واحد من أهل الكهف‏

الست الطاهرة‏

ابن السلطان‏

التابوت‏

يونس في بطن الحوت‏

البيت‏

الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1‏

سيرة كلب يبحث عن إنسان1‏

القط‏

مولانا السلطان‏

أسوار المدينة‏

قيصر‏

الراهب‏

بكاء‏

واحد من أهل الكهف‏

الست الطاهرة‏

ابن السلطان‏

التابوت‏

يونس في بطن الحوت‏

البيت‏

الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1‏

سيرة كلب يبحث عن إنسان1‏

القط‏

مولانا السلطان‏

أسوار المدينة‏

قيصر‏

الراهب‏

بكاء‏

يونس في بطن الحوت

يونس في بطن الحوت

تأليف

عبد الغفار مكاوي

واحد من أهل الكهف

كان ينحدر من شارع الموسكي في طريقه إلى ميدان العتبة، وكان اليوم من أيام يوليو القائظة؛ الحر يكتم الأنفاس، والجو ملبد بالغبار، ورائحة العرق واللهب والزحام تثقل الصدور، وضجيج العربات والناس والباعة تحث الأرجل على الفرار من هذا الجحيم. وكان يسرع إلى الرصيف بحثا عن الظل حين سمع صوتا ينادي: صابر. لم يلتفت في أول الأمر؛ فلم يكن يدور في وهمه أن يعرف أحد اسمه في مثل هذه المنطقة المزدحمة من المدينة، وحتى لو عرفه أحد فلم يكن يتصور أن ينتبه إلى وجوده بينما الناس جميعا مشغولون بالفرار إلى بيوتهم ومسرعون كالوحوش الضالة إلى مكان يحتمون فيه من الغضب الجهنمي الذي أعلنته السماء على الأرض، ولكن الصوت عاد ينادي في إلحاح: صابر ... صابر محمد مرزوق. ورأى عربة فخمة سوداء تميل إلى جانب الشارع حتى تحاذيه، وذراعا بضة تخرج من نافذتها وتشير إليه. توقف كالمأخوذ وفتح فمه يريد أن يعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود، ولكن دهشته زادت حين رأى وجها نسائيا يفتح له الباب، ويصيح به في نبرة قاطعة: اركب. ولم يتمالك نفسه من إطلاق صيحة جعلت بعض المارة يتوقفون ويلتفتون نحوه في اشمئزاز وحب استطلاع: بريسكا! وجذبته اليد البضة إلى داخل العربة قبل أن يتمكن من الإفاقة من دهشته، فألقى بجسده على المقعد الأمامي والصوت الحاسم ذو البحة التي يعرفها يقول، كأنه يصدر أمرا عسكريا: «أغلق الباب؛ ليس عندنا وقت، على الله لا نكون أخذنا مخالفة.» وأسرعت العربة تنهب الأرض التي بدت كأنها لوح من الفحم تمده الشمس في كل لحظة بمزيد من النار فيئن ويتلوى ويزفر ويدخن.

لم يكد ينتبه إلى نفسه وهو ما يزال بين مصدق ومكذب لوجوده في داخل العربة، حتى تذكر أنه لم يسلم عليها؛ على بريسكا القديمة العزيزة التي تجلس الآن إلى جانبه ويداها على عجلة القيادة. أراح ظهره المتعب إلى المسند المريح والتقط نفسا عميقا ثم مد يده في خجل: نسيت أن أصافحك. فأحس بيد تفتش عن يده ولا تكاد تلمسها حتى تفلت بسرعة إلى عجلة القيادة، وصوت رقيق يقول معاتبا في شبه سخرية: هل نسيت أن الكلام مع السائق ممنوع؟ ابتسم، رفع عينيه يتملى من الوجه الذي لم يكن قد وجد الفرصة حتى الآن ليشبع منه؛ كان هو نفس الوجه الأبيض المستدير، الذي طالما تفرس في تقاطيعه السمحة المنسقة، وأنفه الدقيق الطويل كأنف نفرتيتي، وشفتيه الضيقتين المزمومتين اللتين طالما بذل من المحاولات ليستخرج منهما كنوزهما الشحيحة، والعينين الواسعتين الشديدتي السواد، المندهشتين دائما لسبب وبغير سبب، يظلهما حاجبان ثقيلان طالما قال عنهما إنهما حارسان عنيدان، كل واحد منهما عبد أسود ممدد فوقهما يذود المتطفلين العطاش عن البئر العميقة، وابتسم لذكرياته التي بدت له طائشة وطفلية وسخيفة. واختلس نظرة أخرى إلى الوجه المحبوب ليرى إن كان قد تغير فيه شيء. كان الشعر الفاحم قد صفف بطريقة لم يسترح إليها جعلته يحن إلى الخصلة الطويلة التي كانت تتدلى منه ذات يوم وتهتز مع هزة الرأس في حرية وبراءة وطيش. وكانت هناك صرامة لم يألفها تكاد تحفر تجعيدة على الجبهة العريضة المتكبرة وتكسو الوجه كله بمسحة من الجد والتسرع والعزيمة التي لم يألفها فيها. وضحك فالتفتت إليه التفاتة سريعة، لا عن اهتمام حقيقي، بل ربما لتثبت له أنها لم تنس وجوده إلى جوارها أو لتخفف قليلا من جو المقابلة الذي خلا حتى الآن من المجاملة. وضحك مرة أخرى، وهو يقول لنفسه: وماذا يهمني؟ أليست هي بريسكا العزيزة نفسها؟ قبل أن يتجه نحوها بصوت يحاول ألا ينفض عنه ضباب الحلم: من كان يتصور أننا سنتلاقى؟

قالت بغير أن تبتسم أو تلتفت إليه: وفي هذا الحر!

فاستطرد كأنه يحاول أن ينتزع نفسه من الضباب فلا يستطيع: وبعد اثني عشر عاما!

فقالت في فتور لم يلاحظه: ألم تخطئ في العدد؟

فأجاب مؤكدا دون أن يفطن إلى الاشمئزاز الذي بدا في حركة شفتيها الممتعضتين: بالعكس. أستطيع أن أعدها باليوم، بل بالساعة إذا أردت. إنها اثنا عشر عاما وشهران و...

قالت مقاطعة وعيناها لا تزالان تتابعان الطريق الذي أصبح يسير الآن لدهشته محاذيا للنيل: تقصد أننا عجزنا إلى هذا الحد؟ فأجاب في خجل من اكتشف غلطته بعد فوات الأوان، وفي صوت متحمس يكاد يسترضيها: بالعكس، أنت صغرت عن سنك (أراد أن يطري جمالها الرائع، ولكنه خاف أن يتحول إلى خطيب). أما أنا فقد زدت عن سني الذي تعرفينه.

سألته كأنها تسامحه: أعرفه؟

فود لو يستطيع أن يهزها من كتفها ليذكرها، وهو يقول في ضحكة أزعجه رنينها الأجوف: هل نسيت أن عمري ثلاثمائة عام؟! والآن زدت عليها اثني عشر!

ضحكت ضحكة خيل إليه أنها صادرة من أعماق قلبها، وأسعده أنه استطاع أن ينتزع منها هذه الضحكة الصافية بعد هذه السنين الطويلة وهو على حاله المتواضع الذي كاد في غمرة حماسه أن ينساه، وساعده على أن يعود إلى ذكرياته انهماكها في قيادة العربة. كان ذلك حين تعرف عليها لأول مرة في المدرسة الثانوية في طنطا. كان يجلس في الفناء كعادته بعد الظهيرة يذاكر دوره في مسرحية أهل الكهف، ويجرب الإلقاء بصوته الجهوري حين سمع صوت الأستاذ حامد ينادي عليه في لهفة وفرح: ميشلينيا، يا ولد يا ميشلينيا. وأسرع يجري نحو مصدر الصوت وهو يكاد يكذب عينيه. كان الأستاذ حامد يقف بقامته النحيلة، ونظارته السميكة تعكس أشعة الشمس الغاربة، وشعره المنفوش يكاد يغطي أذنيه، وذراعه الطويلة الضامرة العروق تشير إليه، وكانت هي تقف معه، صغيرة وعبيطة في سن التلاميذ، تلبس بلوزة حريرية بيضاء وجونلة رمادية مخططة وإلى جانبها رجل ضخم في ملابس عسكرية أدرك لأول نظرة أنه أبوها، قدمه الأستاذ حامد مدرس التاريخ والمشرف على فريق التمثيل إليهما، وهو يربت على رأسه، ويقول: حضرته الأستاذ ميشلينيا. ثم وهو يسلم عليهما في خجل وبغير أن يرفع عينيه إلى وجهها: خلاص العقدة انحلت يا سيدي، ووجدنا بريسكا، سعادة البيك الحكمدار من مشجعي فن التمثيل، كان يعارض في أول الأمر ولكنني استطعت أن أقنعه، إن شاء الله تكون حفلة ناجحة ونكسب الكأس، لكن المهم كل واحد يحفظ دوره عن ظهر قلب؛ اللجلجة والتهتهة ممنوعة أمامي على المسرح. لم يستطع يومها أن يراها عن قرب؛ فقد تصبب عرقا وكاد يغرق في هدومه، واستأذن منصرفا وصوت الحكمدار يدوي في أذنيه: شدوا حيلكم، بس إياكم أن تأخذوا الحكاية جد.

وتتابعت المقابلات من ذلك اليوم. في كل يوم بعد الظهر يبدءون البروفة ولا ينتهون منها قبل غروب الشمس. هل يستطيع أن يذكر في حياته أسعد من تلك الأيام؟ ألم يكن يجري إلى المدرسة كالعصفور، بغير غذاء في معظم الأحيان وبسندوتش تدسه أمه في جيبه على الرغم منه حتى لا يموت من الجوع، ليكون أول من يرى سامية وهي تنزل من العربة البوكس التي كانت توصلها إلى باب المدرسة؟ ألم يكن ينتظرها على الباب ويذهب إلى لقائها وكأنه رآها صدفة ويتحاشى عيني الشاويش مجاهد الغاضبتين وهو يصافحها ويصحبها إلى الردهة الواسعة التي أقاما فيها المسرح؟ ألم يكثر من أكل سكر البنات لكي يجلو صوته فيرن على المسرح كأنه يوسف وهبي أو جورج أبيض؛ ليقول في صوت يتعمد أن يكون مؤثرا ليصل إلى قلبها برغم أنف الشاويش مجاهد الذي يجلس في الصالة على كرسي يحضره له ويكشر في وجهه كلما سمعه يمد رقبته ويلوح بذراعيه ويجري نحو سامية في لهفة لا تخفى على الأصم: ها أنت أخيرا يا بريسكا! وتقف هي - كما يقتضي الدور وتعليمات الأستاذ حامد الصارمة - مذعورة في بهو الأعمدة، تتلفت وراءها خائفة صامتة كالتمثال وهو يسألها هي دون غيرها: عجبا! أهذا استقبالك لي؟! أما كنت ولاريب تتوقعين رؤيتي الساعة؟ بل ربما كنت لا تحبينها. ويزداد ذهولها وشحوب وجهها الحلو الصغير كما تزداد تكشيرتها ودهشتها من جرأته وهو ينطلق كالراديو: لا بأس، بالرغم من هذا لا أكتمك أن مرآك في هذه اللحظة قد صيرني

وهل ينسى أنها كانت تتلجلج وتنسى دورها الطويل خلال الفصلين الطويلين، وأنه كان يحفظه بدلا منها ويلقنه لها كلمة كلمة لكي يحميها من تشنجات الأستاذ حامد العصبية ومن شد شعره وصراخه الذي لا ينقطع: يا ناس، احفظوا دوركم، حرام عليكم، الفن تعب، تضحية، استشهاد، هل تريدون أن يأكل الناس وجهي في المديرية كلها؟ هل ينسى أن عبد العزيز سيد أحمد ومحمود الحلواني كانا ينافسانه على دوره ولا يكتمان غيظهما منه؟ ألم يقل له عبد العزيز يوما بعد انتهاء البروفة: ولد يا صابر، والنبي تأخذ أنت يمليخا؛ يا شيخ أنا زهقت منه ومن بؤسه، رجل غلبان لا له في الحب ولا في الستات، يعنى مهما يكن، راع لا طلع ولا نزل. بس شاطر يصرخ ويقطع قلبي: إلى الكهف، إلى الكهف، إنا أشقياء. أشقياء. هذا العالم ليس عالمنا. خذه أنت يا صابر. ومعه قطمير فوق البيعة. ألم يحسده محمود الحلواني أيضا وإن لم يصارحه بكلمة واحدة؟

لقد كان يتابعهما بعينيه الصامتتين في كآبة لا تخفى عليه وإن حاول أن يداريها بصمته وعدم اكتراثه. كان يقول له وهو يركز عينيه على وجهها الصغير وقدميها النحيلتين: حلال عليك يا عم بريسكا المفعوصة، الحمد لله أنا مرنوش، فإذا نظر إليه نظرته التي تقول: اطلع منهم، قال له في استخفاف: ومتزوج وعندي عيال، الواحد منهم عمره ثلاثمائة سنة، المهم ربك يختمها على خير. كانوا جميعا يغارون منه ويتمنون أن يقفوا وقفته أمامها، وأن يكلموها بكلام لم يقولوه هم ولكنه يصدر عن قلوبهم الوحيدة الخاوية، وأن يصرخ الواحد منهم فيها أمام المدرسة وأمام المتفرجين وأبيها الحكمدار والحكومة كلها: بريسكا، لا تتركيني، لا تتركيني، وإلا سقطت في الجحيم. صحيح أنهم لم يروه ينفرد معها؛ فالشاويش مجاهد رابض في الصالة، ووجهه أسود من الليل، وعيناه تطلقان شرارا، ولم يشكوا لحظة في أنه يمكن أن يتجرأ ويلمس شعرة منها. كما أنهم كانوا يلاحظون كيف تعامله كما تعاملهم جميعا في أدب وبرود وتعال وكأنها فعلا الأميرة بنت الملك دقيانوس، وهم مجرد مشعوذين مساكين معفرين بتراب الزمن والكهف والنسيان. ولكنها الغيرة التي كانت تأكل قلوبهم وتسعد قلبه، وتجعله يبدو أمام نفسه منتصرا من غير أن يدخل في معركة.

ما كان أجمل هذه الأيام! إنه لا ينسى ذلك اليوم الذي تأخرت فيه عربة البوكس عن الظهور بعد البروفة. انصرف زملاؤه وتركوه يقف إلى جوارها عند سور المدرسة. ربما لم يخالجهم الشك في أن البوكس لا يلبث أن يحضر، وفيه مجاهد بوجهه الذي يقطع الخميرة ويجلب النحس، ثم إن عم حسان بواب المدرسة العجوز كان يقف معهما ويهز رأسه أسفا على شبان هذه الأيام وعلى التمثيل والكلام الفارغ الذي يضيعون وقتهم فيه، وعندما طال انتظارهما أحضر لهما كرسيين، ومضى الوقت وهما يترقبان العربة في كل لحظة، كان يتكلم طول الوقت معها أو مع عم حسان، وإن كان بالطبع يقصدها هي؛ ليضيع الوقت، عن صعوبة التمثيل، عن المجد الذي ينتظر الممثل في حياته والبؤس الذي ينتظره في موته، عن عائلاتهم التي تعيش كالمواشي ولا تفهم شيئا في الفن، ومع ذلك تجاهر باحتقاره. وعندما هتفت زائغة العينين مصفرة الوجه: يا خبر! الليل دخل! أخذته الشهامة، وعرض عليها أن يوصلها. وعندما أبدت معارضتها في أول الأمر وتلفتت إلى عم حسان كأنها تستنجد به - وهو ولا هو هنا - قال لها في صوت تعلم من كثرة الإلقاء على المسرح كيف يحافظ على ثباته: المسافة قريبة. ثم إنني لن آكلك! كانت السماء صافية في ذلك المساء كما لم يرها من قبل، فلم يكن يهتم في يوم من الأيام بأن يلاحظ إن كانت صافية أو غير صافية. وكان القمر بدرا كاملا، يمشي معهما كأنه طاقة فتحت عليه من ليلة القدر، وديعا، طيبا، مبتسما كأنه أمير صغير يسبح في قارب فضي ويراقب رعيته من النجوم التي تحرسه من حوله. قال لها وصوته يرتجف: ماذا تنوين أن تفعلي في المستقبل يا بريسكا؟ قالت وهي تراعي المسافة التي تفصل بينهما: أبي يريد أن أدخل الجامعة. فقال وكأنه يخاطبها من فوق خشبة المسرح: هذه إرادة أبيك، وأنت؟ فقالت في تهور وقد شجعتها نبرته القوية: سأمثل.

فسأل في توسل: إذا قمت مرة بدور بريسكا، فهل تتذكرين ميشلينيا؟ قالت في غباء خيب أمله: لم لا؟ وإن كنت لا أفكر في التمثيل على المسرح.

قال مفزوعا: لن تمثلي على المسرح، أين إذن؟

فقالت ضاحكة من سذاجته في استهتار روعه: في السينما طبعا.

قطب وجهه، وسار صامتا إلى جانبها لا يجد كلمة يقولها، كان يريد أن يستطرد في الحديث عن روعة التمثيل وعظمته، عن مجده وتعاسته، عن عذابه ولذته، فيجد طريقا للحديث عما يحسه نحوها. ولم لا يفعل ويزيح الحجر الثقيل عن قلبه، ويقول لها إنه أحبها من أول يوم وقف فيه أمامها، وقال لها في صوت جمع فيه كل لهفته وشوقه وسخطه وتحديه لزملائه وللأستاذ حامد ولأبيها وللمدينة بأسرها: بريسكا العزيزة، إني أترقبك منذ وقت طويل. ولكنه لم يفعل! وشعر بيأس يخنقه، أهذا هو آخر التعب والتفكير والحفظ والتمثيل؟ أهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها ويعمل لها ويرتب الكلمات المحفوظة لاستقبالها؟ وتلاطمت الأفكار في رأسه كالأمواج العكرة الغاضبة. وتمخض الصراع في نفسه أخيرا عن حركة من يده، خيل إليه أنها ستغير تاريخه إلى الأبد. مد يده فلمس يدها. لم تبد معارضة. رفعها إلى فمه وقبلها، فسحبتها كأنما لسعتها شظية، وقالت في استهتار أغاظه حتى تمنى لو يستطيع أن يصفعها: ألا تخشى أن يضعك أبي في التخشيبة؟! سحب يده إلى جانبه، ومضى صامتا مطرق الرأس مفجوعا، ولم يطل صمته فقد رأى نور كشاف يلمع من بعيد، وما هي إلا لحظات حتى كان البوكس يقف أمامهما وعم مجاهد - كما كانت سامية تسميه - يخرج منها كعزرائيل ويفتح لها الباب فتدخل، وهو يقول لها: لا مؤاخذة يا ست هانم. البيه كان مع النيابة في جناية قتل. وتركاه واقفا في مكانه دون أن يقول أحدهما كلمة أو يلتفت إلى وجوده.

وقفت العربة فأيقظته من حلمه، وجاء صوت سامية الضاحك: وصلنا يا يمليخا، تفضل معي.

وأغضبه أن تناديه بيمليخا مع أنه لم يكن يكره شيئا كما كان يكره ذلك الدور، الذي كان يقوم به عبد العزيز. وأين يأس يمليخا وانهزامه ونحول صوته وجسمه من حيويته وحماسه، بل تهوره وعذابه؟ قال وهو يحاول أن يفتح الباب فتسارع بمساعدته: تريدين ميشلينيا، هل نسيت أيضا أنني ميشلينيا؟ واندفعت تصعد السلم وهي تشير إليه ضاحكة: وهل عندي وقت لأتذكر كل شيء، أسرع. أسرع؛ أمامي نصف ساعة فقط أغير فيها هدومي وأذهب للاستوديو.

