زعیم ثائر احمد عرابی
الزعيم الثائر أحمد عرابي
اصناف
إلا أنني أعلم كما تعلمون أن مجرد وضع القانون على أصول الحرية وقواعد العدالة لا يكفي في وصولنا إلى الغاية المقصودة من اجتماع حضراتكم، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك خلوص النية من كل واحد منكم في المحافظة على حدود هذا القانون ودقة النظر في الوقوف عندها، بحيث تكون جميع الأعمال والأفكار منحصرة في دوائرها، وقد قال عقلاء السياسيين إن الوصول إلى هذا النوع من الكمال، أعني حصر جزئيات الأعمال وكلياتها في دائرة القانون، إنما ينال بعد العناء وطول التجارب ... لكني لا أعد هذا صعبا عليكم، فإن العناية الإلهية ساعدت سعد البلاد بوقوع الانتخاب على حضراتكم، وأنتم على أكمل درجات العقل والفضيلة، ولا عناء في اتباع القانون إلا على القاصرين، وفي أملي أنكم ستحققون ما يظنه أحباء البلاد فيكم عندما تبتدئون في الأعمال المهمة التي تهيأتم الآن لمباشرتها، بأن تستعملوا صادق النظر للوقوف على ما فيه خير بلادكم، وتوجهوا إلى ذلك ماضي الهمم حتى لا يضيع الزمن الطويل في الحصول على فائدة قليلة، وهذا لا يكون إلا بتخليص الأفكار وتمحيص الطوايا من شوائب النزعات الشخصية، بأن نجعل الأعمال وقفا على المصالح العمومية التي نفعها في الحقيقة عائد عليكم وعلى أبنائكم.
إن التفات النظر إلى الخصوصيات يبعث في القلوب محاسدات ومنافرات تحمل على الخلاف الدائم، نعوذ بالله، وإنكم تعلمون أن الذين رقوا إلى ذروة العز وأوج الشرف لم ينالوا ذلك إلا بإخلاصهم في طلب النفع العام، فاعترف العالم بفضلهم وأجلتهم القلوب فأعلتهم أعلى المنازل، فثبتوا في مكانتهم ما داموا بحلية الإخلاص، وإني أهنئ نفسي بوقوفي بين عقلاء البلاد العارفين بحقوق بلادهم عليهم، العالمين بأن شرفهم معقود بشرف أوطانهم، الموقنين بأنهم لن يكونوا نوابا حقيقيين إلا إذا أقاموا على صدقهم براهين من العمل وحججا من الثبات في خطة الاعتدال، حتى يقنع بها البعيد كما عرفها القريب.
وفي علم حضراتكم أيها السادة أنني عند استلامي رياسة النظار، رفعت إلى جناب خديوينا المعظم تقريرا بينت فيه مبادئ الهيئة الحاضرة، وأظنكم قرأتموه وتأملتم معانيه، وقد تكرم علي جناب الخديوي بقبوله. وإني مؤمل فيكم أن تكونوا عضدا لنا وساعدا قويا على تتميم ما قصدنا، ليستقر أمر النظام وتتوفر لدينا أسباب الثروة والرفاهية، ونحفظ الحقوق التي لنا، ونؤدي الواجبات التي علينا، ونوفي بجميع عهودنا لمن عاهدناه، ونكون بذلك قد أرضينا سلطاننا الأعظم الذي يسره نجاحنا وتقدمنا، وأرضينا جميع الدول المتمدنة التي تحب أن ترانا حائزين لشرفنا، حافظين لحقوقنا قائمين بعهودنا، وآخر ما نتواصى به إلا نجعل للتعصب المشربي دخلا في الأعمال الوطنية التي كلفتكم البلاد أن تقوموا بأدائها، وأن تكون الوطنية الحقة هي الباعث القوي على كل فكر، والغاية القصوى من كل قول وعمل، نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه رفعة أوطاننا وتقدم بلادنا، وأن تتمتع البلاد ببقاء حضرة خديوينا المعظم أيده الله.
ولما انتهى من خطبته قدم للمجلس نسخة الدستور مصدقا عليها من الخديو.
فنهض عبد السلام بك المويلحي، وألقى كلمة شكر للبارودي على إسراعه بالتصديق على الدستور، ورد عليه البارودي باسمه واسم زملائه بأنهم لم يفعلوا إلا الواجب، ثم ألقى سلطان باشا بلسان النواب كلمة شكر أخرى، وانتهت الجلسة إذ كانت الساعة السابعة.
