زعیم ثائر احمد عرابی
الزعيم الثائر أحمد عرابي
اصناف
ولا مراء في أن إسماعيل كان يميز الضباط والرؤساء الشراكسة والترك على الوطنيين في المعاملة، برغم ما بدا منهم من العجز والجهل وعدم الكفاية، مما ظهر أثره جليا في الهزائم التي حاقت بالجيش سنة 1875-1876 في حرب الحبشة. وعلى ما كان لهذه الهزائم من أسوأ الأثر، فإن إسماعيل لم يحاسب أولئك القواد والضباط على ما وقع منهم من الإهمال والتقصير، وقيل إنه اعتزم محاكمة راتب باشا قائد هذه الحملة، ولكنه ما لبث أن رجع عن ذلك ... فقربه إليه وجعله من خاصة بطانته.
وهذا يدلك على شديد ميله إلى تلك الفئة ... فكانت لها الحظوة لديه، ثم لدى الخديو توفيق. ولو ظلت روح المساواة التي بثها سعيد في الجيش سائدة في عهد إسماعيل وتوفيق لما قامت الثورة العرابية؛ لأن عرابي وصحبه لم يثوروا إلا حين طفح الكيل من محاباة أمثال عثمان رفقي للترك والشراكسة واضطهادهم للضباط الوطنيين، فعرابي وصحبه كانوا على حق في المرحلة الأولى من الثورة؛ لأن الطبيعة البشرية مفطورة على كراهية الظلم والاضطهاد. ومن صفات النفس الإنسانية الثورة على المظالم. ولم تكن المظالم التي يشكو منها الضباط الوطنيون مقصورة على حرمانهم حقوقهم في الترقي، بل كانوا كذلك هدفا لأشد ضروب العنت والإرهاق، إذ كان يكفي أن تلصق بأحد منهم تهمة ما، ولو لم تكن صحيحة، ليكون جزاؤه أن تنزع منه درجته أو يقصى عن منصبه، أو ينفى إلى أقصى السودان، وتصبح حياته عرضة للخطر لأوهى الأسباب.
فالثورة العرابية كانت ثورة دفاع عن الحق، ودفاع عن الحياة، وليس من ينكر ما كان عليه معظم الرؤساء الشراكسة والترك والأرناءود من الغلظة والغطرسة، والزهو والخيلاء، والزراية بالوطنيين ... فإن هذه النزعات كانت فاشية فيهم، لا في مصر وحدها، بل في سائر بلاد السلطنة العثمانية القديمة، إذ كان العرب يعانون سوء معاملة الترك لهم واضطهادهم إياهم، وكانت هذه المعاملة من أسباب قيام الفتن والثورات في السلطنة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
ومادمنا في صدد الأسباب المباشرة للثورة، فلا جدال في أن ظهور أحمد عرابي كان في مقدمة هاتيك الأسباب، فهو الذي بث في نفوس الضباط روح التضامن والاتحاد للمطالبة بحقوقهم المهضومة، وتقدم الصفوف لعرض مطالبهم جهارا على ولاة الأمور، وكانت هذه المطالب فاتحة الثورة، فهذه الجرأة كان لها أثر كبير في ظهور الثورة، ولو لم يظهر عرابي، ولم تكن له تلك الشخصية التي اجتذبت إليه صفوف الضباط وبثت فيهم روح التضامن والإقدام، لكان محتملا ألا تظهر الثورة العرابية، أو لظهرت في زمن آخر وفي ظروف وملابسات أخرى غير التي ظهرت فيها.
وهناك سبب من الأسباب المباشرة، يرجع إلى شخصية الخديو توفيق، فقد كان من أخص صفاته التردد والضعف، فلم يعالج الثورة في مهدها بالحزم والشدة، أو بالعدل ورفع المظالم التي شكا منها الضباط، بل كان موقفه منها موقف التردد والتناقض، لا يستقر على رأي واحد ولا على خطة واحدة ... بل كان يقابل حركة الضباط تارة باللين وآونة بالشدة، ثم يجنح إلى التراخي والضعف، ثم إلى الشدة بعد الضعف. ولم يكن صريحا في سياسته ولا في تصرفاته، وكان له عدا ذلك من ظروفه العائلية ما يشجع عوامل التحريض على الثورة، فإن إسماعيل كان لا يفتأ يسعى في العودة إلى الحكم، ولا يرضيه أن يستقر ابنه على العرش.
ومن هنا جاء الظن بأن لإسماعيل ضلعا في مؤامرة الضباط الشراكسة التي أججت نار الخلاف بين الخديو والعرابيين، كما سنذكره في موضعه. وكذلك كان له من الأمير محمد عبد الحليم بن محمد علي منافس قوي في التطلع إلى مسند الخديوية، وكان وجود عبد الحليم في الآستانة - مهبط الفتن والدسائس - واتصاله برجال المابين، عاملا قويا لتهيئة الأفكار لتوقيع خلع توفيق كما خلع أبوه من قبل. هذا إلى أن الأمير عبد الحليم كان بحسب نظام الوراثة القديم أحق بالعرش من توفيق؛ لأنه أكبر أفراد الأسرة الحاكمة سنا.
ولم يتبدل هذا النظام إلا في عهد إسماعيل إذ جعل العرش في ذريته - فرمان 27 مايو سنة 1866 - فكان توفيق أول من أفاد من النظام الجديد، ولم يكن قبل صدور هذا الفرمان يتطلع إلى العرش، ولا كان معترفا له بالزعامة من أمراء آل بيته، وبخاصة الأميرات، إذ كن ينعين على والدته أنها قينة من جواري إسماعيل. فهذا المركز القلق من شأنه أن يحرض على الثورة، أضف إلى ذلك أن أعضاء وزارة رياض باشا كانوا مختلفي الرأي والنزعات في مواجهة الثورة، فكان هذا الموقف وما ينطوي عليه من الاضطراب والتنافس من العوامل التي أعانت على ظهور الثورة ونجاحها.
وثمة أسباب عامة يشترك فيها الشعب بجميع طبقاته، منها أسباب سياسية، وأخرى اقتصادية، وثالثة اجتماعية.
الأسباب السياسية
فالأسباب السياسية ترجع إلى تذمر المصريين عامة من سوء نظام الحكم القائم ورغبتهم في التخلص منه، فقد كان قوام هذا النظام استبداد الحكم واضطهادهم الأهلين.
نامعلوم صفحہ