انطلقت تجري على السلم الرخامي الجميل وهو في إثرها، أسخطته إجابتها التي كان يتمنى أن تكون أكثر احتشاما، كما أغضبه أنها لم تعطه الفرصة ليتفرج على العمارة الفخمة من الخارج، ود لو يسألها عن الحي الذي تسكن فيه، ولكنه أشفق على نفسه من سخريتها، وفتحت باب الشقة امرأة عجوز، صغيرة الوجه، وتعجب لضيق عينها وتكشيرة حاجبها التي بدا له أنها لا تتناسب مع الطرحة البيضاء الوقور التي كانت تضعها على رأسها. قالت سامية دون أن تحييها: اعملي شاي بسرعة يا أم محمد؛ عندي صداع، لا تنسي الأسبرين على المكتب، ثم التفتت بسرعة لصابر الذي وقف في الصالة مذهولا يتأمل قطع الأثاث الفخمة، ويتعجب من تكويناتها الحديثة الجريئة ويحدق في اللوحات والمصابيح التي تطلع كأوراق الشجر المضيئة من كل الجدران، وقالت دون أن يبدو عليها الاهتمام أو الاستغراب لذهوله: واعملي للبيه شاي أيضا، أو تحب الكوكاكولا يا يمليخا؟ انتزع نفسه من تأملاته، وقال غاضبا: قلت لك ميشلينيا، ثم في خجل من صياحه في بيت غريب عليه وهو ينظر في تودد إلى العجوز: أشرب شاي مع الهانم. قالت أم محمد وهي تنظر إليه نظرة ودودة دون أن يبدو عليها أنها اهتمت بالإصغاء إليه: «حسني بك منتظرك من ساعة، قاعد في الصالون.» جرت سامية كالفراشة، وفتحت بابا وهي تهتف: صحيح؟ هاللوا! تعال يا حسني؛ ليس عندي وقت للسلام والكلام، عارفة كل شيء (وهنا ظهر على باب الصالون رجل يقترب من الأربعين أذهل صابرا بياض جلده الشديد وصغر وجه ودقة شاربه المرسوم بعناية فوق شفة غليظة داكنة لا تتناسب مع رشاقة الوجه واتساع العينين اتساعا شديدا).

نسيت أعرفكم ببعض، حضرته الأستاذ حسني، مخرج فيلمي الجديد، مصرع العشاق، أليس كذلك يا حسونة؟ أو نسميه اسما آخر، لا فيه موت ولا دم؟ مصرع الأحباب مثلا؟ اسم شيك، أو أقول لك: نسأل الأستاذ ميشلينيا، حضرته الأستاذ صابر، صابر محمد مرزوق، زميلي في التمثيل أيام زمان (ومدت في الميم إلى حد أخاف صابرا حتى خيل إليه أنها شدته من رأسه فخشي أن يصطدم بالسقف). أليس كذلك يا ميشو؟ (وهنا خيل لصابر أنها تنادي على كلب) عن إذنكم، أغير هدومي، لحظة واحدة، اقعدوا مع بعض.

وجلس صابر على كرسي أشار إليه الأستاذ حسني، لم يرفع وجهه إليه فقد كان لايزال مبهورا بالجو البلوري الذي وجد نفسه فيه فجأة كأنه في قصر مسحور، مأخوذا بالثراء والفخامة والإهمال البديع في كل شيء، وغارقا إلى أذنيه في كلمات سامية التي نزلت كالمطر فوق رأسه، فلم يدر هل هي تجامله أم تسخر منه؟ وقبل أن يفيق جاءه صوتها - صوت بريسكا المحبوبة الذي أصبح خليعا وجريئا وغير مبال: مثل والنبي يا ميشو، قل له يا حسونة حتة صغيرة من أهل الكهف. كان اسمها أهل الكهف بتاعة الحكيم، أليس كذلك؟ علشان خاطري، أنا سامعة.

وقبل أن يفيق مرة أخرى جاءه صوت الأستاذ حسني الهادئ الناعم الذي خيل إليه أنه يشم له رائحة كرائحة العطر: «لو تكرمت يا أستاذ، ولو سطرين ثلاثة، تأكد أنني أقدر المواهب، وربما يكون لك نصيب تشتغل معنا؛ أنا أخرجت لسامية ثلاثة أفلام، وأمامنا الآن فيلم.»

لم يدر صابر بماذا يرد؛ تكوم على نفسه كأنه يدافع عنها ضد هجوم مدبر خسيس، ولما عاد الأستاذ حسني يلح عليه في صوت جاد لم يخطئ فيه نغمة صادقة تشجعه ألقى بظهره على المسند الناعم، وقال في هدوء: معذرة، بعد أن يحضر الشاي.

وصرخت سامية من وراء باب غرفة النوم الموارب تلعن أم محمد وتستعجلها وتهددها في نفس واحد. وجاءت صينية زجاجية تزينها خطوط ذهبية وفوقها أكواب الشاي. مد صابر يده فتناول كوبه وأحس بنشوة الدفء بعد الجرعة الأولى، نشوة يكاد يغرق فيها تعب اليوم كله. وأغمض عينيه، وتمنى لو يستطيع أن يتمدد ويستريح وينسى كل شيء. وقبل أن يغفو جاءه صوت سامية من وراء الباب: نسيت أسألك يا ميشو، أين كنت الآن؟ قال وهو يغالب النعاس: كنت أتسوق من الموسكي. سألت من جديد: هدوم مثلا؟ قال في صوت لا يخفي ضيقه: لا، بقالة للدكان؛ سمن وزيت وصابون وتوابل من كل الأصناف، أصلي أنا الآن أعمل مكان أبي. سألت للمجاملة: يعني تاجر؟ أجاب كأنه يؤكد حزنه على المصير الذي انتهى إليه: نعم، على قد الحال؛ والدي مات وأنا في التوجيهية، حضرتك كنت انتقلت من البلد مع البيك الحكمدار، ترك لي ثلاث بنات وولدين، كان لا بد من وجودي معهم لأباشر الأرض وأقعد في الدكان. سألت من جديد في استهتار تعجب كيف تقدر عليه: وعندك أولاد يا ميشو؟ فأجاب في حسرة ولكن في استسلام: خمسة، يبوسو أيديك.

وفاجأته صيحة من الأستاذ حسني: اسكتي أنت! الرجل يريد أن يمثل، يالله يا أستاذ، قل لنا قطعة على الماشي.

قال صابر معتذرا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئا. ألح الأستاذ حسني: أي شيء. قال صابر في إخلاص كاد أن ينفجر له حسني ضاحكا لولا أنه تحكم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطف وكأنه يتمنى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حده وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود. فتحامل على نفسه وشد عضلاته ووقف في وسط الصالة. أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشر ملامحه. عقد جبينه وزم شفتيه بكل قوته ومد ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي، وقال: «نهاية الفصل الثالث. بهو الأعمدة. الوقت ليل والمكان مضيء.» ثم انفجر في صوت فوجئ به حسني، وذعرت أم محمد، فأسرعت تجري من المطبخ ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم. الوداع! يا ... يا ... لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعظم ما نزل بي، لا مرنوش ولا يمليخا رزئا بمثل هذا، إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها. وإذا الليلة أجيال، أجيال. وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي، فيجول بيننا كائن هائل جبار، هو التاريخ.

ويبدو أن لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميص نوم وردي شفاف، ومدت ذراعها ضاحكة ضحكة رنت في أذنه كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع

لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة؟ تراخت عضلاته. تفكك جسده. انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش. لم يستطع أن يثور، لم يستطع أن يبكي، لم يفكر أيضا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة، وأسرع حسني إلى غرفة النوم متأففا وهو يؤنب سامية بصوت يحاول أن يكون مرتفعا. ودق جرس الباب في هذه اللحظة فدخل رجل ضخم، شعره مجعد وطويل وفاحم، وعيناه شديدتا السواد مخيفتان إلى حد أن صابرا لم يستطع أن يثبت عينيه فيهما أكثر من لحظة واحدة. كان صوته أجش وبدا لصابر كأنه ثور غبي، وهو يقول: هل هده مواعيد يا عالم! من الصبح أنتظركم، والناس تسأل عنكم والبلاتوه جاهز، والمنتج الذي كان موعده معك يا سي حسني على البار، وكاتب السكريت يا ست سامية منتظر هناك على نار، إن لم تنزلوا حالا ضاعت علينا الفرصة، أعوذ بالله من هذا الحر، الدنيا نار، بسرعة يا ست سامية، اعملي لك قلب.

كان الرجل الضخم قد وقف أمام باب غرفة النوم فسده بهيكله الجبلي وصوته الأجش وكل شيء هائل فيه. لم يلاحظ وجود صابر، بل وقف في مكانه كأنه يكتم أنفاسه. ورن جرس التليفون. وسمع صابر صوت سامية تتكلم في نفس واحد، ووجد صابر نفسه ينهض من على الكرسي وقد خيل إليه أنه استراح قليلا، ودون أن يحس به أحد مشى على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي ففتحه في هدوء، حتى العجوز الطيبة أم محمد، التي كانت تقف لحظتها في المطبخ وتعطي له ظهرها بحيث يرى طرحتها البيضاء فوق رأسها بوضوح، لم تحس به وهو يغلق الباب وراءه.

1964

الست الطاهرة

نحن في عز المولد. صياح الميكروفونات والناس والعربات وحلقات الذكر يصم الآذان. القزم عتريس يدخل من باب الجامع في طريقه إلى المقام. الشحاذون يبتسمون، الزوار يتلفتون إليه ويبتسمون، السقاءون الواقفون في الممر الطويل كتماثيل من الخشب ينظرون إليه بعيونهم الحزينة الجامدة ويبتسمون. عتريس يدخل المقام وينحشر وسط الزحام، وسط الأجساد والأيدي المتشابكة تتلمس يداه الصغيرتان موضعا على الشباك يريح وجهه المكرمش العجوز عليه. تتمتم شفتاه، يعلو صوته، لكن أصوات الدعاء والتكبير والتلاوة أعلى منه. الزوار يلمحونه ويعجبون. كم يكون عجبهم لو عرفوا أن الست أيضا تكلمه، تكلمه وحده دون غيره؟ - من ينادي علي؟ - يا ست! نظرة يا ست! عتريس يا ست، القزم عتريس. - أنت جئت يا عتريس؟ - جئت يا ست، أبوس الأيادي، أركع عند رجليك. أشم رائحتك الطاهرة. - الغيبة طالت يا عتريس. - دخت يا ست، تهت في بلاد الله وشرقت وغربت، لا شغلة ولا مشغلة. - والسيرك يا عتريس؟ - قفلوه في وجهي. قالوا لي: عجزت ولا بقى فيك حيل. من يوم ما وقعت يا ست. - وقعت؟ - من على ظهر الحصان. كنت أنادي على عادتي بعزم ما في وأقول نفسك معي يا ست. قلت أعمل حركة من حركاتي المشهورة وأضحك الناس. وقعت على الأرض رأسي تحت ورجلي فوق. الناس ضحكت لغاية ما شبعت، لكن رجلي انكسرت، ظهري انشرخ. - وبعدها يا عتريس؟ - أخذوني إلى المستشفى، وضعوا رجلي وظهري في الجبس سبعين يوما وحياتك يا ست، سبعين يوما وحق مقامك الطاهر. - وبعد ما خرجت من المستشفى ؟ - سألت عليهم، قالوا لي: في مولد الست. يا ناس أرجع لشغلي. لأ يا عتريس. يهديكم يرضيكم. أنت عجزت يا عتريس. طيب جربوني. عمرنا ما شفنا البهلوان على عكاز. نفسي أضحك الناس. ستضحك الناس علينا يا عتريس. يا ناس ترموني رمي الكلاب؟ رزقك على الله يا عتريس. صرخت بعزم ما في: يا طاهرة! سقت عليك النبي يا حبيبة! - وسمعتك يا عتريس. - عارف يا ست. لكن العمل؟ - العمل عمل الله يا عتريس. - كلمة منك تفتح الأبواب، دعوة منك تحنن القلوب. لأجل الحبيب الشفيع تشفعي لي يا حبيبة. - عند من يا عتريس. - عند أصحاب الأكشاك يا ست. ألعابهم كثيرة. صحيح انكسرت وما عاد في حيل، لكن أقدر أضحك الناس، أحكي لهم حكايتي، أحلف لهم أني يا ما أضحكت ناس وأبكيت ناس. - رح يا عتريس، ربنا يفتح لك الأبواب.

في اليوم التالي عاد القزم عتريس إلى المقام. الشحاذون على باب الجامع رأوه وابتسموا. الزوار لمحوه يتدحرج في الممر الطويل ولولا قداسة المكان لضحكوا. السقاءون الواقفون كتماثيل من خشب نظروا إليه بعيونهم الجامدة الحزينة وابتسموا. تزاحم عتريس وانحشر بين الناس. تحسس الشباك الطاهر وشم العطر وراح في الجلالة، وقال: يا ست! - قل يا عتريس! - رحت لهم يا ست، فت عليهم واحدا واحدا. - من يا عتريس؟ - كلهم يا ست، الساحر الأسود، شيطان الموت، الغول العظيم، الحاوي العجيب، حتى الأراجوز فت عليه. - ومن هو الأراجوز يا عتريس؟ - رجل صغير يعلقونه من شعره بسلك ويحركون رجليه ويديه بسلوك. طول النهار يشتم ويلعن ويسب. - ابعد عنه يا عتريس. - هو الذي أبعدني يا ست. - والباقون؟ - قلت لهم أشتغل معكم. قالوا لي: راحت عليك يا عتريس. يا ناس ولو نمرة واحدة. ما عاد فيك حيل يا عتريس. يا عالم ولو تقعدوني على المسرح والناس مصيرها تضحك. الناس غير أيام زمان يا عتريس. طيب أقف على رأسي، مرة واحدة يا عالم، تقع تموت يا عتريس، ونروح في داهية معك. - معهم حق يا عتريس. - تقولين معهم حق يا ست ؟ - شعرك أبيض، قلبك تعب يا عتريس. - القلب لا يتعب من ذكرك يا ست. طيب تصدقي بالحبيب؟ - عليه أفضل الصلاة والسلام. - لو تسمحين لي يا ست؟ - ماذا تريد يا عتريس؟ - أقف على رأسي مرة واحدة قدامك؛ أثبت لك أن عتريس هو عتريس، بهلوان زمانه ووحيد عصره وأوانه. - هنا في المقام؟ يا للعيب يا عتريس! - من نفسي يا ست. مرة واحدة يا حبيبة. مرة واحدة لأجل الحبيب. - عيب يا عتريس.

دمدم الصوت المنبعث عن المقام، زام في أذنه كالريح، غامت الدنيا في عينيه، امتدت يد فرفعت يده عن الشباك الطاهر في عنف، زعق صاحبها الذي بدت رأسه كأنها القبة: اسع وصل على النبي! انتبه عتريس إلى العملاق الواقف إلى جانبه وخاف أن يدوسه، يخنقه، يرميه من الباب. صرخ: والعمل يا ست؟

جاءه الصوت العميق الهادئ كأن حمامة توشوشه: اسع وصل على النبي يا عتريس. - الأبواب كلها اتقفلت في وجهي يا ست. - إلا بابي يا عتريس، إلا بابي. - يرضيك عتريس يصبح شحاذا يا ست؟ - الأرزاق على الله يا عتريس.

يومها وقف القزم عتريس على باب الست، طول النهار وقف على باب الحبيبة بنت الحبيب؛ يصعب على واحد ويضحك عليه عشرون. الستات تشير إليه وتقول: شوفوا خلقة ربنا! والأطفال تصرخ وتقول: شوفوا الرجل المسخوط. والمشايخ يستعيذون بالله ويقولون: امش من هنا ورزقك على الله. والشحاذون يطردونه ويقولون: ما بقي غير البهلوان يقف قدام صاحبة المقام. عتريس صعبت عليه نفسه، غضب ودخل المقام ورفع يديه وقال: نفسك معي يا ست، نفسي ضاق يا بنت بنت الحبيب. - رجعت يا عتريس؟ - الشحاذة للشحاذين يا ست، وأنا طول عمري فنان. - ما معنى فنان يا عتريس؟ - أمثل، أضحك الناس، أدهن وجهي بودرة، أقف على رأسي. انظري.

وأحس عتريس أن الشباب عاد إليه، وبحركة مفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة. رأسه تحت ورجلاه في السماء. وبحركة مفاجئة أيضا هاج الناس، ورفع المشايخ وجوههم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون، وحق مقام الست الطاهرة لأشدك على القسم!

في الزنزانة المعتمة على البرش الخشب، نام عتريس وهو يفكر فيما جرى له، ويتذكر حياته القصيرة قصر جسمه. وبالليل طلعت له الست الطاهرة، وجهها مضيء كالبدر، جبهتها صافية كاللبن الحليب، ثوبها أبيض في أبيض كالملاك. - عملتها يا عتريس؟ - أمر الله يا ست. - وفي المقام! - معذور وحياتك. - الدنيا واسعة يا عتريس. - الدنيا ضاقت في وجهي يا ست. - وتتشقلب في المقام يا عتريس؟ - كان نفسي ألعب مرة قدامك، مرة واحدة قبل ما أموت. - هجموا عليك كلهم. - كلهم يا ست؛ المشايخ والعساكر، الشحاذون والسقاءون، الأفندية، والفلاحون. - ورموك في الزنزانة. - على البرش الخشن، في العتمة والرطوبة، وسط الفيران والبراغيث. - تعبان يا عتريس؟ - كل واحد ونصيبه يا ست. - زعلان يا عتريس؟ - كلك نظر يا أم العواجز. - ألا تريد أن تسامحني؟

فتح القزم عتريس عينيه قبل أن يغلقهما إلى الأبد. تنهد بصعوبة وقال: لا يا ست. أبدا أبدا.

1964

ابن السلطان

رأيته لأول مرة في دكان أبي.

كنت في ذلك الحين في السابعة أو الثامنة من عمري، أختلف على المدرسة الابتدائية الواقعة في البلدة المجاورة على حمار هزيل يعرف الطريق أكثر مما أعرفه، وربما كان يعرف عن العالم أكثر مما أعرف.

كنت أقرأ درسا في كتاب الجغرافيا، عن منطقة عجيبة اسمها المنطقة الاستوائية. وكان اليوم من أيام الصيف القائظة، وجسدي ينضج بالعرق، ورأسي مثل قدرة الفول تغلي وتفور، أغلقت الكتاب وأخذت أفكر فيما قرأت، هل يمكن أن تكون الحرارة في خط الاستواء أشد مما هي عليه في بلدنا؟ وأيقنت أن الكتاب لا ريب مخطئ، وأن خط الاستواء يمر من بلدنا بغير شك، وأقبلت على الساحة المواجهة أبحث فيها عن مكان الخط الملتهب فلم أر أمامي غير سوق القرية يحوطه سور خشبي مهدم في أكثر أجزائه، وترقد فيه قطعان من الخرفان والجاموس والحمير، وأحسست بفيض من السعادة وأنا أنظر إلى هذه القطعان التي لا تعرف شيئا عن خط الاستواء.

كان ذلك في يوم السوق، وكان دكان أبي في مدخل القرية، يلتقي فيه الفلاحون القادمون من الكفور المجاورة فيطلبون طبقا من الفول، أو يستريحون في الظل، وكنت أعجب لأن أبي يعرفهم جميعا، وأعجب أكثر من ذلك؛ لأنه يحبهم جميعا. فلا يكاد أحدهم يدخل الدكان مجهدا من عناء السكة الطويلة حتى يستقبله مرحبا، مناديا باسمه، سائلا عن الصحة والعيال، بل لقد كان يعرف من طلق منهم زوجته، ومن مات ابنه، أو فطست بهيمته، أو سرق أولاد الحرام جرنه، كل منهم يجد الكلمة الحلوة عنده: ربنا يعوضك خيرا، كل شيء قسمة ونصيب، الحمد لله على الستر، النسوان ليس لها أمان، والمرأة مثل القطة تأكل وتنكر، الأمر أمره؛ لهذا كان أبي تاجرا ناجحا، وكل من يحاول أن يفتح مطعما إلى جوارنا تكسد تجارته، ويعزل بعد أيام.

