دعا ويلز إلى تكوين مثل هذه الجماعة، التي كثيرا ما أطلق عليها «المؤامرة المفتوحة»، في كثير من أعماله، وأيد الكثير من صور الإصلاح، بداية من تحديد النسل إلى إنشاء موسوعة عالمية؛ لتكون خطوات صغيرة في الاتجاه الصحيح. كان واضحا إصابة ويلز بالإحباط بسبب عدم تبني أفكاره على نحو واسع، وعمل بجدية لاستمالة الناس لأفكاره ولتطوير التعليم، لا سيما التعليم العلمي، على أمل ظهور مجتمع أفضل تعليميا يكون أكثر تقبلا لمقترحاته. إلا أن ويلز معروف أكثر بأعمال الخيال العلمي غير اليوتوبية التي قدمها، وكذلك ديستوبياته وبعض رواياته الهزلية، لا بيوتوبياته وكتاباته السياسية. (7) صعود الديستوبيا
مع نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور وباء الأنفلونزا، وحدوث الكساد العظيم، ونشوب الحرب الكورية، والحرب في فيتنام، وغيرها من أحداث القرن العشرين؛ أصبحت الديستوبيا هي الشكل الغالب من الأدب اليوتوبي. ومع أن كلمة «ديستوبيا» استخدمت أول مرة في منتصف القرن الثامن عشر، واستخدمها الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل (1806-1873) في خطاب أمام البرلمان في عام 1868، لم يشع الشكل الأدبي واستخدام الكلمة لوصفه حتى وقت لاحق في القرن العشرين.
في عام 1883، صك فرانسيس جالتون (1822-1911) مصطلح «تحسين النسل» للإشارة إلى القدرة على إنتاج نسل أفضل، مع التركيز أكثر على البشر لا الحيوانات. نشأت حركة حملت فكرة تحسين الجنس البشري من خلال الانتخاب الوراثي من أجل اختيار سمات معينة (تحسين النسل الإيجابي)، أو الانتخاب الوراثي من أجل تجنب سمات محددة (تحسين النسل السلبي). كتب كثير من اليوتوبيات، بما فيها اثنتان لم تنشرا لجالتون («لا أعرف أين» و«آل دونوهيو من دانو فير»)، تعبر عن تلك الحركة. وكثير من اليوتوبيات، بما فيها عملا جالتون، التي كانت تؤمن بأن الانتخاب الوراثي وحده لن يكفي لتحقيق الغاية المنشودة؛ كانت معنية بالظروف الاجتماعية التي يولد الأطفال فيها، وكيفية تربيتهم بالقدر نفسه الذي كانت به معنية بالسمات البدنية والأخلاقية للآباء. أما الأعمال الأخرى، فكان شاغلها الأساسي الانتخاب الوراثي، مع التركيز على تنحية السمات غير المرغوبة؛ بمنع من ظهرت عليهم السمات من إنجاب أطفال، أو بإلزام حاملي السمات المرغوبة بالزواج وإنجاب أطفال. نتج عن كلا النهجين ديستوبيات؛ إما بسبب الخلافات على السمات المختارة، أو القلق من احتمال إساءة استخدام إمكانية انتقاء السمات.
شاعت دعوات الانتخاب الوراثي على أساس عرقي وعنصري، وطبقت حيث وجدت القدرة على القيام بذلك. كان أكثر البرامج شهرة هو برنامج ألمانيا تحت حكم النازيين، عندما لم يتم منع حاملي السمات المنشود إقصاؤها من الإنجاب وحسب، بل قتلهم أيضا. إلا أن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن ألمانيا طبقت أيضا تحسين النسل الإيجابي؛ إذ خططت لإنتاج أشخاص من حاملي الصفات المرغوبة. نشرت يوتوبيات في ألمانيا وغيرها من البلاد وصورت المجتمع الأفضل المزمع تكوينه باستخدام هذه البرامج.
نشر عدد من اليوتوبيات النازية، مثل عمل إرنست بيرجمان «ألمانيا الأرض الثقافية للإنسان الجديد» (1933)، لكن كان هناك أيضا عدد ضخم من الديستوبيات المناهضة لألمانيا وللنازية، من بين أهمها تأثيرا «ليلة الصليب المعقوف» (1937)، للكاتبة كاثرين بوردكين (1896-1963)، التي كانت تكتب تحت اسم موراي قسطنطين.
الفترة نفسها التي أفرزت الكثير من الديستوبيات المناهضة لألمانيا والمناهضة للاتحاد السوفييتي، شهدت أيضا نشر ثلاثة أعمال بارزة؛ وهي: رواية «نحن»، للكاتب الروسي يفجيني زامياتين (1884-1937)، المكتوبة بالروسية في عام 1920، لكنها نشرت بالإنجليزية لأول مرة في عام 1924، ورواية «عالم جديد رائع» (1932)، للكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي (1894-1963)، ورواية الكاتب الإنجليزي جورج أورويل (1903-1950) - الذي ولد حاملا اسم إريك بلير - «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون» (1949)، والتي أصر أورويل على كتابة عنوانها بالحروف لا بالأرقام. ومع أن الأعمال الثلاثة كانت تتحدث عن إساءة استخدام السلطة، فإن كلا منها عمل معقد، متعدد الجوانب، ذو شواغل متنوعة، وجميعها يهاجم الرأسمالية بالقدر الذي يهاجم به الشيوعية. وهي تصور المحاولات الفاشلة جزئيا للتحكم في قوة الرغبة الجنسية؛ فرواية «نحن» تسمح بالعلاقات الجنسية على نحو المقصود منه الوفاء بالاحتياجات الفردية، ورواية «عالم جديد رائع» تبيح العلاقات الجنسية دون قيود، أما رواية «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون» فتفرض قيودا صارمة على الجنس. وتتضمن الأعمال الثلاثة الإشارة إلى أن تلك المسألة قد لا يتمكن حتى أي نظام شمولي من التحكم بها.
