرأ الناس أيضا مريم، ولكنهم لم يبرئوا بيت مبارك، فكانوا إذا ذكروا الحادثة يقولون: «يا للعار!» حانقين، ولم يقل واحد منهم: «يا حرام!» آسفا.
واضطر يوسف أفندي أن يسافر إلى سوريا؛ هربا من سهام الرأي العام، وتخفيفا لمضض الآلام التي أصابته من هذه الفاجعة، ورغبته بالاجتماع بابنه عارف ليطلعه على ما جرى ويعود به إلى البيت.
أما الست هند فلم تفتأ أن تنشر الأكاذيب عن سلفها القسيس وتشتغل سرا وجهرا في نفيه من الدير، وإن الاهتمام الذي أظهره في هذه الفاجعة لمما يحقق ظنون بعض الناس ويثبت حجة الرهبان عليه. وكذلك كان، فثار الرأي العام عليه وصار إذا مشى في أسواق البلد يشار إليه بالبنان: هذا مخلص مريم وأبوها. وإذا أقام في الدير لا يسمع ما هو أخف من ذلك وقعا على أذنه وقلبه.
وقد حار القسيس في أمر مريم لما خرجت من السجن وحالتها تشير إلى ما هي فيه، فأين يذهب بامرأة حامل؟ إلى من يأخذها وهي اليوم لا تستطيع الخدمة، بل هي في حاجة إلى من يخدمها؟ جاء بها إلى الدير فأنزلها في غرفة هناك ريثما يفكر في أمرها وفي مصيره، فهاجت عليه خواطر الرهبان وتهددوه والفتاة بالطرد.
ولقد طالما قال: الزهد في الأديرة أضحوكة سفيهة؛ خداع وضعف وجبن وخباثة، والنسك في الأديرة تجديف على اسم الله القدوس.
وها قد حان الوقت ليعمل بقوله، فوطن النفس على الرحيل ومريم؛ ليخلصها مما هي فيه، لينقذها من عار يكتنفها، ليكون لها عونا في محنة جرها هو عليها إذ أدخلها خادمة في بيت أخيه، فجاء بها إلى شاطئ البحيرة متنكرا في زي العربان؛ ليظل بعيدا عن الناس غريبا، واستأجر بيتا خارج الحمامات عند مقابر علماء إسرائيل، فأقام وإياها فيه وهو يقول: سأبني قرب البئر صومعتي وسأحرق الحبل والدلو، سأقيم عند الماء وأعف عنها، هذا هو النسك الحقيقي، هذا هو الزهد المقدس.
ومع أنه أقدم على ذا العمل الخطير ثابت القدم، جريء القلب، فلم يشأ أن يطول أوانه، ويذكر القارئ أنه عند وصوله إلى تلك الناحية سافر مع محمود البحري إلى تلحوم لغرض جوهري يختص بمريم، فإن له في سهل الغوير بيتا وبعض أملاك، ولم يشأ أن تقيم الفتاة هناك وهي في حالتها الحاضرة، فبعث أحد أجرائه إلى حيفا بكتاب إلى عارف ابن أخيه يبشره فيه ببراءة مريم ويسأله أن يوافيه حالا إلى البيت في سهل الغوير.
الفصل التاسع
- ولكنه لطيف كريم، يا أمي، وعدني ببيت وبعريس إذا قبلت نصيحته وأصلحت حالي وندمت على خطاياي. - هل هو كاهن نصراني؟ - لا هو رجل غني، له أملاك في جهة تلحوم وعنده أجراء، ويريد أن أقيم هناك معهم فأخدم في بيته ويزوجني بشاب ظريف ابن أحد أجرائه. - ما لك وهذا التلفيق، هو خداع منافق مثل سائر الرجال، كم يدفع أجرتك في الأسبوع؟ - مجيديين. - مجيديين فقط؟ اطلبي منه أربعة مجيديات، يدفعها، وحق الله إذا كان يحبك يدفعها وابقي معه إلى أن يسافر إلى بلاده، ثم عودي إلى شغلك، ولا تغرك تلفيقاته، من يعيشني إذا بعدت عني وأنا الآن مريضة، وافرضي أنني شفيت غدا فلا أحد يلتفت إلي، ولت أيامي، يا بنتي، كبرت وشبت من الويل والشقاء، ألا ترين كيف هجرنا ذاك اللعين أبو هذا الولد، لا عاشت الأولاد، ولا عاش الرجال!
وكان الطفل إذ ذاك نائما فاستفاق وجعل يبكي، فجذبته بعنف إليها ودقت برأسه على صدرها وهي تقول: ارضع ترضع السم، ارضع ترضع البلاء، سأرميك في البحيرة يوما ما وأرتاح منك ومن بذرة أبيك، هاتي الإبريق يا هيلانة، أحس أن في جوفي أتون نار، آه ما أحلى الموت! هنيئا للموتى! - أنت دائما يائسة يا أمي، ويحق لك أن تفرحي اليوم. - نعم يا بنتي، الجنة التي نحن فيها تفرح القلب، اسمعي ألم تقولي لي: إن الامرأة التي مع هذا الرجل حبلى؟ - بلى. - ارجعي إذن إلى بيته، وابقي عنده إلى أن تلد فأخبرك بعدئذ ما تفعلين، واطلبي منه أربعة مجيديات كل أسبوع، أفهمت؟ أواه! أين جمالي يخدمني الآن؟ فإني الآن أعرف كيف أنتفع به، كفاك، كفاك يا بن الستين كلب! قطعت ثديي، هس! لا تبك، لا تبك. الإبريق يا هيلانة! احترق قلبي والله، احترق كبدي. أفهمت ما قلت لك؟ اطلبي منه أربعة مجيديات كل أسبوع، وهبيه البيت والعريس. - وربما كان هو العريس بنفسه، والله يا أمي! هو شلبي وكريم ولطيف وغني، أحبه والله أحبه. - الله يعمي قلبك، حمارة، دابة، ماذا يريد الرجل من بنت الهوى؟ زواجها؟ لم تزالي بسيطة يا هيلانة، يتمتع بك ويتركك مثلما تركني ذاك النذل، الله يبليه بالبرص، الله يبليه بالطاعون، أتعرفين ما كنت أصنع لو كنت اليوم صبية جميلة يا بنتي؟ أعطيني الإبريق! لو كنت اليوم صبية جميلة لبنيت علية على شاطئ البحيرة أكرسها للغرام وللموت فأمتص فيها حياة الرجال وأجعلهم بعد ذلك طعما للأسماك، أواه! روحي إلى شغلك يا بنتي، أعطي وانسي! ولكن لا تنسي أن تطلبي من معلمك أربعة مجيديات.
نامعلوم صفحہ