كنت في ذلك اليوم مسترخيا في الظل، أراقب ما يجري في السوق، وكان أبي قد سمع كلام الفلاحين، فلم يعد يجبرني على العمل معه، أو يؤنبني على كسلي، بل إنه قد غفر لي كل شقاوتي حين علم أنني عرفت الجهات الأربع، وأنني أضع له سجادة الصلاة ناحية القبلة تماما.

وكنت أتابع وجوه الزبائن يدخلون ويخرجون من دكاننا دون أن أجد بينها ما يلفت النظر - فقد كانوا جميعا كأنهم أولاد أب واحد - حينما وجدت رجلا يقف أمامي ويحملق في وجهي، الحقيقة أنني خفت منه في أول الأمر، وأيقنت أنه لا يمكن إلا أن يكون مجذوبا أو وليا من أولياء الله؛ كانت شفتاه الدقيقتان المجروحتان في أكثر من موضع ترتعشان بصوت خفيض، وكان وجهه شاحبا، وصدغاه غائرتين، وعظام خديه بارزة، وعيناه المفتوحتان كعيني ذئب جائع تقاومان جفنين يريدان أن ينطبقا عليهما، وكان العرق ينضح من جبهته، ويسيل في خطوط سوداء متعرجة على خديه، كأنه دماء جمدت من أثر جرح قديم. الحق أنني استغرقت في النظر إليه فلم أتبين كلامه، ولو أنني سمعته حينئذ لقلت له: لا تتكلم، انظر حتى أشبع منك! وانتبهت على صياح الزبائن من الداخل وعلى اثنين منهم يندفعان إلى عتبة الدكان ويجذبان الرجل وأحدهما يصرخ مهللا: شوفوا يا جماعة ابن السلطان!

ويصيح الرجل وهو يضربه على ظهره: والله سلامات، كنت تائها يا عم؟ ويجئ رجل آخر ترك طعامه ليشترك في استقبال الزائر الجديد: من كثرة ما لف في الأرض، قلبها من ظهرها لبطنها. ويضحك الجميع، ويقبلون على الضيف وهم يضحكون ويثرثرون ويأكلون، وكان أبي أكثرهم بشاشة في وجهه؛ لأنه اعتبره ضيفه هو؛ ترك مكانه وأقبل عليه يربت على كتفه ويتحسس عظم ظهره: والله زمان، هكذا تنسى الأحباب والأصحاب! وحشتني، وتنسى مطعم الصدق والأمانة! وحشتني قوي.

ولبث الرجل جامدا كالتمثال، عيناه ذاهلتان تجولان في وجوه الحاضرين، كأنه يستعرض مخلوقات من فصيلة أخرى، ربما كان يفضل في هذه الساعة أن يستلقي لينام كالميت، ونظر أبي إليه، وفحصه بعينيه فترة قبل أن يقول: ابن السلطان، ما لك؟ فأجاب كأنه لا يفهم: هه؟ فعاد أبي يقول وهو يخبط على ظهره: يعني لا تضحك ولا تتكلم! وتدخل رجل يمزج الحنان والشوق في صوته: ابن السلطان دائما مسافر، من أين جئت الآن؟

فقال الرجل بدون أن تطرف عيناه: من الشرق، فعاد يسأله وكيف أحوال الرعية؟

ولكنه لم يجب، بل التفت إلى أبي قائلا: عم إبراهيم.

فقال أبي: أمرك يا سلطان.

فعاد يقول في صوت ود لو لم يسمعه أحد: ميت من الجوع. ويبدو أن هذه الكلمة قد لمست قلب أبي فأسرع إلى الأطباق يعدها، وفي لحظة كان الطعام أمام الزبون الجديد الذي أقبل عليه بنفس مفتوحة. ولما شبع الزبائن من النظر إليه، والحديث معه، بدءوا يتفرقون واحدا بعد الآخر إلى السوق أو البلد أو القهوة المجاورة.

لم يتح لي في ذلك اليوم أن أتحدث معه، ولكنني اعتدت بعد ذلك أن أراه في دكان أبي، فقد كان من الزبائن المستديمين، وكان أبي يخصه بكثير من العطف، ومن الطعام الجيد - وقد يكون العطف في بعض الأحيان عملا تجاريا ناجحا - وكان وجوده يشيع في المكان جوا من الألفة والبهجة والمرح، ولكنه كان في كل يوم يبدو في زي جديد - مرة يلبس عمامة كبيرة، ويتدثر بعباءة فضفاضة كالمغاربة. وحينا نراه وعلى ظهره قربة كبيرة يمر بها على الناس في السوق، وقد أراه على فرس كما حدث في مولد صاحب المقام؛ إذ علمت أنه أصبح من السادة الرفاعية، وأنه قد حمل الراية، وتبعه المريدون، يسيرون في موكب طويل يشق طرقات البلد، ويملأ جوها بدقات الطبول، ورنين الصاجات، وعبير البخور.

وكان يمكن أن يظل «الشيخ سيد» مغمورا خامل الذكر لولا أنه جر على نفسه المتاعب، من كان يصدق أن سيرته يمكن أن تتجاوز الفلاحين، وعمال الطرق، وجامعي الدودة، وأطفال المدرسة الأولية، إلى أسماع السلطات؟! لا شك أن الشيخ سيد هو الذي جنى هذا على نفسه، فلولا طيشه وسوء تدبيره لما وضع رجله في النقطة، لقد أتعب الرجال الثلاثة «الذين ندبتهم النقطة من المديرية رأسا» في تقصي أحواله، ودوخهم بين الأسواق والغيطان والجوامع والشوارع.

فقد دأب على السير بين الفلاحين والتجار الوافدين على القرية في أيام السوق، والهتاف بصوت عال «يحيا العدل»، وبالطبع لم يكن أحد ينتبه إليه، أو يسأله عن معنى ما يقول؛ فقد اشتهر عنه أنه قد صار من أحباب الله، ولو أنه اقتصر على هذا الهتاف وحده ما كان في الأمر ما يدعو إلى القلق؛ فلقد ضبطوه في بعض الأحيان وهو يهتف «يسقط الظلم».

ويوما علمت أنه قد مثل أمام ضابط النقطة، وكان كعادته حافي القدمين، مهلهل الثياب، منفوش الشعر، طويل اللحية. قال له الضابط وهو يتفرس في وجهه: اسمك؟ - ابن السلطان. - ماذا؟

فمال أحد المخبرين على أذنه وهمس فيها شيئا، وعاد ضابط النقطة يسأله: وأبوك، أين هو؟

فأجاب «الشيخ سيد» دون تردد: في الشرق. - في الهند مثلا؟

فهتف «الشيخ سيد»: لا، في الصين.

ولم يستطع الضابط أن يكتم ضحكه، فأقبل عليه وقد زاد اهتمامه بأمره. - عال، عال، وأين تقع الصين؟

فمد «الشيخ سيد» ذراعه وأشار ناحية الشرق، من هنا.

وسأل الضابط بعد أن نهض من مكتبه، وأقبل نحوه يربت على كتفه كأنه يفحص حيوانا أليفا: وماذا يفعل هناك؟

فأجاب «الشيخ سيد» في حماس: يحارب الكفرة.

فرفع الضابط حاجبيه من الدهشة وعاد يسأل: ومن هم؟ الصينين؟

فصاح «الشيخ سيد»، وهو يعجب من جهله: لا، العسكر واليهود. - وهل هو هناك من زمان؟ - من ألف سنة.

وضع الضابط يده على فمه، ثم وضعها على بطنه، وقال بعد لحظة: يا سلام! لا بد أنه أفناهم عن آخرهم، ومتى يعود؟

فبرقت عينا «الشيخ سيد»: هل تشك في عودته؟ إنه سيعود حتما، سيعود ليمحق الكفرة، سيعود راكبا.

فقاطعه الضابط: حمارا؟!

فاستنكر «الشيخ سيد» ما يبديه محدثه من الامتهان لمقام السلطان، وصاح غاضبا: ما هذا؟! هل يعقل أن يركب السلطان حمارا؟! إنه يركب فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض على رأسه.

ولم يشك الضابط في أنه قد بدأ يهذي، وأراد أن يسأله سؤالا أخيرا: وهل السلطان هو

فهاج «الشيخ سيد»، وتهدج صوته وهو يصيح: إنه أبي وأب جميع الناس، يحبهم

سيقبلون قدميه ويقولون له: شرفت بلدنا يا مولانا السلطان.

وانفجر «الشيخ سيد» باكيا. كان في بكائه شيء أعمق من الحسرة ومن اليأس، مثل طفل ضاع منه أبوه في الزحام فوقف على الطريق يسأل كل عابر سبيل: هل رأيت أبي؟

فلما لم يجد أحدا يعرفه بكى وصرخ، لا لأن أباه ضاع منه، بل لأنه وجد بين الناس من يجهله. •••

لم يبق في القرية من لم يسمع بحكاية «الشيخ سيد». وعرف الناس أن الإنسان يمكن أن يصبح مشهورا إذا ما سمعت به السلطات الرسمية.

وهكذا بدءوا يهتمون بشأنه، وتوالت العطايا عليه. وعطف بعضهم عليه فأعطاه حذاء. وتصدق تاجر أقمشة فوهبه ثوبا من الدمور المعتبر قائلا له: خذ يا عم، ينفع جلبابا وكفنا. والحقيقة أنه لم يعرف كيف يفصله؛ فإن الترزي الوحيد في بلدنا كان رجلا عجوزا بخيلا، ولم يكن أحد يتصور أن يتصدق عليه بخيط؛ لذلك بقي الثوب قماشا يحمله على كتفه، إلى أن جاء يوم لم يره أحد معه ولم نعرف إن كان قد سرق منه وهو نائم أو خطفه اللصوص. وبمرور الأيام نفض الناس أيديهم منه، ولم يعد أحد يهتم بأمره أو يتصدق عليه بشيء، بل إن أبي الذي كان يدعوه إلى الطعام كلما رآه، قد خفف من عنايته به، إلى أن جاء يوم افتقدته فيه فلم أجده، وسمعت أنه يتجول بين العزب المجاورة، وأن حظه هناك لم يكن أفضل من حظه عندنا.

وذات يوم كنت أجلس في الدكان وحدي؛ فقد لزم أبي الفراش، واضطررت أن أتغيب عن المدرسة، وأن أباشر حركة الدكان بنفسي. الحق أنني كنت أخشى أن يأتي علي يوم السوق وأنا وحدي؛ إذ كيف أدير حركة المحل؟ وكيف أتصرف مع كل هذا العدد من الزبائن؟ ولست أدري ما الذي ذكرني بالشيخ سيد، فقد شعرت في نفسي بحنين غامض إليه، وتمنيت أن أراه إلى جانبي.

لذلك لم أفرح كفرحتى حين رأيته ينحدر على السكة من بعيد، كأنه عمود من الدخان يطول ويقصر، كانت له مشية تميزه عمن سواه، ولكنني دهشت قليلا حين وجدته يربط إحدى ذراعيه برباط كبير، ويتوكأ على عصا، وهو الذي كان مثل الجن الأحمر.

أقبلت عليه مرحبا، ولو أطعت نفسي لعانقته: ما هذا؟ كفى الله الشر.

فأجاب وهو يجلس إلى إحدى الموائد: الحمد لله جاءت سليمة. قلت محاولا أن أكتم فرحتي به: سمعت أن قطاع الطريق هجموا عليك. فضحك من قلبه وتلفت ينظر في الدكان. - أبوك ليس هنا، ثم غمغم قائلا: هل تعرف مولد سيدك إبراهيم الدسوقي؟ - سمعت أنه في هذين اليومين. - حسن، حاولت أن أحضر الزفة، وأن أركب الفرس، ولكنهم لم يصدقوا أنني ابن السلطان، ألم أقل لك إنهم كفرة؟!

جذبوني من على الفرس، ومن حسن حظي أن ذراعي هي التي كسرت، لا رقبتي.

وأردت أن أغتنم هذه المصادفة التي جمعتني به وحدنا، فاستدرجته قائلا: ألم تعرف ما حدث لي؟!

فأقبل علي في اهتمام، وفرحت بالقلق البادي في عينيه، ثم قلت أخيرا: رأيت أباك في المنام، فسألني غير مصدق: حقا؟

قلت وأنا أصطنع لهجة الكبار حين يتحدثون في أمر خطير: وهل عرفتني كذابا ؟ لا، لا، زعلتني منك .

فعاد يسأل في شوق طيب، وماذا كان يركب؟

فقلت بعد أن تركته معلقا في لحظة انتظار: كان يركب، يا سيدي، فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض.

فصاح: تمام، تمام. - وكم كان يشبهك! جل سبحانه! أنفك، عينيك، ملامح وجهك. ألم يظهر لك أيضا في المنام؟! - طبعا، طبعا، في المنام وفي اليقظة. وتردد لحظة، ثم قال: ألا يمكنك أولا أن تعطيني لقمة، لي ثلاثة أيام لم أذق طعم الأكل، الناس أصبحوا كفرة يا ابني؛ يغلقون الباب في وجهك، وإذا فتحوه فلكي يقولوا لك: اذهب! •••

وقمت من فوري أجهز له الطعام، وشعرت بيني وبين نفسي بالخجل؛ لأنني لم أبدأه بالسؤال، وبذلت غاية جهدي في توفير طبق شهي من الفول وآخر من السلاطة والباذنجان المخلل، ووضعت أمامه ثلاثة أرغفة، ثم جلست أراقبه، وأحسست أني قد كبرت فجأة وكأنني أراقب ابني وهو يأكل، واستغرقت في سماعه وهو يقول: سوف يعود أبي يا «محمد»؛ أمي قالت لي ذلك، قالته وهي على فراش الموت، وحين يعود، لن تجدني أجوع أو أتشرد في الشوارع، كل الناس سيكونون إخوتي، والسلطان هو أبونا جميعا، سوف يأتي من هنا، «وأشار ناحية الشرق»، طبعا أنت تعرف الشرق من الغرب، هات كوب ماء، إنه يتقدم الموكب، في يده سيف أبيض، طوله ألف ذراع، وخلفه جيش كبير من الفرسان، والغبار الذي تثيره أرجل الخيل يحجب وجه الشمس، سيهرع الناس إليه من كل مكان، يبكون عند قدميه، ويقولون أين أنت يا مولانا السلطان؟ نحن في انتظارك من مائة سنة، من مائتين، من ألف سنة وأكثر، وستحني الأشجار رءوسها لتحيته، وتفزع الحيوانات إليه، وتتمرغ عند قدميه، تمأمئ وتعوي وتخور وتصهل، حريم المملكة كلهم حريمه، لن تكون لي زوجة، هات كوب ماء؛ وقفت لقمة في حلقي، الله يلعن النسوان وسيرتهم، لن تغلق أبواب البيوت بعد اليوم في وجهي، لن تكون هناك أبواب على الإطلاق، سيقول أبي لليتيم: لا تحزن، إنني أبوك. وللجائع،

انتظارك، من زمان من زمان.» أكلة عظيمة، الله يعمر بيتك، لو كان الواحد يأكل مرة واحدة في العمر وينتهي، الحمد لله. •••

كنت قد أخذت بكلامه، فبقيت أنظر إليه وأنا لا أدري هل أضحك أو أبكي، ومسح فمه بكمه، وتناول عصاه، وشكرني، ووعدني أن يدفع لي في القريب.

ووجدتني بعد لحظة أقف في الظل أمام الدكان، وأتجه ببصري ناحية المشرق، حيث يغيب شبحه.

ومع أنه قد انقضت على ذلك عشرة أعوام أو يزيد، ولم أعد أسمع شيئا عنه فلم أزل إلى اليوم، كلما رددت بصري في الفضاء، أنظر إلى هذه الجهة، ربما كنت أنتظر أن يظهر في الأفق فرس أبيض على ظهره فارس أبيض في يده سيف طوله ألف ذراع، وأن أرى موكب السلطان وهو يتقدم من بعيد والغبار الذي يثيره يحجب وجه الشمس.

1955

التابوت

أخيرا زرت المتحف يا عبد الموجود، زيارة كان نفسك فيها من زمان. آخ يا دماغي! لا بد أن عندك حمى. رأسك ساخن، مفاصلك ترتعش، والنبض أيضا سريع، من أربعين سنة وأنت تحلم بهذه الزيارة، هل تذكر يوم ذهبت لأول مرة في رحلة مع المدرسة؟ كنت أيامها بالبنطلون القصير يا عبد الموجود، والمدرس أيضا كان قصيرا، ومن الذي لا يبدو قصيرا أمام تمثال رمسيس؟ والأسماء الكثيرة ما زلت تذكرها، ولكن في أي دولة هي؟ دماغي سينفجر، أين الثلج الذي وضعته زوجتك إلى جانبك؟ على الكرسي أم على المكتب؟ آخ! بل هو على رأسك، ومع ذلك فأين ذهب؟ لا بد أنه الآن يغلي، يا لطيف! خوفو وخفرع وأحمس الشجاع وأخناتون النحيف المسلول، لكن الأيام تمر، والسنين تمر، والأتوبيس يمر كل يوم على المتحف، ولكنك لا تنزل منه، لا تنزل منه يا عبد الموجود، المتاحف خلقت للسواح، وزوجتك عندها شغل في المطبخ، والأولاد يلزم لهم ملابس للشتاء، والدوسيهات لا بد أن تراجعها بالليل، وعيشة الدنيا تعب، عيشة الدنيا تعب يا عبد الموجود.

اليوم هو الجمعة؛ لأنك خرجت من المتحف على الصلاة، القاعة كانت مزدحمة يا عبد الموجود، ودفعت فيها خمسة وعشرين قرشا، والسواح كانوا في كل مكان، حمر وبيض وعيونهم خضر وشعرهم أشقر وطويل، والصناديق الزجاجية كانت مرصوصة إلى جانب بعضها، عشرة عشرين ثلاثين؛ شبان وعجائز ونساء، وأحمس شعره ما زال هناك. الغريبة أن شعره أصفر، أصفر مثل شعر الإنجليز، والجلد ما زال على حاله، وحتى الأسنان، والشابة التي على اليمين فيها ملامح من زوجتك؛ وجهها عريض، عظم خديها بارز، بشرتها سمراء، الابتسامة لا تزال على شفتيها، لا بد أن دمها كان خفيفا، والصلاة وجبت يا عبد الموجود، والجامع كان على آخره، وفرشت الجرنال على الرصيف. آخ يا دماغي! الشمس كانت تلسع، الشمس هي السبب، وأحمس أسنانه لا زالت تلمع، والبنت السمراء لا زالت تبتسم من ثلاثة آلاف سنة، أو أربعة آلاف، أو حتى خمسة، من يدري يا عبد الموجود؟ ويحنطونك في صندوق من زجاج، والسواح تتفرج عليك، ويعرفون أنك كنت موظفا في الأرشيف، أربعين سنة، أربعين سنة يا عبد الموجود!

اليوم إجازة، أول إجازة بحق وحقيق، استرح لك يوما يا عبد الموجود، يوما من نفسك! أربعين سنة وأنت تعمل مثل الحمار، أربعين سنة وأنت تصحو من النوم، وتجري على الديوان، وتجلس على المكتب، وتفحص البوستة، وتسرك الجوابات، وتفرز الصادر من الوارد. أربعين سنة وأنت تشرب الشاي وتأكل الفول، وتقرأ الجرنال، وتقف زنهار أمام الرئيس والمدير، أربعين سنة وأصبحت على المعاش يا عبد الموجود، الشمس كانت نارا، وقاعة المومياء ملآنة بالتوابيت والسواح، شعرهم أشقر وعيونهم خضراء، شباب وصحة وملك صحيح، وأحمس راقد على ظهره، والبنت السمراء أم شعر أسمر تبتسم، وتحتمس وجهه متآكل، ومكانك معهم يا عبد الموجود، مكانك معهم في الصندوق أو في التابوت.