كتب هكسلي في رواية «إعادة زيارة عالم جديد رائع» (1958) أنه ببساطة تخيل أشياء مستقبلية كان قد لاحظها في وقت كتابة الرواية، وأنها أثارت قلقه، وأنه بعد مضي 25 عاما بدا أن المستقبل الذي صوره في رواية «عالم جديد رائع» كان يقترب أسرع كثيرا مما توقع في ثلاثينيات القرن العشرين، كما كتب أنه لو قدر له إعادة كتابة «عالم جديد رائع»، لكان سيقدم بديلا أكثر إيجابية. وقد قام بذلك بالفعل في اليوتوبيا التي كتبها تحت عنوان «الجزيرة» (1962) التي تصور مجتمعا صالحا تتحول فيه الإباحية الجنسية إلى حرية جنسية، مع التأكيد على فكرة الحب، مع الاستعاضة عن عقار «سوما» المستخدم في رواية «عالم جديد رائع» للهروب من المشاكل، ب «دواء موكشا» (الشبيه بنبات البيوط المستخرج منه مادة الميسكالين المهلوسة، أو عقار الهلوسة) المفضي إلى التنوير، كما تحولت السلبيات الأخرى في رواية «عالم جديد رائع» إلى إيجابيات، على الأقل جزئيا من خلال قوة الدين. لكن في النهاية يدمر العالم الخارجي اليوتوبيا؛ لأنها تمتلك نفطا.
أصبح تصور هكسلي للاتجاهات المستقبلية التي رآها في زمانه أو استقراؤه لها المعيار للديستوبيات. ومع أن الديستوبيات تختلف عادة عن اليوتوبيات في عدم وصفها من قبل زائر خارجي، بل يتم وصفها من الداخل، فهي مرتبطة بوضوح بالحاضر الذي كتبت فيه. وهكذا، فإنها تقدم رسالة إيجابية على نحو واضح إلى جانب رسالتها السلبية. فهي تقول، كما كان يقول إتش جي ويلز على الدوام، إن هذا ما سيحدث إن لم نتخذ الإجراءات اللازمة، لكن إن اتخذنا الإجراءات اللازمة، يمكننا تجنب هذا المستقبل. توقف أغلب كاتبي الديستوبيات عند هذه النقطة، وهي تقديم جرس إنذار، لكن ويلز بذل مجهودا أكبر في توضيح ما رأى أنه من الضروري عمله وكيفية القيام به.
رغم أن الديستوبيا أصبحت الشكل الأدبي المهيمن في القرن العشرين، فإنها لم تزحزح اليوتوبيا من موقعها، وفي الوقت الذي كانت تنشر فيه ديستوبيات النصف الأول من القرن العشرين العظيمة، كانت هناك يوتوبيات كثيرة منشورة، وازدهرت الحركات اليوتوبية لا سيما إبان كساد ثلاثينيات القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، جمع الروائي أبتون سنكلير (1878-1968) بين الاثنين فكتب عددا من اليوتوبيات، مثل «نحن، شعب أمريكا وكيف أنهينا الفقر » (1935)، وترشح لمنصب حاكم كاليفورنيا ببرنامج اسمه «إنهاء الفقر في كاليفورنيا». كما أن حركة التكنوقراط التي اقترحت إحلال المهندسين والعلماء محل الساسة تمخض عنها عدد من اليوتوبيات، لا سيما «الحياة في ظل تكنوقراط» (1933)، لصاحبها هارولد لوب (1891-1974). نشأت حركات مشابهة أخرى في أغلب البلدان التي كانت تواجهها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بذلك الوقت. ومع تنامي الخوف من إمكانية نشوب حرب أكثر وأكثر، هيمنت الديستوبيا على المشهد حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وفي بريطانيا، إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة، تنبأت أعمال مثل مسرحية «نزلوا مدينة» (1944)، للكاتب جيه بي بريستلي (1894-1984)، و«مغامرات الجندي الشاب بحثا عن العالم الأفضل» (1943)، لسي إي إم جود (1891-1953)، بالمجتمع الأفضل الذي يمكن خلقه بعد تحقيق النصر. وبعد فوز حزب العمال بانتخابات عام 1945، هاجمت كتب مثل «ما رآه فارر» (1946)، لجيمس هانلي (1901-1985)، و«دولة الممتنعين عن الشراب» (1947)، لسومرست دي تشير (1911-1995)، سياسات حزب العمال. (8) حقبة «الستينيات»
نامعلوم صفحہ