وبعد انفضاض الجلسة توجه النواب إلى السراي الخديوية؛ ليؤدوا للخديو واجب الشكر ... فلما مثلوا بين يديه تلقاهم بالبشر والإيناس، وتقدم سلطان باشا بالنيابة عنهم وقال: «إن حضرات النواب وفدوا إلى هذه الساحة الفيحاء؛ ليقدموا للجناب المعظم شكرهم وامتنانهم على ما أولاهم جنابه الكريم من النعم، وما منحته حضرته العلية لأهل القطر من التفضل والإحسان.» ثم دعا للجناب الخديوي بدوام العز والإقبال وأمن جميع الحاضرين ... فوقع ذلك موقع القبول لدى الخديو وشكر النواب على صنعهم الجميل، ثم جلسوا ودارت بينهم أحاديث ودية.
وأعرب لهم الخديو عن ميله الغريزي لمحبة الإصلاح، وحسن مساعيه لمنفعة رعيته ، وأنه لا يقصد بهم إلا الخير، ولا يريد لهم غير خطة التقدم والعمران، ثم نصح لهم أن يسلكوا جادة الخير، ويسيروا في سبيل المنافع العمومية بقلوب ثابتة ونيات صادقة، متخذين الحزم مرشدا والسكون والتأني دليلا، ووعدهم بأنه مستعد لمساعدتهم في كل ما أرادوه من الأعمال النافعة للبلاد ... فخرجوا من لدنه شاكرين، ثم قصدوا إلى ديوان الداخلية، وكرروا الشكر لرئيس مجلس الوزراء فقابلهم بالترحاب، وكان عنده أثناء المقابلة وزراء المالية والحقانية والخارجية والأشغال ... فقدم لهم النواب شكرهم وثناءهم وأنابوا عنهم سلطان باشا في تقديم الشكر عنهم للوزراء، ثم انصرفوا فرحين مسرورين.
وأخذ مجلس النواب يضطلع بمهمته في كفاية وجهد يستحقان التقدير والثناء، ومع أنه لم يجتمع إلا زمنا وجيزا لم يتجاوز ثلاثة أشهر، فقد قام بطائفة صالحة من الأعمال، فقد قرر الدستور ... وهذا من أهم أعماله، ووضع النظام الداخلي للمجلس، وتباحث في مسائل هامة تتصل بتقدم البلاد ورفاهيتها كعلاج غلاء الأسعار وتعميم التعليم الابتدائي، ومنع تضخم المعاشات، ونظر في اقتراح قدمه نائب إسنا بإنشاء خزان أسوان وأقره المجلس، وهذا يدلك على أن نواب سنة 1882 لم يفتهم التفكير في أعظم مشروعات الري التي تمت في العهد الحديث. (3) ظهور الفتن
كانت مدة انعقاد المجلس فترة تقدم ونشاط، تمتعت مصر خلالها بالهدوء والسكينة في ظل النظام الدستوري، ولم تكد تنتهي الدورة النيابية حتى اكفهر جو الصفاء الذي ساد مصر من قبل، وأخذت الأحداث تتوالى على البلاد ... فكأن انفضاض المجلس كان نذيرا بالانتكاس والرجعية ... ولقد كان محتملا لو بقي المجلس منعقدا أن يعالج هذه الأحداث بالحكمة والروية، ولكن شاءت الأقدار والملابسات أن يضطرب الجو بعد انتهاء الدورة البرلمانية، فاحتملت وزارة البارودي وحدها تبعة معالجة الموقف، وواجهت مشكلات عدة داخلية وخارجية، وتفاقم الخلاف بينها وبين الخديو حتى أدى إلى استقالتها.
وأول الأحداث الداخلية التي انتابت البلاد بعد انفضاض مجلس النواب، هو مؤامرة لضباط الشراكسة ... وهي حادثة خطيرة كان لها تأثير كبير في تطور الثورة العرابية بل في مصير البلاد قاطبة ... وخلاصتها أنه في شهر أبريل سنة 1882 علم عرابي من طلبة باشا عصمت، قائد اللواء الأول أن بعض الضباط الشراكسة يأتمرون به، ويدبرون الأمر لقتله وقتل رؤساء الضباط الوطنيين والوزراء، وأن بعض من صدر إليهم الأمر منهم بالسفر إلى السودان كانوا قوام هذه المؤامرة، فعرض عرابي الأمر على الوزراء ثم على الخديو، فتقرر تحقيق هذه المؤامرة في مجلس حربي، وتألف هذا المجلس برياسة الفريق راشد باشا حسني.
نامعلوم صفحہ