عندما تدخل في الصباح إلى الديوان سيكونون جميعا في استقبالك؛ السعاة واقفون على الجانبين، حللهم زرقاء، وجوههم المصفرة تبتسم، يقفون على الجانبين ليحيوك، أيديهم الخشنة تريد أن تمتد لتصافحك، وفي أعلى السلم ستلمح رئيس القلم ومدير الإدارة والمدير العام، نعم إنهم ينتظرونك، ابتسامتهم العريضة ستخجل تواضعك، ولكن حاول ألا تتعثر في الطريق، لماذا الخجل يا عبد الموجود؟ ألأنك تلبس حلتك السوداء؟ ولكنهم رأوها عليك من قبل. ألأنك تلبس قميصا جديدا ياقته منشاة؟ ولكنه يبدو كذلك فحسب، أم لأنك تلبس حذاء شديد اللمعان؟

سيسلمون عليك، سيرحبون بك (حاذر فربما أخذوك بالأحضان!) سيقولون لك: كل شيء جاهز وعلى ما يرام؛ الأوراق منتهية، والمعاش ستقبضه بالكمال والتمام، ولكن قبل الإمضاء تعال لنحتفل بك. لا تحاول أن تعتذر؛ فكل شيء جاهز كما قالوا، والشمس لا تلسع رأسك، ومكانك محفوظ في قاعة المومياء.

الموكب سيتحرك يا عبد الموجود، أنت في الوسط، المدير في المقدمة، السعاة على الجانبين، وكل شيء على ما يرام، وعندما تدخل إلى حجرة المدير - يا لها من حجرة فخمة مزدانة بالستائر المخملية والسجاد وصور المديرين السابقين وأواني الزهور والريحان! - ستجد أن مكانك أيضا هناك، افتح عينيك، فكل شيء معد من أجلك، افتح أذنيك، فالخطب التي ستتلى عليك طويلة وفصيحة. ابلع ريقك؛ فالمائدة مرصوصة بألوان الطعام، سوف يجلس الجميع، كل في مكانه، وسيقف السعاة على أهبة الاستعداد، وعندما يقف المدير، سيسود الصمت، وعندها يتكلم فيقول المدير:

أنا المدير العام،

المسئول عن هذه المصلحة ومن فيها،

في كل يوم أراجع كشوف الغياب،

ألاحظ أن يكون كل شيء في مكانه،

أن يكون كل موظف على مكتبه،

أن تشرق الشمس في موعدها؛

لأنني أقدس النظام.

واليوم جئت بنفسي لأحتفل بك،

أنا الذي كنت موظفا مثلك،

ثم صعدت بهمتي ونشاطي

من الوحل حتى لمست النجوم،

حتى أصبحت المدير العام.

ويصمت المدير ليلتقط أنفاسه، وعندها يتكلم الموظفون فيقولون:

المجد لك،

يا أيها المدير العام،

يا من تسمح لقلوبنا أن تدق بانتظام،

وتراجع كشوف غيابنا على مر الأيام،

وتأذن لنا - وما أكرمك! -

بأن نقبض مرتباتنا في أول كل شهر.

ها نحن قد جئنا؛

اثنان وسبعون موظفا،

اثنان وسبعون بالكمال والتمام.

يا زميلنا العزيز،

أتينا لنحتفل بك،

أتينا لنودعك إلى المعاش،

هل علمت ماذا أعددنا لك؟

هل سمعت عن المفاجأة؟

ويسكت الموظفون؛ لأنهم لا يملكون أن يذيعوا السر الرهيب، وعندما يتحرك المدير إلى آخر القاعة التي تضيئها مصابيح النيون، ويمد يده ليرفع الستار عن الصندوق الجميل، إنه راقد هناك، كأنما وجد من الأزل، كأنه جسد امرأة بيضاء مصنوع من الفضة، غامض وساحر ومخيف، سيلمسه المدير العام بكفه، سيطوف حوله الموظفون، سيدعونك لكي تتفرج عليه، وسوف يتكلم المدير ويقول:

هذا الصندوق الفخم الجميل،

لن يليق لغيرك،

لن يناسب إلا جسدك،

لن يملأه أحد - حين يتمدد فيه - سواك،

وحين تنزل فيه لتستريح،

لا، ليس الآن، ليس الآن،

بل بعد أن تأكل وتتنفس وتحمد الله

سنهرع إليك، سنغلق الصندوق،

لن ندقه من الخارج بالمسامير.

لا تخف. ولن نغلق عليك الغطاء،

لن نلقي به في النيل؛

لأنك كنت دائما في التابوت،

تحمله أينما ذهبت؛

حين تلبس البذلة الكاملة،

وحين تسير بالقميص والبنطلون،

حين تجلس على القهوة، وحين تتمشى على شاطئ النيل،

حيث تقف أمام دكان البقال ودكان السجائر،

وحين تتزاحم في الشارع والترام والطابور،

حين تحلم بالسفر إلى بلاد بعيدة،

أو بحساب في البنك وثلاجة بدون تقسيط،

وعندما نلقي بك - لا في الماء كما أكدت لك،

فجدران التابوت تحيط بعظمك ولحمك من كل مكان -

إلى زحام الشارع المجنون،

لن تنزع إيزيس غدائرها، لن ترتدي ثياب الحداد.

وعندها يرد عليه رئيس القلم، فيقول:

يا أيها الموظف المحال إلى المعاش،

إيزيس الرحيمة لن تبكي عليك،

لن تهيم في شوارع المدينة بحثا عنك،

لن تسأل الرجال ولا الملاحين والأطفال،

لن تلقي بك الأمواج على شاطئ بعيد،

ولن تلتف حولك جذوع شجرة،

وعندما يكتشفونك،

لن تبكي عليك عين،

ولن ترتمي أم على التابوت،

أو تلقي بنفسها على جثتك،

أو تضع محياها على محياك،

لا، ولن تقبلك ولن تجهش بالبكاء.

وحين يسكت يتقدم الموظفون فيلتفون حولك، يطوقونك بأجسادهم وأيديهم ورائحة العرق التي تفوح منهم، يودون لو يحملونك فوق رءوسهم كما يحملون خشبة النعش، ويقولون: (جوقة الموظفين)

إيزيس لن تكون هناك،

لن تفتح الصندوق العجيب،

ولن تضع محياها على محياك.

إيزيس لن تكون هناك،

لن تقبلك، ولن تجهش بالبكاء؛

لأن أشلاءك الأربعة عشر،

لم تجمعها يد إنسان،

لم تجمعها يد إنسان.

ويتقدم المدير العام، الذي كان يقف من البداية إلى جانبك ويضع يده على كتفك ليروي تاريخ حياتك، فيقول:

ساعة ولدت دوى صوت يقول:

ها هو المسكين يخرج إلى النور،

لم تجد الولادة اللفافة المناسبة،

فدثرتك في الأكفان،

دثرتك في الأكفان،

وعندما جلست على الكرسي أمام المكتب،

ورسموك بالعين والصولجان،

عندما جلست عليه في عز الشباب،

انخسف القمر، ونسيك الله،

تعلمت كيف تضغط على الجرس، وتطلب الشاي،

وكيف تخفض رأسك،

وتقول: الحمد لله.

غرقت في الملفات والدوسيهات،

تعثرت في اللوائح والقوانين.

كنت صاحب الجلالة أوزيريس العظيم،

تزرع الحب، تخصب الأرض،

تعلم، بغير سلاح،

تهذب، بغير تخويف،

تسحر، بغير غناء.

الآن ماذا جرى لك؟

فيجيب الموظفون كأنهم صوت واحد:

تعثرت في اللوائح والقوانين،

تعثرت في اللوائح والقوانين،

من البيت إلى المكتب،

ومن المكتب إلى البيت،

يا قطرة عرق في زحام الأوتوبيس،

يا حرفا مهملا في ملف كبير،

يا أيها الزوج الشهم، والأب الكريم، والحاكم العادل،

يا أول من علم الإنسان،

يا رسول الحب والسلام على الأرض،

من الذي يجمع رفاتك المبعثرة؟!

ومن الذي يحييك من جديد؟!

ويتقدم السعاة - الذين يبدو أنهم خجلوا من صمتهم طوال هذا الوقت، فيقولون:

عبد الموجود!

نحن السعاة المخلصون،

أيدينا الخشنة طالما حملت لك الشاي الثقيل،

طالما أحضرت القهوة للضيوف والأحباب.

في كل يوم نقف عندما تمر أمامنا،

نسألك عن الصحة والمزاج،

ننظف الملفات وننفض التراب،

نسب الدنيا، ونلعن الغلاء،

نقول على الرغم من كل شيء: الحمد لله.

ونرضى بالبقشيش القليل،

نرضي بالبقشيش القليل.

وترد جوقة الموظفين:

إيزيس!

أيتها الزوجة المخلصة،

أيتها الأم الرءوم،

لماذا نسيت زوجك؟

لماذا نسيت ابنك؟

المأدبة التي أقيمت لك تليق بالمعاش حقا، ها أنت ذا يا عبد الموجود تتصدرها، والسعاة يقدمون إليك طبقا بعد طبق، اللحوم النادرة والفواكه المنتقاة تملأ رائحتها أنفك، وتنفذ إلى صدرك، أكواب الشاي الأسود، وأطباق الشطائر والحلوى لا تفرغ أبدا، الحفل حفل وداع لكنه طيب وبهيج، وعندما تفرغ أكواب الشاي الأسود الثقيل سيهب «ست» واقفا، ويصيح بأعلى صوته الخشن البغيض: فلتشربوا أيها الصحاب، وأنتم أيضا أيها السعاة، لا تنسوا أنفسكم! اشربوا نخب صاحب الجلالة أوزوريس العظيم، ملك مصر الخالدة، ثم يشرب ويشرب إلى أن يخبط على المائدة مرات وينبه الجميع إلى خطبته القادمة، ها هو ذا يقف منتصبا، قويا، فارع الطول، نظارته السميكة على عينيه، شعره ملأه الشيب، وجهه أقبح وجه شاهده حراس طيبة ذات الأبواب المائة طول حياتهم، رأسه الضخم مستقر على عنق قصيرة مكتنزة كعنق الثور، حاجباه كثيفان أسودان كزوج من الخنافس، وعندما يتكلم، ينفث الدخان من سيجاره الكالح الغليظ، ويتحسس كرشه الضخم عند كل كلمة:

قديما يا أيها الإخوان،

وقبل أن أصاب بالسكر والكبد وضغط الدم،

كنت أصيد ليلا في ضوء القمر،

عندما عثرت عليك يا عبد الموجود،

تعرفت على جثتك - لم أكن قد لبست نظارة بعد -

مزقتها أربع عشرة قطعة،

بعثرتها في كل مكان.

إيزيس غرقت في دموعها،

إيزيس أصبحت عمياء ولن تبحث عنك،

وعندما يكبر حورس،

لن يمتطي ظهر الحصان، ولن يعد القوس،

لن يحاول الانتقام لأبيه؛

إذ كيف يستطيع وكل شيء ينتقم الآن منه؟!

بل سيجلس هو أيضا على مكتب،

ويصبح حرفا مهملا في ملف الخدمة،

وقطرة عرق في زحام الترام،

وعندما يكبر في السن ويلبس نظارة سميكة،

سيحال إلى المعاش، سيحال إلى المعاش،

وحين يموت، لن يدفن في معبد ولا ضريح،

لن تحط الطير عليه، ولن يدنو السمك منه.

ويجيب الموظفون قائلين:

لن يحط الطير عليه،

ولن يدنو السمك منه،

ولن يسمع صوت إيزيس تنادي:

عد إلى بيتك، عد إلى بيتك، يا من تسكن الشمس،

عد إلى بيتك؛ فقد طالت غيبتك،

تعال وزر حبيبتك، زر أختك التي تحبك،

عد إلى بيتك، يا أخي وحبيبي،

ألا تسمع إذن صوتي؟

لكن لن تستطيع أن تعود يا عبد الموجود، لن تستطيع أن تعود. فقد أخذوك من يدك من مئات السنين، وقادوك إلى المملكة السفلى؛ مملكة الموت والظلال، المملكة التي كتب على بابها: يا أيها الداخل من هذا الباب ، ودع كل أمل، هل تقول إنهم يحتفلون بك؟ نعم، ولك الحق. يحتفلون بوضعك في التابوت، والتابوت غامض وساحر وجميل، مرصع بالأحجار النفيسة، براق من المعدن الخالص، رسمت عليه زهرة لوتس وحيدة، وحشيت جوانبه بالملفات والدوسيهات والتقارير، ومن يدري؟ فبعد أن تدخل فيه، وتتمدد، وتتثاءب، وتشرب شايك الأسود الأخير، وبعد أن يأخذوا إمضاءك على ورقة المعاش، ربما تذكروا فرسموا وجهك الأسمر النحيل على غطائه، ولم ينسوا أن يضعوا على شفتيك ابتسامة راضية، وفوق عينيك نظارة سميكة، وعلى رأسك تاج الوجهين.

1964

يونس في بطن الحوت

لم أكن أعلم أنها ستكون ليلة سوداء، ولا كنت أتصور أنني سأحمل في آخرها إلى المستشفى كما يحمل النعش على الأعناق.

فبعد أن أعطيتهم المعلومات اللازمة عني، وقيدوا اسمي ورقم بطاقتي على استمارة في حجم الكف، قادوني إلى حجرة في الدور العلوي، في نهاية ممر مظلم. قالوا لي: ليس عندنا غيرها، وسيشاركك فيها محمود بك، عندما يأتي متأخرا كعادته بعد سهرة طويلة في الكازينو. ولم يكن يهمني أن أعرف شيئا عن محمود بك، فلم أسألهم عنه، بل دخلت إلى الغرفة وأقفلت بابها ورائي. كنت متعبا من السفر في أوتوبيس البراري، محملا برائحة العرق والتراب والزحام، وكان كل همي أن أستسلم للنوم في أسرع وقت. وألقيت نظرة سريعة على الحجرة، لم يكن بها أكثر من دولاب خشبي صغير وسرير مستطيل بدا لي لكآبته كأنه تابوت، فوقه ملاءة بيضاء عليها بقع غامقة، ولحاف حال لونه وبدت آثار العرق على أطرافه المتسخة. وألقيت بنفسي على الكرسي الوحيد الموضوع إلى جانب السرير فخلعت ملابسي وألقيتها كيفما اتفق، وأخرجت بيجامتي وأسرعت أرتديها قبل أن يكبس علي النوم.

كانت متاعب اليوم قد ازدحمت علي فلم تبق في قدرة على التفكير فيها. لقد طردني أبي من البيت في أول النهار، صرخ في وجهي بأعلى صوته: رح في ستين داهية وإياك أن تعتب الباب وإلا قطعت رجلك. وحين حاولت أن أرد عليه بصق في وجهي وصفعني. كان لا بد أن أغادر البيت وأن أغور من وجهه كما قال. ولم يكن هناك فائدة من محاولة الصلح معه أو استعطافه بعد أن أهانني أمام الناس أكثر من مرة. وبكت أمي وهي تراني أعد حقيبتي وقالت: أبوك يا ابني على كل حال. رح بس يده ومصيره يرضى عنك. صرخت فيها وقلت إن العيشة معه أصبحت تكفر وإن بلاد الله واسعة، وقلت إنني سأعرفه شغله وآخذ حقي منه، وإن شاء الله سأحجر عليه وأدخله المورستان. وأعطتني أمي جنيها وضعته في جيبي مع الجنيهين اللذين كانا معي، ورزعت الباب خلفي وأنا أسمعها تدعو لي بأن يصلح الله حالي ويخزي الشيطان عني.

كان لا بد من وضع حد لتصرفات أبي التي زادت عن كل حد. لقد نسينا أنا وأمي وأخوتي الصغار، وكلهم في المدارس ويستحقون التربية، ولم يعد يسأل عنا بقرش واحد. وليته تركنا في حالنا ندبر معاشنا بأيدينا، فدكان البقالة الذي نعيش منه يكفينا ويستر علينا، ولكنه لطخ اسمنا بالوحل، حتى صار الناس كلهم في بلدنا يرددون فضائحه ويأكلون وجوهنا بتظاهرهم بالعطف علينا. لم يكتف بأن يهجر البيت ليعيش مع هانم الغازية - وبعض الألسنة تقول إنها كانت خادمة في بيت العمدة الذي لا يغيب عن مجلسه - بعد أن شاخ وزاد على الستين، بل كان يأتي غاضبا إلى الدكان كل يوم والثاني ويفرغ الدرج مما فيه ويحاسبني أيضا ويتهمني بالسرقة والإهمال وتطفيش الزبائن. وقد صبرت وشلت الحمل حتى تعبت وصعبت علي نفسي من الذل والنكد والإهانة والشتائم بسبب وبغير سبب. وكان لا بد من أن أفكر في حل يضمن لنا لقمة العيش، ويريحنا من غارات أبي علينا ويسترنا من فضائحه؛ فقررت أن أسافر إلى المركز وأسأل عن رجل أصله من بلدنا اسمه حسان يشتغل وكيل محام هناك وأعرف منه إن كان من الممكن أن أرفع دعوى الحجر على أبي. وهكذا سافرت في ذلك اليوم ووصلت متعبا في المساء إلى الفندق الرخيص الذي دلوني على تلك الحجرة فيه.

وفتحت عيني فجأة على أثر الإحساس بأنفاس حارة تصدم وجهي ، وكان أول ما وقعت عليه وجها أحمر منتفخا لم أتبين من ملامحه في أول الأمر شيئا. واعتدلت في الفراش محاولا أن أعتذر عن وجودي في الحجرة وأن أشرح للرجل الذي كان منهمكا في خلع ملابسه أنه لم يكن لي يد في مشاركته في الحجرة في تلك الليلة. وجاءني صوت عميق خشن يقول: مساء الخير. فرددت السلام مرتبكا ورفعت يدي إلى رأسي فأصلحت شعري واعتدلت في جلستي على الفراش. - كنت تشخر شخيرا عاليا؛ يظهر أنك تعبان.

نظرت إليه ولاحظت وجهه الضخم ورأسه الصلعاء والشعر الكثيف على صدره، وقلت: من السفر فقط. أرجو ألا أقلقك الليلة. - أبدا أبدا، أنا دائما نومي ثقيل.

ثم بعد لحظة وهو يرتدي جاكتة البيجامة: غريب؟ - نعم. جئت أستشير وكيل محام من بلدنا في مسألة، وربما أرفع دعوى في المحكمة. - في المحكمة؟ إذن فسوف تنظر أمامي.

اعتدلت أكثر في الفراش وسألت: حضرتك ...؟

فقاطعني قائلا: نعم، قاض في المحكمة الجزئية. أحضر إلى هنا يومين في الأسبوع وأرجع لمصر بعد الظهر.

وازداد انتباهي فأردت أن أنتهز الفرصة وأستشيره في حكايتي، ورحت أشرح له قصتي مع أبي وهو يستمع في هدوء. وحين انتهيت من سردها عليه، سألني وهو يبتسم: ما اسمك؟

ومع أن السؤال بدا لي خارجا عن الموضوع فقد أجبت: يونس، يونس عبد العظيم.

أطرق برأسه حتى كادت تلامس الشعر الأسود الكثيف في صدره، وقال: يونس هيه، ماذا تريد؟

أفلت مني الرد الطائش كأنني أصرخ في حلم، فهتفت: أريد العدالة.

زاد من تقطيب وجهه، ومسح ذقنه بكفه قبل أن يقول: يونس! ويبحث عن العدالة! نفس الحكاية القديمة!

لم أفهم شيئا فقلت: هل ترى سعادتك فائدة من الدعوى؟ نهض على قدميه وأخذ يتمشى في الحجرة التي بدت ضيقة وهو يذرعها بخطواته الواسعة المتأنية ثم وقف فجأة وأشار إلي بيده الضخمة: هل تعرف ماذا جرى له؟

سألت: لمن يا سعادة البيه؟

فقال في عصبية: ليونس طبعا. قلت لك ليونس!

قلت وقد ازدادت حيرتي: وأين جرى له هذا؟

قال كأنه لم يسمعني: في جوف الحوت طبعا!

ولم أفهم عن أي شيء يتكلم؛ فرأيت من الخير أن أسكت. وزادت مخاوفي وأنا أراه يقترب من السرير ويشخط في كأنه يوقظ ميتا: عار عليك ألا تعرف!

بلعت ريقي وأخذت أفتش في رأسي عن كلمة أهدئه بها وأعتذر له بأنني رجل غريب ولا أعرف عن الموضوع شيئا. ولكنني اطمأننت قليلا حين رأيته يدور على نفسه ويسير خطوات في الحجرة ثم يقف في وسطها تماما ويشبك ذراعيه حول صدره ويحك ذقنه بيده ثم يخطب قائلا: الحقيقة أن الآراء مختلفة في هذه المسألة، مختلفة كل الاختلاف حتى إنني أعذرك إذا اكتشفت أنها متعارضة مع بعضها. هناك من يقولون مثلا إن يونس بعد أن يئس من أهل نينوى سار إلى شاطئ البحر. وهناك من يقولون أيضا إن الله هو الذي طرده بنفسه من المدينة العظيمة. وعلى كل حال فقد كان من رأيه أنه فشل في مهمته وأنه لم يعد هناك مبرر لحياته على الإطلاق. تستطيع أيضا أن تقول إنه كان خجلا من أن يراه الله على هذه الحالة ولم يعرف أين يداري وجهه من الخجل. وبينما كان يرسل بصره على البحر رأى جسما أبيض هائلا يطفو على سطح الماء من بعيد. كان يمكن أن يظنه سفينة لولا أنه رآه يغطس بعد قليل، فأدرك بخبرته الطويلة بالحياة في شواطئ البحار أنه حوت عظيم، وتمنى من قلبه لو اقترب الحوت منه وفتح فمه وابتلعه. وانتهز فرصة وجود سفينة على الشاطئ كان ملاحوها يستعدون لرحلة صيد فركب معهم، وعندما توسطت بهم السفينة البحر ورأوا الحوت مقبلا عليهم والسفينة تهتز كالريشة على سطح الماء، وجد يونس الفرصة سانحة لتحقيق أمنيته؛ فقفز من السفينة إلى الماء، وكان الحوت ساعتها فاتحا فمه الرهيب فأسرع يونس فقذف بنفسه فيه.

قلت لأؤكد أنني أتابع الكلام وأمنع شرا يمكن أن يلحق بي في كل لحظة: هل تقول سعادتك أنه قذف بنفسه داخل الحوت؟

فقال في حماس الأطفال: عليك نور، تمام كما تقول، والآراء تختلف هنا أيضا فيما فعله في جوف الحوت، ماذا تظن أنه فعل هناك؟

قلت وأنا أكتم الضحك: وماذا يستطيع أن يفعل يا سيدي، إلا إذا كانت اللقمة في المعدة تفعل شيئا؟!

فهز رأسه في أسف، وعاد يقول: أنت مخطئ، لقد ظل حيا كما يعلم الجميع ثلاثة أيام وثلاث ليال، ولكن ماذا فعل في هذه المدة؟ هذا هو موضع الخلاف.

خلص ذراعيه من على صدره، وشبكهما خلف ظهره، وأخذ يسير في الغرفة محني الظهر، وهو يقول: البعض يقول إنه بمجرد أن دخل جوف الحوت أخذ يفتش عن ركن منعزل يلجأ إليه، وقد تعب بالطبع ساعات طويلة قبل أن يجد هذا الركن البعيد، خصوصا إذا عرفت أنه كان يسير في الظلام، ويصطدم بأنواع مختلفة من الأسماك وطيور البحر وصخور اللؤلؤ والمرجان، وفي ركنه البعيد استطاع أخيرا أن يخلو إلى نفسه ويحاسبها ويراها واضحة كأنه يضعها على كفه، بكى كثيرا ودعا الله أن يريحه ويغفر له، بل ربما توسل إليه أن يعفيه من عمله، ويمكنك أن تتخيل أنه برغم بكائه وتوسلاته كان في غاية السعادة؛ لأنه وجد أخيرا المكان الذي يستريح فيه راحة مطلقة من العالم والبشر والتاريخ، بل إذا شئت أيضا من السماء ومن الله نفسه، ولكن ربما لا يعجبك هذا الرأي، فأقول لك إن هناك فريقا آخر يرى رأيا مختلفا، ماذا تظن أنت؟

فقلت وأنا أدعو الله أن ينجيني من هذه الليلة، وأتلفت حولي لأبحث عن باب أو شباك يمكن أن أفلت منه إذا اضطر الأمر: لا أدري يا سيدي، ولكن ربما كان متعبا مثلا فنام ولم يشعر بشيء.

ولم تفد هذه الإشارة، بل زادته حماسا في بيان وجهه النظر التي لم أعرفها بعد: غلط، غلط! هذا خطأ يقع فيه مثلك أغلب الناس؛ فيونس لم يكن في موقف يسمح له بأن يغمض عينيه لحظة، على الرغم من أنه لو فتحهما فلن يرى شيئا في الظلام، لقد مضى في رأي بعض الشراح يختبر المكان ويفحصه بكل حواسه، وكان اعتماده بالطبع على يديه قبل كل شيء آخر، كان أول همه في البداية أن يعثر على جدران الحوت أو سطحه حتى يعرف طبيعة المكان الذي سيقيم فيه، ولما يئس من العثور على حدوده صرف نظره عن ذلك، وبدأ يبذل جهوده للتعرف على الوسط الجديد؛ لكي يستطيع أن يألفه ويتكيف معه. بالطبع كانت هناك عقبات كثيرة، وكان لا بد له أن يواجهها ويتغلب عليها أو على الأقل يعترف بها ويستسلم لها. فالأسماك المتوحشة - وبخاصة سمك القرش - التي كانت تسبح في جوف الحوت لم تكن تخلو من الخطر عليه، وكان لا بد له أن يبحث عن شيء حاد يتسلح به، وكان من السهل عليه أن يعثر عليه أيضا في هذا العالم المعتم المزدحم بكل شيء. «طبيعي أنك لن تسألني عن طعامه وشرابه، فالسؤال هنا سطحي جدا؛ إذ لم تكن المشكلة عنده أن يجد الطعام، بل كانت المشكلة الحقيقية أن يختار بين أصناف الطعام الحي والميت التي لا آخر لها، والتي كان يكفي أن يمد يده ليقبض عليها، وطبيعي أيضا أن السؤال عن المكان الذي كان يبيت فيه سؤال تافه أيضا؛ إذ كيف يتعب في البحث عن فراش وثير يمكنه أن يصنعه من الأعشاب أو من أخشاب السفن الغارقة التي كان يبتلعها الحوت؟!» هذان هما الرأيان المتصلان بحياة يونس في جوف الحوت، أما إذا كنت تريد أن تسأل سؤالا يستحق الاستماع إليه، فيمكنك أن تسأل عن صلته بالعالم الخارجي، وكيف كانت تتم؟ هنا أعترف لك بأن المسألة تزداد صعوبة، ولكن الراجح على كل حال أنه - لكي يعرف الزمن مثلا، أو ليتنفس هواء نقيا منعشا، أو ليطمئن على أن النور ما يزال يسطع في الخارج كلما طلعت الشمس - كان ينتظر حتى يفتح الحوت فمه من حين إلى حين - وقد تمتد المسافة بين كل فتحة وأخرى أياما أو شهورا، بل وقد تمتد في رأي البعض سنين طويلة - فيلقي نظرة على العالم الخارجي، أو يفكر جديا في الخروج من جوف الحوت، وإن كان تفكيره كما تعلم يظل تفكيرا فحسب، أما عن الحوت نفسه فالآراء مختلفة جدا في شأنه، حتى لتستطيع أن تقول إن هناك مدارس عديدة تقف لبعضها البعض بالمرصاد وتتحمس إلى حد قد يصل إلى إراقة الدماء من أجل هذا الرأي أو ذاك، فالبعض يقول إنه كان حوتا عاديا مثل الحيتان في بحار الدنيا ومحيطاتها، والبعض الآخر يقول إن الحوت هنا مجرد رمز، وإنه في الحقيقة كان يعيش في أعماق العالم نفسه حين كان يعيش في جوف الحوت، لا بل يذهب البعض إلى حد القول بأن الحوت هو الله نفسه، ابتلع يونس لا لكي ينتقم منه أو يمتحن صبره أو يعذبه، بل لأن ذلك كان أمرا طبيعيا لا بد أن يحدث ذات يوم، وأنه لم يبتلعه ويدخله في جوف حوت إلا لكي يؤكد له بصورة ملموسة أنه مثل غيره من الناس يعيش دائما داخل حوت هائل لا يمكنهم أن يهربوا منه.

تلك يا صديقي هي بعض الآراء في هذه المسألة، وهناك بالطبع آراء أخرى كثيرة مفصلة ومدعمة بالحجج والأسانيد لا أريد أن أشرحها لك حتى لا أطيل عليك، فالظاهر أنك تريد أن تنام وأنك ...

ويظهر أنني كنت بالرغم من مقاومتي الطويلة قد نمت بالفعل، فأحسست بيد تهز ضلوع صدري كأنها تريد أن تخترقه: يونس! يونس!

فتحت عيني المحمرتين، وفركتهما طويلا قبل أن أميز القاضي الذي كان محنيا علي كأنه يستمع إلى دقات قلبي، ويصيح: يونس! قلت لك أنت يونس نفسه! يونس في بطن الحوت!

لا أدري إلى الآن ماذا فعلت؟ كل ما أذكره أنني صرخت صرخة حادة، مفاجئة، مفزوعة، كصرخة المقتول وهو يحس بالسكين القاضية تخترق صدره قبل أن تصل إلى القلب، وقبل أن أغيب عن الوعي خيل إلي أن الأبواب المجاورة لنا تفتح عنوة، وصوت أقدام مسرعة تصعد السلم، وأناسا كثيرين تزدحم بهم الحجرة، ويتعالى صياحهم وضجيجهم كأن كل واحد يزعق في بوق، بل لا أخفي عليكم أنني - وأنا ما زلت راقدا في المستشفى أعالج من أثر الصدمة - لا أعرف الآن إن كان ذلك كله قد حدث لي في حجرة الفندق، أم أن ذلك الشخص الذي ظننته القاضي محمودا كان مجنونا اقتحم غرفتي، أو كان مجرد كابوس ثقيل جثم على صدري لحظة وأنا في عز النوم. إنني على كل حال ما زلت أعالج من الصدمة، وما زلت أفكر في البحث عن وكيل المحامي حسان، وفي إمكان رفع دعوى الحجر على أبي الذي نسينا أنا وأمي وأخوتي الثلاثة وطردني من بيته كما قال إلى الأبد.

1964

البيت

كان الوقت ليلا عندما وصل الدكتور، وكانت المحطة الريفية هادئة، والقمر تفاحة مشتعلة تتوسط السماء، والسكون يغرق القرية والحقول المحيطة بها، فلا يكاد يسمع الإنسان - فيما عدا نباح كلاب متفرقة - سوى صوت أنفاسها البطيئة تتصاعد إلى السماء. وعندما وقف القطار راح أخوه الأكبر سليمان وابن عمه حامد - لعله لا يذكر الآن أن له ابن عم - يجريان بين النوافذ بحثا عنه، وأخيرا سمعا صوته ينادي عليهما، هرولا نحوه وهما يشعران بالارتياح؛ لأنه أراحهما من عناء البحث بين وجوه الناس، وربما شعرا كذلك بالامتنان نحوه؛ لأنه لم يتعبهما كثيرا في تذكر وجهه الذي لا بد أنه تغير كثيرا، عانقه أخوه بحرارة واستعذب طعم شفتيه على فمه وبين عينيه. قال الدكتور لنفسه: لماذا هزل سليمان إلى هذا الحد؟ ربما كان السكر أو داء البلهارسيا اللعين! وسقط ضوء القمر على رأس أخيه فخنقته الدموع، ها هو ذا الرأس قد شاب ولم يبلغ أخوه الأربعين. يا لبلدنا الذي لا يعرف الشباب ولا يرحمه! وأقبل ابن عمه فشده إليه بعنف كاد يخنقه، وأخذ يخبط على يده فأحس كم هي خشنة أيدي الفلاحين!

حلف شقيقه أغلظ الأيمان وحمل حقيبته، وخاف من شهامة ابن عمه فسلم له الأخرى قبل أن يفتح فمه، وسار في الوسط وهو يبتسم لذكرياته ويعانق القمر والأشجار والأرض المخضرة بنظراته وضحكاته، خبط حامد على ظهره، وقال: والله سلامات، خمس سنين يا رجل! وانتزع سليمان نفسه من أحلامه وأحزانه ورفع رأسه إلى وجهه الأبيض الناعم، وقال شرفتنا يا دكتور، البلد نورت. قال الدكتور: والله وحشتموني، هل تعرف ما في نفسي الآن؟ أن أذهب إلى بيتنا وألبس الجلابية والطاقية وأتمدد على الكنبة في المنظرة. وجم سليمان ونظر إلى ابن عمه، سكتا ولم يقولا شيئا، سبح الدكتور في ذكرياته: المزلقان، شريط السكة الحديدية، الكرة الشراب، خناقاته مع الأولاد، والشعر الذي كان يكتبه وهو يتمشى على هذا الطريق.

غطت سحابة سوداء وجه القمر، هبت نسمة برد، فندم؛ لأنه لم يلبس «البلوفر». بدأت قطرات المطر تسقط رذاذها على شعره ووجهه، وسمعا من بعيد جلبة وصياحا، هتف حامد متسائلا: فرح محمد أبو إسماعيل الليلة؟

وأقبلت زفة في اتجاههم، وعندما اقتربت منهم لمح الدكتور رجالا وصبية يصيحون ويهتفون، كان بعضهم يحمل الكلوبات في يده، وفي الوسط يخطو العريس الأسمر الطويل في معطفه الأسود والطربوش على رأسه. ابتسم الدكتور، بانت السعادة على وجهه وملأت قلبه، هتف الرجال: يحيا العريس، يحيا العريس. وعندما مر الموكب الصغير بهم أوقفوه، وقالوا: سلام للجدعان، عقبال عندكم وعند أولادكم يا رجال!

تقدم الدكتور وسط الرجال وصافح العريس في حرارة، هتف رجل منبها العريس: الدكتور أحمد أبو المعاطي يا إسماعيل، عانقه العريس وشد على يده، سأله في إخلاص: إزي حال أمريكا يا دكتور؟ ورفع فلاح صوته: أين «العروسة الأمريكاني»؟ ضحك الدكتور، وقال: وبنات بلدنا يا جماعة عيبهم إيه؟ قال الجميع: والله فيك الخير. فتحت امرأة باب بيت مجاور وزغردت، صاحت بأعلى صوتها: والله لازم تشربوا الشربات، هتف العريس عندما أقبلت المرأة بالصينية وعليها الأكواب الحمراء: والله لا انت شارب الأول يا دكتور. زغردت المرأة وشرب الجميع. شد الدكتور على يد العريس مرة أخرى، وقال له وهو يضحك: مبروك، شد حيلك «يا أبو إسماعيل.»

كانت قطرات المطر لا تزال تسقط متفرقة، والقمر يحاول أن يطل من بين السحب السوداء، وكان الدكتور يبتسم في سره، فلم يلاحظ أن حامدا يهمس في أذن شقيقه الذي سار مطرق الرأس، قال سليمان: والله أوحشتنا يا دكتور، حمدا لله على السلامة. قال الدكتور ضاحكا: الله يسلمك. والله أنتم الذين أوحشتموني، كيف حال صلاح وجميلة؟ (كان هذان هما اسمي طفلي سليمان.)

قال شقيقه: «يبوسان الأيادي»، إن شاء الله تقعد معنا يومين؟ قال الدكتور: كله على الله. الشغل في مصر ينتظرني.

قال سليمان: في الجامعة إن شاء الله؟

قال الدكتور: لا، في المؤسسة.

هتف حامد: مؤسسة اللحوم؟

ضحك الدكتور بصوت جعله يتعجب من نفسه: كل شيء جائز لكنهم طلبوني في مؤسسة الطاقة الذرية. قال حامد: الذرية؟ يعني حضرتك دكتور في الذرية. قال سليمان ينبهه: يا جدع ده دكتور في الدرة، أول واحد في المديرية كلها. قال حامد وكأنه فهم: آه! طيب كنت قل من الأول. ضحك الدكتور وأمسك برأس حامد وقبله، لم يدر لماذا فعل هذا؟!

سار الثلاثة صامتين، كان الدكتور يسأل بين حين وحين عن الزرع والمحصول، أو يستفهم عن عيط يبدو من بعيد، أو عن التقاوي الجديدة وحال الناس مع الجمعية والدودة التي قرأ وهو في البعثة عن بهدلتها للقطن والفلاحين، وعاد يسأل عن البيت والمنظرة، وهل يسهرون فيها كالعادة في رمضان؟ ثم التفت لأخيه، وقال: لم تفدني عن صحة الوالد؟ هل وصلتكم آخر شحنة من الدواء؟ سمع حامد يهمس في أذن أخيه بصوت مسموع: قل له يا رجل، قل له.

قال سليمان بعد أن تغلب على تردده: اسمع يا دكتور.

قال الدكتور: تكلم يا سليمان، خير إن شاء الله. وأراد سليمان أن يقول خيرا، أو يقول شيئا آخر حين رن في سمعه صوت رجال يهتفون: تفضلوا يا جماعة، تفضلوا يا إخواننا، نفسكم معنا يا شيخ سليمان، ونظروا فرأوا جماعة من الفلاحين ملتفين حول شيء لم يره الدكتور، ولمح الدكتور بقرة تقف بعيدا عنهم بقليل، ورجلا يمسك بحبل مربوط حول رقبتها، أما الجماعة التي نادت عليهم فكان معظمهم راكعا على الأرض حول ثور ممدد بطوله كالبطل الصريع، وكان بعضهم يمسك برأسه أو قرنيه وبعضهم برجليه الأماميتين والخلفيتين، في حين راح رجلان يقيمانه من ظهره ويدفعانه بكل قوتهما على الوقوف.

تقدم الدكتور بعد أن قرأ السلام، فاقتحم الحلقة حتى اقترب من الثور. قال رجل: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي. وقال آخر عنك أنت يا بيه، لا مؤاخذة الثور داخ شوية ووقع على الأرض. ضحك بعض الرجال. تقدم سليمان وحامد ليساعدا في رفع الثور عن الأرض. لاحظ الدكتور أن الثور ينهج ويزفر بصوت كحشرجة الموت. أقبل على رأسه يفحصه، ورأى كيف تنظر إليه عيناه الواسعتان. قال أحد الرجال بعد أن عرف من حامد أنه دكتور: يدك فيها البركة يا دكتور. ربنا يجعل فيها الشفا إن شاء الله. نبه سليمان إلى أن شقيقه دكتور في الذرة لا في الثيران. لم يفهم الرجل فاستمر يقول: أصل لا مؤاخذة كنا ننططه على البقرة لكن يظهر إن الثيران مثلنا ما عاد فيها حيل! ضحك أحد الرجال، وكان يمسك بساق الثور ويدلكها: طيب والنبي مصيره ينطحك يا عبد الله.

سأل حامد فجأة وكان يجاهد مع الرجال في رفع الثور: إلا قل لي يا سي الدكتور، صحيح أمريكا فيها ناطحات السحاب؟ يعني دول لا مؤاخذة ثيران ولا بقر؟ قال سليمان والله أنتم اللي تعيشوا وتموتوا عالم بقر!

ضحك الرجال وضحك الدكتور، قال في نفسه: ما أجمل هذا كله! ما أبسط الناس هنا! ما أطيب الفلاحين!

نجح الرجال أخيرا في إيقاف الثور، أمسك به اثنان من الحبل واثنان من صدره. قال أحد الفلاحين: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي. أصلح كلامه فلاح آخر، وقال: كله بأنفاس سعادة الدكتور. ربت الدكتور بيده على ظهر الثور ثم سلم على الجميع. تذكر أنه طالما حضر في صباه تنطيط الثيران، تعجب لأنه لا يزال يذكر الشيخ «دسوقي» حكيم البهائم كما كان يسميه. قال لنفسه وهو يبتسم: والله زمان! ثم ضحك من قلب صاف، وقال: يسعد الله مساءكم.

سار الثلاثة الآن على طريق المزلقان، عاد سليمان إلى صمته ووجومه. وعاد حامد يهمس في أذنه. قال الدكتور: نروح على البيت يا جماعة؟

قال سليمان: نتمشى شوية في الطراوة.

كان المطر قد توقف والسحابة اختفت من على وجه القمر، سأل الدكتور بعد أن تطلع إلى وجه أخيه ثم إلى السماء: هل تخفي عني شيئا يا سليمان؟ قال حامد: اسمع يا سي الدكتور. أكمل سليمان : أنت رجل مؤمن وموحد بالله. قال الدكتور وقد داهمه إحساس غامض: تكلموا يا جماعة، أنا كنت حاسس بكل شيء، تشجع سليمان وقال: أبوك الله يرحمه مات من سنتين! كان نفسي أكتب لك، لكن أختك الكبيرة خافت عليك. صمت الدكتور قليلا، تطلع إلى وجه أخيه، ثم إلى القمر وسكت، فرت دمعة من عينه حين قال شقيقه: عملنا له مشهد عمر البلد ما شافته، نصبنا «الصيوان» في أرض الباشا وعملنا له أعظم مأتم، كانت ليلة عظيمة وربنا أكرمه آخر كرم. قال الدكتور بعد قليل: كان نفسي أشوفه قبل ما يموت. قال سليمان: الله يرحمه، كان يدعو لك ويسأل عنك كثيرا. قال الدكتور: تعب في الآخر يا سليمان؟ قال سليمان: أي نعم، الشلل بعيد عنك، كان ساعات يغيب عن وعيه ولما يفوق يسألني: ابننا مش ها يرجع يا ابني؟ أقول له: أنت مش فاكر اسمه يا با؟ فيقول: ابننا اللي في بلاد بره، أقول له: إن شاء الله يرجع لما يأخذ الدكتوراه. يقول لي: ربنا يسلمه يا ابني ويسلم كل اللي زيه. قال الدكتور: ألم تكن تقرأ عليه خطاباتي؟ قال سليمان: أقرأ عليه؟ ده ساعات كان ينساك واقعد أفكره بيك، وفي مرة جبت له صورتك وأنت في أمريكا مع أصحابك قعد يطل فيها ويقول: مين ده يا ابني؟ قلت له: ده ابننا أحمد يا با. يسألني: إحنا لنا ابن بالاسم ده يا ابني؟ ثم يسكت ويتوه وبعدها يقول: ربنا يسلمه هو واللي معاه.

صمت الدكتور. فكر في نفسه: لو كنت أعرف لحضرت، ليتني رأيته قبل أن يموت. والتفت ناحية الجبانة الراقدة وراء المزلقان في حضن التل، وتصور نفسه وهو يقف في الصباح على قبر أبيه ويقرأ الفاتحة، أراد أن يفعل شيئا ليقنع أخاه بأنه سلم أمره لله، خنقته الدموع وخجل؛ لأنه لا يستطيع أن يبكي، تذكر أنه كان من عادته في مثل هذه الأحوال أن يتجمد كالحجر وحين يختلي بنفسه ينفجر كالطفل في البكاء، حاول أن يبتسم وتشجع، وقال : البركة فيك يا سليمان وفي الأولاد. قال سليمان وقد أحس بالارتياح: إيه؟ البركة فيك أنت يا دكتور، ربنا قادر يكتب لك طول العمر وتحيي اسم والدك وبلدك. وشعر حامد أن من واجبه أن يقول شيئا ففتح فمه مترددا، وقال: الموت علينا حق يا سي الدكتور وأنت سيد العارفين. سكت الدكتور لحظة شعر فيها بالتعب يتسرب إلى جسده، تمنى أن يرى نفسه راقدا على الكنبة العتيقة في المنضرة، في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أبوه بعد الصلاة ليقرأ القرآن، قال لنفسه: نعم سأحيي ذكرى المرحوم بأبحاثي وتجاربي، ولكنه تشكك في كلامه، فسأل: ولكن ماذا يستفيد؟ ورأى أن كل ما سيفعله لن يخلصه من الخجل الذي يحس به نحو أبيه.

قال لأخيه ضاحكا: المهم أنك معمر البيت. تجهم أخوه على غير ما يتوقع، لم يقل شيئا. لاحظ أن حامدا قد بدا عليه الحرج وتأوه من ثقل الحقيقة بصوت مسموع، ظهرت من بعيد عربة نقل كبيرة تقترب من المزلقان، سطح الكشاف عليهم فأضاء وجوههم، ووضع الدكتور يديه أمام عينيه. اقتربت العربة ورآها تتكدس بالبشر: رجال ونساء وصبية يصفقون ويغنون ويهتفون، كانت أصواتهم التي يتداخل فيها الصياح والزغاريد تظهر بؤس أصحابها أكثر مما تخفيه، تأملهم طويلا وهم يمرون عليه ويشيرون بأيديهم النحيلة السمراء ويرددون: «عطشان يا صبايا دلوني على السبيل.»

لاحظ وجوههم الشاحبة الصفراء وجلاليبهم القذرة وطواقيهم التي تغطي رءوسا متعبة من لهيب الشمس واللف والجري في بلاد الله.

قال سليمان: الأنفار خلصوا الجمع ومروحين. تذكر الدكتور أنهم عمال التراحيل، وأعجب بنفسه؛ لأنه لا يزال يذكر هذه التسمية، قال لنفسه: إنه طالما أشفق عليهم وهو صغير، سألها: ترى هل يظلون كذلك في عصر الذرة؟ عاد يلح عليها بالسؤال: ماذا تفيد الدكتوراة إن لم تساعد هؤلاء؟ أحس في لحظة كأن كل جهده وعمره ضاع عبثا. تمثل له الغلب والشقاء على لقمة العيش والجري وراء الأرزاق. بدا له أنه طوفان أسود يغرق كل المعادلات التي تعب في فهمها والمعادلات التي شقي في اكتشافها. قال سليمان وقد لاحظ اهتمامه بهم : ناس طيبين وعلى الله، عمر البلد ما اشتكت منهم، دائما ضيافتهم خفيفة. سكت الدكتور ولم يرد.

عبروا المزلقان وساروا في الطريق المؤدي إلى البيت. وقف سليمان لحظة ثم قال: باقول يا دكتور نتعشى عندي الليلة. سأل الدكتور مستغربا: عندك؟

أسعفه حامد: أصل يعني سي سليمان بنى له بيت. عقبال عندك إن شاء الله تبني لك فيللا في مصر ونحضر لزيارتك. قال الدكتور: أخفيت عني هذا أيضا. قال سليمان محاولا الابتسام: قلت أعملها مفاجأة. قطب الدكتور وجهه، وقال: لا. نفسي أروح بيتنا الأول، الصبح أزورك وأتغدى مع الأولاد. تردد سليمان، أشاح حامد بوجهه بعيدا. ضحك الدكتور وقال: الله، يالله بنا على البيت.

سار الدكتور في المقدمة. لم يجد سليمان وحامد بدا من متابعته، تهامسا قليلا، ولكن لم يجرؤ أحد منهما على مصارحته، كان هو أيضا مشغولا عنهما بذكرياته عن أبيه وأمه وإخوته الذين ماتوا في طفولتهم، والحجرة الصغيرة الدافئة التي ولد فيها، والحمام الضيق والطست الذي كان دائما ينزلق فيه، وكان سيره الحثيث واستغراقه في الذكريات لا يمنعانه من تحية المارة والتطلع إلى البيوت التي لم يغير شكلها الزمان، والابتسام لكل ما يراه من مبان أو أشجار أو بهائم أو مخلوقات.

لم يكن البيت بعيدا عن المزلقان فلا يكاد الإنسان يخطو عشرين أو ثلاثين مترا في الطريق المنحدر منه، ثم ينعطف في طريق آخر ضيق معروف بالطاحونة التي أقيمت في نهايته، ويخرج منه إلى ساحة صغيرة تطل على سوق القرية من ناحية وأحد المقاهي المشهورة بشاعر الربابة من ناحية أخرى - حتى يرى البيت بعدهما بقليل.

كان سليمان وحامد يسيران وراءه صامتين، حاول سليمان أكثر من مرة أن يقول شيئا، لكنه لم يعرف كيف يبدأ؟ ولا ماذا يقول؟ ألح عليه حامد وقرص ذراعه وخبطه على ظهره، لكنه كان يهمس له: خبر أبيه أهون. قل له أنت يا عم؛ لذلك آثرا السكوت إلى أن نبهتهما صيحة خرجت من الدكتور: سليمان، حامد، ماذا حدث؟ اقتربا منه، ووضعا الحقائب على الأرض ، نفخ سليمان في يده وطقطق حامد أصابعه. لم تخطئ عين الدكتور ولا أخطأت ذاكرته، لم يحتج أن يطيل البحث عن البيت، كانت هناك عروق من الخشب قائمة، وأكوام من التراب مكدسة، ورجل أو اثنان يجمعان الأخشاب على عربة كارو، وثالث خلع جلبابه وبقي عاري الصدر بسرواله الطويل يرفع التراب في مقطف، ويكومه على جانب الطريق.

هتف الدكتور: بيتنا يا سليمان؟ تقدم منه سليمان ووضع ذراعه على كتفه.

قال مطرقا برأسه: كان لا بد عنها يا دكتور. البيت وقع وجاءته الإزالة.

سأل الدكتور: الإزالة؟ من الكلب الذي أمر بها؟ قال سليمان: أنا عملت الصالح يا حبيبي. أختك أخذت حقها، وحقك محفوظ إن شاء الله. قال الدكتور وقد أحس بجرحه: حقي؟ من الذي يتكلم عن حقوق؟ لماذا لم تأخذ رأيي؟

أراد أن يصرخ في وجهه، أن يلعنه، ويصفه بالقسوة والتوحش والجشع، أن يستحلفه بذكريات طفولته وشبابه، بالدفء الذي راح، بالحب الذي ضاع، بالأيام الحلوة والمرة التي عاشها فيه، لم يستطع أن يفتح فمه، بدا له الاحتجاج سذاجة لا تليق به، والصراخ اتهاما لا داعي له.

نظر إلى سليمان وحامد فوجدهما صامتين، رأي في صمتهما طلبا للصفح ورغبة في التسليم، أشار إلى البيت وأراد أن يسأل: هل هذا هو بيتنا؟ وجد أن السؤال سيضيع في الفراغ.

توقف في مكانه كأنه شد إلى الأرض بمسامير. أخذ يراقب العمال الذين يقذفون بالأخشاب في رتابة على ظهر العربة والصوت الذي تحدثه كأنه تكسر ضلوعه.

لم يحس بأخيه الذي اقترب منه ومد ذراعه فوضعها على كتفه، وعندما شعر بملمسها انتفض جسده، وانزلقت قدماه فجأة فسقط على وجهه!

تناثر الطين حوله، غاص بصدره في الوحل، دخلت قطع منه في عينه ولطخت جبهته.

أسرع أخوه وابن عمه يساعدانه، وجد نفسه يتشبث بالأرض، وينشج وهو يشير للبيت، ويضرب بيديه في الطين. قال لنفسه: الدكتور غرق في الوحل. الدكتور لن ينقذه منه أحد.

انفجر البركان من صدره واشتد نشيجه، سمع نفسه يقول: أبي، أبي. انهدم برج بابل. سدت كل الأبواب!

1987

الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1

الجبانة الريفية ساكنة في حضن الوحشة والموت، والقمر معلق في وسط السماء الصافية كالقنديل الأخضر، والقبور تبدو في ضوئه الفضي كأسراب الحمام الوديع مستسلمة لقدرها وحزينة وصامتة.

من هذا الذي يزور الأموات في عز الليل؟ لا هو زوجة ولا أم، ولا هو أب ولا ابن، بل مخلوق يسير على أربع، عجوز نحيل ومسكين، ولا بد أيضا أنه جائع. شق طريقه بين الأضرحة والقبور، حتى وصل إلى أحدها، فوقف أمامه يتشمم رائحته كأنه يتحقق منه!

كان قبرا جديدا لا تزال رائحة الأسمنت الذي وضع على فتحته تفوح منه، وأوراق الشجر التي وضعت على سطحه تعبق بندى الخضرة، وحبر الكتابة الرديئة التي تشهد باسم صاحبه تزكم الأنف، وآثار الأقدام التي غادرته منذ ساعات ظاهرة على الأرض. مد الحيوان المسكين ساقيه الأماميتين وخبط على جدار القبر كمن يطرق باب حبيب! سمع نشبا من الداخل وخبطات كضرب الفأس على أرض صلبة، ثم انفتح السقف وبرز منه وجه شاحب لا يزال الكفن يغطيه، رفع الميت القماش الأبيض من على وجهه فبان رأسه الأصلع ووجهه المصفر النحيل، وفتح عينيه مرات قبل أن يسأل: من؟

قال الزائر: أنا المتهم بدم ابن يعقوب.

قرب الميت وجهه منه، وأخرج يده بصعوبة وأشار إليه. أنت؟

قال الزائر: نعم أنا الذئب. وأنت؟

قال الميت مستنكرا: لا بد أنك تعرفني، وإلا فما الذي جعلك تقلقني في هذه الساعة؟

خفض الزائر ذو الأقدام الأربع والجسد النحيل والبطن الجائع رأسه خجلا أو حزنا، وقال: بالطبع أعرف كل شيء. أنت مدرس القرية الذي مات ليلة أمس ودفنوه اليوم!

قال المدرس بصوت مرتفع كاد يزعج حوله الراقدين: تنتهز الفرصة؟

رد الذئب في انكسار وخيبة أمل: بالعكس، لقد انتظرت هذا اليوم من مدة طويلة.

صاح المدرس غاضبا: لأنني الفريسة الجديدة؟

قال الذئب في هدوء كأنه يعاتبه: أبدا أبدا؛ لأنك مدرس النحو الوحيد في هذه الجبانة.

سأل المدرس: ألم يقل لك أحد: إن عظمي أكثر جدا من لحمي؟

قال الذئب: ما زلت تسيء فهمي، هكذا أنتم البشر لا تتغيرون!

قال المدرس وهو لا يزال متشككا في نواياه: ماذا تريد إذن؟

قال الذئب وهو يرفع رأسه إليه في ابتهال: أريد أن تضعني في جملة مفيدة!

ضحك المدرس ضحكة عالية، وقال: أضع الذئب في جملة مفيدة؟! مستحيل!

توسل الذئب باكيا: أرجوك، هذه خدمة العمر كله، جملة واحدة وأذهب.

أراد المدرس أن يداعبه فسأل: إلى أين؟

قال الذئب في صوت ضعيف: إلى زوجتي وعيالي.

ضحك المدرس مرة أخرى، وغلبه الضحك حتى اضطر أن يضع يده الباردة على فمه لكيلا يوقظ الحارس: إذن فخذ هذه الجملة: الذئب له زوجة وعيال.

قال الذئب متبرما: ألا تجد سوى هذه الجملة الضارة التي سببت شقائي؟

قال المدرس وقد أمعن في العبث: إذن فخذ هذه: الذئب مسئول عن دم ابن يعقوب.

قال الذئب يائسا: لقد قلتها على سبل المداعبة، ربما لأنها كذبة مشهورة، ألم يثبت القرآن نفسه براءتي؟

تعجب المدرس من علمه، وقال: معك حق، إن الله نفسه قد برأك من دمه، ولكن ربما كان ذلك مجرد صدفة.

سأل الذئب: صدفة؟ إنني لم أقتله فعلا، لقد حاول إخوته أن يقتلوه. كما يعرف كل تلميذ صغير.

قال المدرس: نعم رموه في قاع الجب، ولو كنت وجدته لما رحمته.

قال الذئب غاضبا: هذه كذبة أيضا، فأنا لم أعثر عليه ولم أقتله؛ إن الناس ترتكب الجريمة وتلصقها بي، أرجوك ابحث لي عن جملة مفيدة.

تلفت المدرس حوله، رفع عينيه إلى السماء لحظة ثم خفضها إلى الأرض ليتيقن مما حوله.

رأى الذئب يقف أمامه حقيقة لا خيالا، ورأسه الشاحب يميل نحوه في ضوء القمر، وظله الداكن المغبر يمتد تحته، قال: إذن فخذ هذه الجملة: الذئب يكلم مدرس القرية.

قال الذئب وفي صوته خيبة أمل شديدة: وهل تسمى هذه جملة مفيدة؟ إنني أكلمك كما ترى، ولم أستفد من كلامك شيئا حتى الآن!

لم يدر المدرس هل يضحك أو يأخذ كلامه مأخذ الجد؟ وأراد أن يجرب معه طريقة أخرى فقال: الذئب يأكل الشاة.

قال الذئب : هذا ما يقوله الناس جميعا ، وليس في جملتك جديد.

قال المدرس محتجا: ولكنها جملة حقيقية، هل تنكر هذا أيضا؟

خبط الذئب بمخالبه على جدار القبر متعجبا قبل أن يقول: حتى مدرس النحو يقول هذا! كنت أظن أنك لا تصدق الأكاذيب المشهورة، ما الفرق إذن بين العالم والجاهل؟

قال المدرس: ولكنه أمر لا شك فيه، فأنت تأكل الأغنام، وتفزع الرعاة منذ الأزل! وأقدم الحكايات والخرافات التي وردت إلينا تؤكد هذا.

قال الذئب: الحكايات والخرافات، بالطبع، ولكن الحقيقة تخالف هذا تماما.

سأل المدرس متحديا: وما الحقيقة؟

قال الذئب مدافعا عن نفسه: الحقيقة أنني أهاجم الأغنام فعلا وقد أهاجم البشر

ضحك المدرس حتى كاد يستلقي على قفاه، وقال: تأكل لحمها ولا تقتلها؟! ما هذه البلاغة كلها؟!

قال الذئب متضايقا: هل تعرف لماذا آكل لحمها ولا أقتلها؟

سأل المدرس في خبث: ولماذا؟

قال الذئب متحمسا: لأنني أهاجمها بدافع الطبيعة وحده، أعني أن الطبيعة في هي التي تأكل، فإذا شبعت لم أهاجم أحدا ولم أعتد على أحد.

قال المدرس وما الفرق بين الأكل والقتل؟ ما دمت تأكل الشاة فأنت تقتلها.

قال الذئب: الفرق كبير؛ إنني آكل اللحم الذي يصادفني، سواء كان لحم جدي أو شاة أو فلاح أو راع، آكله لأنني جائع، ولأن الطبيعة تريد أن تحافظ على جنس الذئاب عن طريق أنيابي.

قال المدرس: إذن فلا فرق بين الأمرين، أنت تأكل لحم الفريسة فتموت: أي أنك تقتلها في نهاية الأمر!

غضب الذئب وصاح محتدا: أرجوك لا تذكر كلمة القتل على لسانك، هذه إهانة لجنس الذئاب كله، وأنتم - المدرسين - مسئولون عنها.

قال المدرس محاولا أن يسترضيه: ولماذا بالله عليك؟

قال الذئب: لأنكم تعلمون التلاميذ بالصور والحكايات والخرافات أن الذئاب تقتل وتسفك الدماء البريئة، ما من كتاب من كتبكم يخلو من صورة بشعة لواحد منا وهو ينهش لحم خروف ضعيف مسكين.

قال المدرس: وما ذنبنا إذا كنتم تقتلون بالفعل؟

قال الذئب: قلت لك ألف مرة نحن لا نقتل، نحن لا نقتل، إلى متى أكرر لك هذا حتى تفهم؟!

قال المدرس: وماذا تسمي عملكم إذن؟

قال الذئب: سمه كما تشاء، فهذه حرفتكم، أما نحن فلا نعرف القتل؛ إنني مثلا لا آكل فخذ جمل لأنني أكرهه أو أنتقم منه أو من أجداده، كما تقول حكايتكم السخيفة، إنني أشبع جوعي وحسب، أما أنتم ...

قال المدرس: هل تقصد المدرسين؟

قال الذئب: المدرسين وغير المدرسين. أنتم أبناء البشر جميعا تقتلون قتلا حقيقيا. إن حياتكم كما تعلم كلها قتل في قتل، وتاريخكم هو تاريخ القتل، هل تظن أنك وحدك الذي يفهم في التاريخ؟ من عهد الحجر والحربة والسهم إلى عهد الرصاصة والقنبلة والصاروخ، قتل في قتل.

قال المدرس معتذرا: ربما يكون معك الحق يا صديقي، ولكنني كما تعلم مدرس بريء.

قال الذئب وقد بدت عليه الراحة: مثلي تماما، ذئب بريء.

قال المدرس: أعترف لك بأن هذا التعبير لا يريد أن يدخل عقلي تماما. ولكنني أؤكد لك أنني عشت طول حياتي أؤمن بأن الطبيعة خيرة، وأن الإنسان في صميمه خير، وإذا كانت التجربة والواقع والصراع من أجل الحياة قد غيرته، فلا بد أن يعود يوما إلى طبيعته الأصلية.

قال الذئب: هذا هو الذي جعلهم يختارونك مدرسا.

سأل المدرس: ماذا تعني؟

قال الذئب: أعني أنهم وجدوك على نياتك، فاختاروك لهذه المهنة.

صاح المدرس محتجا: بل أنا الذي اخترتها عن عقيدة وإيمان، ولو عشت حياتي مرة أخرى لما اخترت غيرها.

قال الذئب لأنك لست ذئبا كما تصورون الذئاب، ولو كنت مثلهم لاخترت أن تكون سياسيا أو محاربا أو تاجرا أو مديرا أو محتالا أو ...

قاطعه المدرس مستاء: هذه مبالغة، راجع التاريخ فستجد أن كثيرين من هؤلاء كانوا مثال الخير والبطولة والفداء والتضحية.

قال الذئب ساخطا: يا سيدي متى تفهم؟ قلت لك: إن الإنسان للإنسان ذئب، لست أنا الذي قال هذا، هل تحب أن أقولها لك أيضا باللاتينية؟

قال المدرس مستعطفا: أرجوك، إلا اللاتيني، فلم أكره شيئا مثله.

نظر إليه الذئب وأطال النظر. كانت عينه تبحث عن الملابس التي يرتديها فلا تجد إلا الكفن الأبيض يحيط بهيكله النحيل، قال بعد تأمل: خذ نفسك مثلا، لو كنت ذئبا مثلهم، فهل كنت ترضى بالعيشة التي عشتها؟

قال المدرس: ولم لا؟! لقد عشت حياة سعيدة، أعلم أولادي وتلاميذي شيئا جديدا كل يوم، راضيا بمرتبي و...

قال الذئب: مرتبك! هل تعرف مقدار المرتب الذي يقبضه أولئك الذين لا يعملون شيئا؟

قال المدرس: قلت لك لقد عشت سعيدا ومت سعيدا.

قال الذئب: وتقول أيضا مت سعيدا؟ وهذا الكفن من التيل الرخيص، هل يدل على السعادة؟ وهذا القبر المهجور المتواضع!

قال المدرس: الحمد لله إنني وجدت مكانا أستريح فيه، ولم أمت مثلا في فم تمساح أو ذئب.

قال الذئب: رجعنا لاتهام الذئاب. يظهر أنه لا فائدة، لنرجع إذن إلى ما طلبته منك.

سأل المدرس: الجملة المفيدة؟

قال الذئب: وهل جئت لشيء سواها؟

قال المدرس: ليس عندي الآن سوى هذه الجملة: الذئب يأكل الشاة.

صاح الذئب ورفع رأسه إلى السماء كأنه يشهدها على ظلم الإنسان: قلت لك ليست هذه جملة مفيدة!

صمم المدرس على موقفه، وقال: ولكنها صادقة، صادقة من آلاف السنين، منذ أن عاش البشر والذئاب على أرض واحدة.

عاد الذئب إلى الاستعطاف وتوسل باكيا: أرجوك، أقبل قدميك، ضعني في جملة مفيدة.

قال المدرس وقد شعر بأن البرد بدأ يؤذيه، وأن الفجر بدأ يشعشع في الأفق: ليس عندي سواها، قلت لك هذا ألف مرة.

قال الذئب وقد ارتفع أنينه: ولكنها جملة ضارة، أقسم بالله جملة مضرة لي ولجنس الذئاب كله.

قال المدرس وهو يلملم أطراف الكفن حول كتفيه: يؤلمني أن أؤخر طلبك، هل أعرض عليك شيئا آخر مفيدا؟

قال الذئب وقد راوده الأمل: أسرع، ما هو؟

قال المدرس وهو يرفع القماش الأبيض عن كتفه ويقدمه له: ما دمت لا أستطيع أن أفيدك بجملة، فهل ترضى بهذه الكتف؟ تعالى وخذها لزوجتك وعيالك.

قال الذئب يائسا: أنا لم آت لآكل، بل جئت لأتعلم، وأين أجد مدرس نحو مثلك في الجبانة كلها؟ وعلى فرض أنني ذئب مفترس وقاتل كما تقولون، فأين هو لحمك؟ لقد أفسدته كثرة التفكير.

قال المدرس: يا صديقي، أوشك الفجر أن يطلع، ولا بد لي الآن أن أنام، هل نسيت أنني مت اليوم؟

سأل الذئب في لهفة: والجملة المفيدة؟

قال المدرس: الجملة التي عندي قلتها لك.

بكى الذئب، توسل للمدرس الذي غطى وجهه وغاص في قبره وأغلقه على نفسه.

خبط بمخالبه على الجدار الحجري خبطات يائسة وهو يصيح: أهكذا تبخل علي بجملة مفيدة، مع أنني عجوز ومسكين، ومظلوم؟

1968

سيرة كلب يبحث عن إنسان1

سأحكي لكم حكاية إنسان نسجت حوله الخرافات والأساطير، لا تغتروا كثيرا بهذه الكلمة الأخيرة، فلم نعرف فيما وصلنا عنه من أخبار مضطربة أنه شبه بالآلهة أو أنصاف الآلهة أو الأبطال، لا، بل إن أغلب من تحدثوا عنه قد بخلوا عليه حتى بكلمة إنسان.

فلقد سماه أرسطو المشهور بالكلب، كما أطلق عليه كل من ذكره صفة الكلبي، ولم ينكر هو أيضا هذه الصفة على نفسه، وإن كان فيما يروى عنه قد قال: إنه كلب من نوع خاص لا يجرؤ أحد أن يصحبه معه إلى الصيد. وعندما مات، وكان هذا منذ أربعة وعشرين قرنا، كرمه سكان مدينته فأقاموا له تمثالا يطل على الخليج، وزادوا في تكريمه فوضعوا فوق التمثال كلبا من المرمر علامة على شخصيته أو على مدرسته! ولكن لماذا نقفز مرة واحدة إلى موته ولا نسير معه خطوة خطوة على طريق حياته المضحكة أو المبكية؟ لنبدأ إذن حكايته من أولها، ولنحاول أن نفحص الأخبار التي تؤكد أنه كان كلبا من الأخبار التي تجعل منه انسانا!

كان هذا الرجل - ولنتفق الآن مؤقتا على أنه كان رجلا مثل كل الرجال - يسمى «ديوجينيس»؛ كما كان أبوه يدعى «هيكزيوس»، ولقد ولد بالطبع كما يولد كل كائن حي، وكانت ولادته في مدينة صغيرة اسمها سينوب على البحر الأسود، لم يهتم أحد من الرواة أو المؤرخين بأن يذكر لنا شيئا عن طفولته، فالطفولة كانت في ذلك العهد القديم - أكثر مما هي اليوم - شيئا لا يلقى غير الإهمال والاضطهاد، ولكننا نسمع على كل حال أنه نفي مع أبيه عن تلك المدينة الصغيرة لسبب لا ندريه، لعله هو الاختلاس أو تزييف النقود كما يقال.

كما نسمع أنه - حين عاش بعد ذلك في أثينا وأصبح من فلاسفتها المشهورين - ظل ينظر إلى نفسه نظرة الغريب المنفي الذي لا وطن له، كما ظل الأثينيون المدهشون يعاملونه كذلك معاملة المنفيين! هل أذكر لكم أبيات الشعر التي قالها في هذا الشأن؟ ولكن لنؤخرها قليلا فقد تكون أليق بشيخوخته العاجزة منها بشبابه أو صباه.

قلت لكم: إن الناس ألفت أن تسميه الكلب، كما أن أرسطو العظيم قد ذكر أن ذلك كان اسم الشهرة الذي عرف به، ولا يجوز أن نشك في كلام المعلم الأول، إلى جانب أن هناك كثيرا من الأخبار التي تؤكد - كما قدمت - أنه كان حقا ينتمي إلى جنس الكلاب. صحيح أنه قيل عنه: إنه ذهب في شبابه إلى معبد دلفي المشهور ليتلقى الحكمة على كهنته، وصحيح أن الكلاب - كما هو معروف - لا تتردد على المعابد ولا يعنيها أن تكون حكيمة أو بلهاء، ولكن هذا أيضا لا يساعدنا على القول بأنه لم يكن كلبا، ولا يقدم لنا الدليل الثابت على أنه كان من بني الإنسان.

وحتى تلك الحكاية التي تروى عنه في شبابه، وما تزال تؤثر في القلوب إلى اليوم لا تستطيع أن تحل لنا المشكلة.

فيقال: إنه ذهب في صباه إلى أثينا لكي يتتلمذ على الفيلسوف أنتيستينيس مؤسس مدرسة الكلبيين، ويبدو أن الصبي لم يرق له فطرده - ربما لرثاثة هيئته أو ضعف بصره أو بشاعة وجهه أو شذوذ سلوكه، وألح الصبي على الأستاذ أن يقبله بين تلاميذه فسحب الفيلسوف العجوز عصاه ليضربه بها ويتخلص منه، ولكن الصبي مد له رأسه قائلا: اضرب؛ لأنك لن تجد عصا من الخشونة بحيث تبعدني عنك، ما دمت أومن بأن لديك ما تقوله لي. ولا ندري في الحقيقة ماذا قال له الفيلسوف العجوز، ولكن لا بد أنه فتح له باب مدرسته على مصراعيها وفتح له ذراعيه وقال لنفسه أو قال له: لم أر في حياتي كلبا أصيلا كهذا! ولازم التلميذ أستاذه حتى استطاع هو نفسه أن يصبح أستاذا.

ولكن هل منعته أستاذيته أن يظل كلبا؟ لنسمع أيضا هذه الحكاية التي تروى عنه بعد أن تعلم الحكمة، وراح بعد ذلك يعلمها.

فيقال: إنه كان في رحلة إلى إيجينا، فأسره بعض القراصنة وأرسلوه إلى جزيرة كريت؛ ليباع هناك مع العبيد في المزاد. سأله المنادي على المزاد بعد أن لاحظ غرابة أطواره: ماذا تحسن من الأعمال؟

أجاب ديوجينيس: حكم الناس.

عاد المنادي يسأل - وربما لسعه بسوطه على وجهه فسال منه الدم: وكيف تريد أن تحكم الناس أيها العبد اللعين؟

فأجابه ديوجينيس في ثبات: بأن أربيهم.

وتصادف في هذه الأثناء أن مر رجل من كورنثة كان يسمى إكسينياديس يرتدي ثوبا أرجوانيا فخما، فأشار إليه العبد الفيلسوف قائلا: بعني لهذا الرجل، فهو يحتاج إلى سيد.

ولما تقدم منه الرجل مذهولا قال له: عليك أن تطيعني، وإن كنت عبدا لك!

سأله الرجل ضاحكا: وكيف أطيعك، إذا كنت سأشتريك؟! أجابه الفيلسوف المربوط بالأغلال: لأنني سأعلمك؛ ولذلك سأكون سيدك! ولأنه إذا كان هناك طبيب أو ملاح يعيشان في الأسر، فلا بد لكل منهما أن يطاع!

أعجب الثري المذهول بكلام العبد الغريب، وقرر أن يأخذه معه ليعلم أولاده. ولا بد أنه رضي عنه تمام الرضا، فقد قال عنه لأصحابه فيما بعد: إن روحا طيبا دخل بيتي. ولا بد أنه ازداد إعجابا بغرابته وشجاعته حين حاول بعض أصدقائه الذين استمعوا إلى دروسه أن يفتدوه، فقال: إنهم بلهاء؛ لأن الأسود ليست عبيدا لمن يطعمها، بل إن من يطعمونها يقعون تحت رحمتها! ولا شك أننا لا نستطيع أن نأخذ كلمة الأسود مأخذ الجد، ولا نصدق أنه كان جادا في حسبان نفسه من الأسود، على حين أنه يعيش عند إكسينياديس المذكور معيشة العبيد، أعني معيشة الكلاب، ولكننا من ناحية أخرى نميل إلى تصديق ما يقال من أنه - وفاء لكلبيته المشهورة - لم يعلم أبناء سيده الجدل أو اللغو بالعبارات العويصة الخلابة، بل علمهم كيف يكتفون بفتات الخبز والماء البارد، وكيف يسيرون في الشوارع حفاة صامتين، لا يتلفتون حولهم؟

هذه الحكايات - كما ترون - قد تدل على ضعة الكلب ومهانته، أو على تواضع الحكيم وانكساره. وإذا كنتم لا تقنعون به برهانا على كلبيته فيكفي أن أوجه انتباهكم إلى سلوكه المشهور في شوارع أثينا وحاراتها وأسواقها ومسارحها، وعلى سلالم معابدها ومدارسها، فربما رأيتم مع بعض الرواة أنه كان كلبا لا يرقى الشك في كلبيته. ستذكرون أولا ما قلته على لسانه من قبل من أنه كلب من النوع الذي يثني عليه الجميع، ولكن ما من أحد يجرؤ أن يصحبه معه إلى الصيد. إنه إذن - لو صح هذا التعبير - كلب مغرور! ولكن دعكم من كلامه ولننظر في أفعاله.

تخيلوا معي رجلا أشعث الشعر، رث الثوب - أقول الثوب ولا أقول الثياب - متجهم الوجه، حافي القدمين، قذر اليدين والأظفار، يحمل جرابا على ظهره، ويكشر عن أسنانه كلما قابله الأطفال وصاحوا في وجهه: ها هو ذا الكلب! ها هو ذا الكلب! إنه يمشي على الثلج في الشتاء، وينام في أي مكان تحت السماء، ويشير إلى النجوم قائلا: ها هم أولاء الأثينيون يرعونني ويقدمون لي مكانا آوي إليه.

يحمل في جرابه رداء يطويه في النهار ويتغطى به في الليل، ويضع فيه زاده القليل الذي لا يزيد عن كسرات من الخبز وحبات من الزيتون تصدق بها عليه المحسنون، ويحمل في يده صحفة قديمة يأكل فيها ويشرب. بل إنه - فيما يقال - قد استغنى عن هذه الصحفة أيضا حين رأى ذات يوم طفلا يشرب من النهر براحة يده، وقال: إن طفلا صغيرا قد فاقني في بساطة الحياة، ومع أن هذا القول يوحي بإعجابه بالأطفال، فإنهم فيما يبدو لم يكونوا يتركونه في حاله؛ فربما استرعاهم منظره وهو يسير شبه عار في الشوارع أو يجلس وحيدا على قارعة الطريق يلتهم اللحم الطري أو يقرض العظام التي يلقي بها الأثرياء من موائدهم، فيلتفون حوله ويصيحون: حذار وإلا عضنا. فيرد عليهم قائلا: لا تخافوا يا صغار، فالكلب لا يأكل البنجر !

ولا بد أنه سئم تعقب الأطفال له أينما ذهب، أو سخرية النساء والأغنياء به كلما شاهدوا هيئته الزرية، أو تأفف الفلاسفة منه كلما سمعوه يتحاور في الفلسفة مع أنه لم يحمل يوما كتابا، ولا شأن للكلاب بالفلسفة! لا بد أنه سئمهم جميعا، فاختار أن يلجأ إلى برميله المشهور، ينام فيه بالليل ليحتمي من برد الشتاء، أو يتدحرج به في النهار بعيدا عن أعين الصغار والكبار، حقا إن احتماءه بالبرميل كان دليلا على زهده وقوة إرادته وإيثاره شظف العيش، ولكن هل خلصه من الناس أو منعهم من أن يطلقوا عليه صفة الكلب؟ العكس هو الصحيح. فقد أصبح البرميل علما عليه، وزاد بالطبع من اهتمام الناس به، ومشاكسة الأطفال له، وجذب الغرباء والمتطفلين إليه! ولا نستطيع أن نعرف الآن إن كان التجاؤه إلى هذا البرميل المشهور فرارا من أعين الناس وحبا في الوحدة والانفراد، أو كان رغبة منه في الخلو إلى نفسه والتعمق في ظلماتها ومتاهاتها! وهل كان ذلك لزهده في الظهور أمام الناس، أو كان إمعانا في الظهور وحبا في الاستعراض كما نقول اليوم؟

لا ندري على وجه التحديد. والمهم أنه وضع نفسه في البرميل، وراح يتدحرج به على الثلج أو فوق التراب كلما احتاج إلى الحركة، لقد أراد أن يقول للناس: لقد استغنيت عنكم واكتفيت بنفسي، تركت الكوخ والبيت، سئمت المعبد والمسرح، زهدت في الظهور أمامكم بثيابي المتسخة الممزقة التي تؤذي ذوقكم وأبصاركم، فاتركوني أعيش في برميلي في هدوء.

ولكن هل تركوه حقا يعيش حياته في هدوء؟ وهل كان هو نفسه يريد أن يتركوه وينسوه؟ لقد ظلوا مع ذلك يسمونه الكلب، بل إن حياته في البرميل المشهور قد أكدت لهم كلبيته أكثر من أي شيء سواها، ويظهر أنه يئس من زوال هذه الصفة عنه: فحين أطل برأسه ذات يوم من البرميل ليرد على من يسأله: لماذا سمي كلبا؟ قال له: إنني أهز ذيلي لمن يعطيني شيئا، وأنبح من يردني، وأعض بأسناني اللئام والأنذال!

لا شك أن هذه الإجابة تحمل في طياتها قدرا كبيرا من التكبر والغرور . وإذا كنا لا نستطيع، كما قلت، أن نتصور كلبا مغرورا فقد نستطيع أن نستثني كلبنا الفيلسوف من ذلك، ونقول مع بعض الرواة: إنه كان مغرورا بحق، وإن كلبيته لم تكن سوى دليل على غروره الفظيع، ربما كان في تجواله في شوارع أثينا بشعره الأشعث المنسدل على أذنيه، ومنظره الزري القذر، وجراب الشحاذين على ظهره، وضراوة الوحش في عينيه وتكشيرة أسنانه، أو في دحرجة برميله هنا وهناك بلا هدف معلوم - ربما أراد بذلك أن يقول للأثينيين: لست كلبا، بل أنتم الكلاب! إنكم تحرصون على التقاليد، وتذلون أنفسكم لجمع المال، وتتباهون بالثياب الجديدة والمساكن الجميلة، وتصانعون الطغاة وتجاملون الأغبياء من الحكام والقواد والأغنياء، وتهتمون بثرثرة السفسطائيين والفلاسفة الذين يخدعونكم بكلامهم المعقد المسحور، ولكن ها أنا ذا قد زهدت في المال والثياب والحكم والكلام البراق، ها أنا ذا أعيش وحيدا، محروما، جائعا، حافيا، مكتفيا بنفسي، فمن فينا الكلب أيها الكلاب؟

ربما لم يقل كلبنا المدهش كل هذا الكلام، ولكن النوادر التي تحكى عن غروره وشراسته أكثر من تلك التي تروى عن ذله وانكساره، لقد هاجم الجميع واحتقر الأثينيين حتى استكثر أن يسميهم الرجال، «لا تنسوا أنه أخذ ذات يوم يصيح مناديا يا رجال، فلما تجمع الناس جرى وراءهم بعصاه قائلا: «لقد ناديت الرجال ولم أناد الكلاب!»»

كما راح يلعن كل فئاتهم ويقول: إن النحويين ينقبون عن عيوب أوديسيوس على حين يغفلون عن عيوبهم، والموسيقيين ينغمون أوتار القيثار على حين يتركون أوتار نفوسهم متنافرة، والفلكيين يحملقون في الشمس والقمر في حين لا ينتبهون إلى الأشياء التي في متناول أيديهم، والخطباء والحكام يثيرون الضجيج حول العدالة في حين أنهم لا يمارسونها في أعمالهم! ويظهر أنه كان يكره اللغو والجدل أكثر من أي شيء آخر في الوجود؛ فقد راح يتحدث مرة في السوق حديثا جادا فلم يأبه به أحد، فما كان منه إلا أن أخذ يعوي ويصفر. والتف الناس حوله، فقال لهم: «تسرعون لسماع اللغو، وتبطئون عندما يدور الحديث حول موضوع جاد!»

ويبدو أن كرهه للغو والجدل كان سببا في هجومه المستمر على الفلاسفة، ووصفه لهم - وهذا شيء مضحك من كلب مثله - بأنهم كلاب طويلة اللسان! ألم يسمع مرة زينون الإيلي وهو يجادل في الحركة، ويثبت بالعقل بطلانها، ويقدم حججه المشهورة عن السهم الطائر والسباق الخاسر بين أخيل والسلحفاة، فنهض من مجلسه غاضبا، وراح يمشي صامتا أمام زينون؟ ألم يحتقر أفلاطون الإلهي ويصف محاوراته بأنها مضيعة للوقت؟ ألم يسفه كل معاصريه ويقل عنهم: إنهم بلهاء يسلون بلهاء؟

قد لا يكون كل هذا الهجوم دليلا كافيا على غروره بل على تهوره أو قصر عقله، ولكن ماذا نقول في حادثته المشهورة مع الإسكندر نفسه؟ فيبدو أن القائد الشاب قد سمع قواده أو عساكره يتحدثون بسخرية عن الكلب وبرميله المشهور، فلم تمنعه عبقريته ولا مشاغله من الذهاب بنفسه لزيارته. تصوروا معي القائد العظيم في ردائه الفخم وخوذته الذهبية وقامته الرشيقة ووجهه الناصع المتفجر بالشباب وهو يقف متعجبا أمام البرميل وحوله جماعة من قواده وحاشيته. إن الكلب الفيلسوف لا يحس به، ويتقدم أحد قواده فيخبط بسيفه على البرميل، ويطل بوجهه العجوز محاولا أن يفتح عينيه اللتين أتعبهما الظلام أو التأمل الطويل في أعماق النفس. ويسأله الإسكندر: ألا تخافني؟

فيسأله بدوره: ومن أنت؟

ويعجب القواد من جهل وغبائه؛ إذ يستمر في السؤال: أخير أنت أم شرير؟

ويقول الإسكندر: بل أنا رجل خير.

فيقول ديوجينيس: ومن ذا الذي يخاف الخيرين؟

ويغضب القواد، ولكن الإسكندر يهدئهم بإشارة من يده، ويسأله من جديد: أنا الإسكندر الأكبر.

فيرد عليه: وأنا ديوجينيس الكلبي، ويعود الإسكندر يسأل: اطلب ما تشاء.

فيقول قبل أن يختفي رأسه في قاع البرميل: ابتعد ولا تحجب عني ضوء الشمس.

قد يكون في هذا الحادث دليل آخر على حمقه أكثر منه على ذكائه، أو قد يكون دليلا على أنه كلب حقيقي قد تقمص جسد إنسان! ولكن ماذا تقولون في حادث آخر ربما يزيد في شهرته عن لقائه مع الإسكندر؟

ها هو ذا ديوجينيس قد شاخ وانحنى ظهره الذي لا يفارقه الجراب المتسخ بما يحمل من الصحفة والزاد، وظهرت في يده عصا يتوكأ عليها ويذود بها عن نفسه الصبية والأطفال. إنه الآن جائع مسكين، يود لو كان في مقدوره أن يتخلص من هذا الجوع بتدليك معدته الخاوية، ولكن الجوع - كما نقول الآن - كافر، والأغنياء في كل مكان باخلون. وهو مضطر أن يسألهم الصدقة، بل أن يعضهم إن لزم الأمر وأصروا على البخل والعناد. لا أحد يريد أن ينسى أنه كلب. لا أحد يمل الضحك عليه وتجنب طريقه، والخوف على نفسه من أن ينهشه حقا بأسنانه التي لم تعد تذوق طعم اللحم، بل لم تعد تجد بقايا العظام! صحيح أن بعضهم يردد أقواله عن الحرية والشجاعة والقناعة وجمال الروح الحق. وبعضهم - وبخاصة الفقراء والمضطهدون والمتعبون من شقاء الأيدي والأجسام، البعيدون عن ترف الفكر وتدبيج الخطب والكلام الجميل - يجدون العزاء فيما يقوله من أن احتقار اللذات هو أعظم لذة، وأن الطبيعة قد يسرت للناس كل سبل السعادة، إلا أنهم لجنونهم يختارون أن يعيشوا تعسين، وأن الحكيم يملك كل شيء؛ ولذلك فليس في حاجة لأن يملك شيئا بذاته، وأن الإنسان الحق لا ينتمي لوطن؛ لأن العالم كله وطنه. وصحيح أيضا أن هؤلاء الفقراء قد سمعوا عن كبريائه إزاء الأغنياء البخلاء، لا بل عن رفضه - وهو الجائع العجوز المحروم - أن يأكل على مائدة الطاغية كراتيروس قائلا: إنه يفضل أن يعيش على حبات الملح من أن يتمتع بطعامه الفخم.

كما استمعوا بإعجاب لا حد له لما قاله حين سئل: إن كان قد تعلم من الفلسفة شيئا - فأجاب بأنه قد تعلم أن يرتفع فوق كل الحظوظ والأقدار، غير أنهم مع هذا العطف والإشفاق كله لم يستطيعوا على كل حال أن يقتنعوا بأنه إنسان مثلهم أو مثل غيرهم من الناس!

صحيح أن كلماته الحكيمة قد أعجبتهم ولمست قلوبهم، فسماه بعضهم كلب السماء، أو «الكلب الإلهي»؛ ولكنه ظل في أعينهم بالرغم من كل شيء الكلب المسكين المشهور، لقد رأوا أن كلبيته كانت تحمل في ذاتها دليلا صامتا على وقوفه في صفوف الفقراء والمظلومين كما تحمل احتجاجا - من نوع دنيء بالطبع - على غنى الأغنياء وطغيان الطغاة. سمعوه يقول مرة: إن من المستحيل على المجتمع أن يحيا بلا قانون؛ فأدركوا ولو من بعيد أنه يدين القهر والعسف الذي يعانونه؛ كما أعجبوا به حين رأوه ذات يوم وهو يهتف بأحد الكهنة وكان يسوق أمامه رجلا سرق إناء من آنية معبد زيوس: انظروا، إن اللصوص الكبار يسوقون اللص الصغير!

كما فرحوا في أكواخهم وبيوتهم القذرة في أطراف المدينة حين سمعوا أنه قال لمن لامه على أنه يؤم الأماكن القذرة: إن الشمس أيضا تزور المستنقعات دون أن تدنس نورها.

ربما يكون عطف الناس عليه قد زاد قليلا مع ازدياد ضعفه وشيخوخته، وربما يكون اسمه الجديد «كلب السماء» أو «كلب الآلهة» الذي أطلقه عليه الفقراء والطيبون قد أرضاه، ولكنه مع ذلك ظل شحاذا جائعا شريدا، إنه يسأل فيمنع عنه الناس أيديهم، ويزور موائد الأغنياء فيلقون إليه بالعظام وهم يضحكون، ويرى الشحاذين يسألون ويعطيهم الناس فيذهب إلى أحد التماثيل المنصوبة في وسط المدينة ويمد يديه إليه ويقول لمن يسأله عن سبب ذلك: «لكي أعود نفسي رفض الناس!»

وقد تحتم عليه حقا أن يتعود رفض الناس وبخلهم. ولم تنفعه حكمته التي يرسلها في الشوارع والأسواق دون أن يعبأ بتدوينها، ولم يشبع جوعه أن يتطفل عليه الفقراء مشفقين عليه حينا ضاحكين عليه في معظم الأحيان؛ فالأغنياء والحكام مشغولون عنه بالاستماع إلى سقراط وأفلاطون ومشاهير الخطباء والمجادلين.

صحيح أنه كان مع ذلك لا يعدم من يتصدق عليه بكسرة خبز أو قطعة لحم، ولكن جوع المعدة لم يكن في الحقيقة هو مشكلته، إنه يستمتع حقا بحب الكثيرين من الأثينيين

بعضهم عليه أن يقيم في بيته ويريحه من الجولان وحده في شوارع المدينة. ولكن ماذا يجديه هذا كله؟ هل استطاع أحد أن يستمع إليه بحق؟ هل قدر أحد أنه ليس شحاذا كسائر الشحاذين؟ بل شحاذ فيلسوف أو فيلسوف شحاذ يتصدق عليهم بالمعرفة والحكمة مقابل لقم قليلة؟ هل أدركوا أخيرا أنه جعل من نفسه كلبا لكي يفهموا أنهم هم الكلاب؟ هل عرفوا حقا أن حرصهم على الغنى والشرف والشهرة والأصل واللذة تجعلهم كلابا آدميين، على حين أن الفلسفة - أي محبة الجمال والخير والحق - هي التي تحفظ الإنسان من أن يصبح كلبا؟

لا لم يفهموا ولم يعرفوا ولم يروا شيئا. وها هو ذا - كما يقول - ما يزال في نهاية عمره كما كان في بدايته شريدا بلا وطن ولا بيت، ميتا في بلده، طريدا يبحث عن خبز يومه. ربما كان هذا هو الذي دفعه ذات يوم عجيب إلى قمة اليأس، وجعله يقوم بتلك الحادثة التي قلت لكم: إنها أشهر وأهم من لقائه المشهور مع الإسكندر.

وربما استطعتم أن تشكوا بحق في أمر ذلك اللقاء الخرافي، ولكنكم فيما أعتقد لن تشكوا في أمر هذه الحادثة.

نعم! لقد فوجئ الناس به في ذلك اليوم وهو يسير عجوزا وحيدا يتوكأ على عصاه ويحمل جرابه على ظهره ومصباحا في يده. أجل، كان يحمل مصباحا كبيرا في يده اليمنى المرتعشة من الضعف والجوع والعذاب - مصباحا مضيئا في عز النهار، كانت الشمس في منتصف الظهيرة، شمس حامية ترسل حممها الخالدة على رءوس الأثينيين الذين يحتمون منها بكل وسيلة.

نعم إنه الكلب بعينه، الكلب الفيلسوف الشحاذ يمضي في شوارع أثينا، والشمس في الظهيرة، ومصباحه الزيتي الكبير يتأرجح بشعلته الملتهبة في يده، هل جن هذا الكلب المسكين؟ ألم يكتف ببرميله القذر المنتفخ فيظهر الآن بمصباحه في ضوء النهار؟ هل شبع من عض الناس بكلماته وأسنانه ويريد الآن أن يحرقهم بناره ودخانه؟ ثم من أين له هذا المصباح والزيت والزجاجة وهو لا يملك ثمن حبة ملح ولا حذاء؟ وما حاجته إليه وهو ينام راضيا منذ سنين في قاع البرميل؟ ومن أين له هذه الكلمات الفصيحة التي يطلقها الآن مع كل خطوة: أين الإنسان ؟ أين الإنسان؟

إنهم بعد المفاجأة يتجمعون حوله، وكالعادة يبدأ الأطفال بسؤاله: عم تبحث يا عجوز؟

فيقول: أبحث عن إنسان! أبحث عن إنسان!

وتنقلب الحكاية إلى لعبة، ويبدأ الناس بعد ذهول المفاجأة في الضحك بصوت عال، ثم يفيق الأطفال ويبدءون بإلقاء الأحجار، وينطلق الصوت أعلى من صوت الضحكات ومن تهشم الزجاج: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

لا يدري أحد كيف انتهت جولة ديوجينيس في شوارع أثينا؟ ولا يدري أحد ماذا حدث له في ذلك اليوم العجيب؟

ربما يكون الجنود قد قبضوا عليه ووجدها الحكام فرصة ليستريحوا منه أخيرا في سجن يموت فيه! أو يكون الأطفال هشموا مصباحه ومعه وجهه العجوز وهيكله الفاني، أو ربما يكون المصباح نفسه قد اشتعل وامتدت النار إلى يديه وذراعيه وأكلت بقايا ردائه المتسخ!

لا ندري ماذا كان مصيره؟ لكن ما زالت صرخته تتردد تحت الشمس السوداء: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

1968

القط

هل كان في وسعنا أن نفعل غير ما فعلناه؟

أليس هو الذي جنى هذا على نفسه؟

من كان يصدق أن هذا المخلوق الصغير، المغمض العينين، المرتعش الأطراف، سينقلب بين يوم وليلة طاغية مخيفا؟ إن أحدا منا لم يكن يتنبأ له بهذا المصير!

كان لا يزال في علم الغيب حين وصينا عليه الجيران؛ فالقطة الرومي التي نحسدهم عليها قد اختفت منذ أسبوع، لم تعد تقفز من على الساتر الخشبي إلى سطح بيتنا، أو تجلس كالراهب الوقور على السلم لتتشمس، إن بطنها كبرت، ونحن نعرف هذا، ولا بد أنها تلد الآن. في كل يوم أفوت على الجيران بعد عودتي من المدرسة، لأسألهم عنها. ويخرج لي صاحب البيت بنفسه، فيجيبني قبل أن أسأله: لا يا ابني، لسه ما ولدتش، سلم على الجماعة. وأمي قد وصت جارتنا بنفسها؛ فحين طلعت على السطوح لتنشر الغسيل أطلت عليها من خلف الساتر وبعد السلامات والطيبات قالت لها: «الولد ميت على القطة، والنبي يا أختي تحجزي له واحدة.» ولم تتأخر جارتنا الطيبة: «حاضر يا حبيبتي، من عيني الاثنين.» وانتظرته على شوق؛ قط رومي يصبح ملكي، ينام في حضني وأبوسه من عينيه، وينط ويلعب معي، ويأكل من طبقي، ويقفز على مكتبي، ويذاكر معي، ما أجمل هذا! يوم يصل إلى بيتنا سيكون يوم عيد.

وحين عدت من المدرسة - وكان يوم خميس - وجدته قد سبقني إلى البيت. الخادمة أعلنت لي الخبر وهي تفتح الباب، كانت تصرخ وتكاد تبكي من الفرح، فرميت حقيبة الكتب وجريت والخادمة قدامي وأنا أصيح: فين؟ فين؟

وفي غرفة الفرن وجدت أمي تلاعبه. قط رومي أصيل، رومي بحق وحقيق؛ شعره أسود من الليل، ذيله مكور ومنفوش، عيناه - وإن لم يفتحهما بعد - لا بد أن تكونا خضراوين، والتففنا حوله، نتأمله ونراقب حركاته. كان جسده ينتفض من البرد، وأطرافه ترتعش، وكان من ضعفه يقوم ويقع ولا يستطيع أن يخطو خطوة على بعضها، ومددت يدي فسلمت عليه، إنه ضيف البيت، أعز من كل الضيوف.

وجرت الخادمة فأحضرت طبقا فيه لبن، ولكن القط لم يفتح عينيه، ولم يبد عليه أنه رأى شيئا. لا شيء إلا ناو، ناو. تخرج منه خافتة متقطعة كالكتكوت الصغير.

قالت أمي: يا عيني، عاوز يروح لأمه.

وتنهدت الخادمة: يا ستي،

فقالت أمي: ما تخافيش عليه، القطط بسبع أرواح.

وانقطع مواؤه بعد قليل، وخرج منه صوت آخر ممدود بطيء كالنوم، فسألت: أمي، هو بيعمل كده ليه؟

فقالت: ده بيسبح.

وقالت الخادمة: القطط بتشوف الملايكة بالليل.

هتفت: صحيح يا أبي؟

وكان أبي يتدفأ على نار الفرن فقال: القطط من الشيطان.

ولن يعجبني قوله. لقد كان منذ البداية غير راض عنه، وكان يتجنبه ويسخط عليه وينفر منه وكأن بينهما ثأرا قديما.

أصبح القط موضع اهتمامنا. كنا نلتف حوله في ليالي الشتاء، كأنه مركز الكون. صحيح أن أبي كان يكرهه منذ البداية، ولا يكاد يقترب منه أو يتمسح في قدميه حتى يقبض عليه ويقذفه بعيدا وهو يصيح: «ارموه في الخرابة، ده كله براغيث.» غير أنني كنت أضعه في حجري دائما وأضمه إلى صدري، وأفرح وأنا أراقب عينيه المذعورتين حين ينظر إلى الأرض من فوق كتفي وكأنه يقف فوق قمة جبل ، حتى أمي التي كانت تقول لي في كل مرة تراه معي: «يا ابني هو أنت مالكش شغلة ولا مشغلة إلا القط.» كانت كثيرا ما تطعمه بنفسها، وتتحسس ظهره بيديها، وترصد نموه يوما بعد يوم، وتحلم بمستقبله: «بكره ده اللي ينضف البيت من الفيران.»

أبدا لم يحظ قط بمثل الرعاية التي حظي بها مسرور - كان هذا هو الاسم الذي اخترناه له - كنت لا أدخل من الباب حتى أسأل عليه، وإذا عدت بالليل وجدته ينتظرني، فلا أكاد أفتح باب حجرتي حتى يموء، ويلف حولي، ويتمسح في قدمي ويتثاءب، ثم يسبقني إلى السرير، ويدخل من نفسه تحت اللحاف، ويظل يراقبني بعينيه الواسعتين حتى أخلع هدومي وآخذه في حضني وأنام.

إن المخلوقات الجميلة لا تنسى أبدا أنها جميلة، فالجمال هو وجودها؛ إنها تحيا عليه، ومن أجله. وكان مسرور كلما كبر ازداد جماله، وتكور ذيله، وربى فروة ناعمة. فإذا رآني أقف أمام المرآة يتسلل إلى جانبي، ويطيل النظر في خياله، ثم يرفع عينيه الخضراوين إلي وكأنه يقول: «ناو، ناو، من أجمل مني؟» الواقع أنه كان على حق في كبريائه. ألم يكن يتيه بنفسه على القطط الضالة التي تدخل بيتنا بحثا عن الطعام، فإذا رآها نظر إليها باستكبار وتطلعت إليه بانكسار، وكأنها من طينة غير طينته؟ لقد كان يختال في مشيته كأنه شبل مغرور.

وعدت يوما فلم أجد «مسرور». بحثت عنه في غرفتي، تحت السرير، فوق الدولاب، في الفرن، وعلى السطوح فلم أعثر له على أثر، ورأيت أمي تضع يدها على خدها. قالت: «أبوك رماه في الخرابة.» كنا بالليل، والدنيا كحل، وصرخت والدموع تخنقني: «القط لازم يبات هنا.» فقالت: «يا ابني الصباح رباح.» ولكنني لم أنتظر؛ أيقظت الخادمة من نومها، وأشعلت المصباح نمرة خمسة ونزلت والخادمة تتمطى وتتثاءب من خلفي، وأمي تلعن القطط وسيرتها وتنادي من على رأس السلم: «طيب خد عليك حاجة من البرد.» ونزلت أجوس في الخرابة، وأفتش بين أكوام القمامة والتراب المتراكم حتى سمعت مسرورا يموء، ورأيت شبحه الصغير يجري نحوي، فلما اقترب مني تمطى وقوس ظهره، ونفض التراب عن جسده. وانحنيت عليه وحملته بين يدي، كأنه كنزي.

قد يكون هذا هو السبب الخفي الذي جعلنا نحوطه بمزيد من الرعاية والحنان. أصبحنا كلما اجتمعنا حول الطعام نسأل: «فين مسرور؟» وإذا كان اليوم يوم السوق والحالة مفترجة هتفت بأعلى صوتي: «حوشوا كوم مسرور.» أما إذا تصادف وكانت الأكلة أكلة سمك فيا بختك يا مسرور! إننا نجمع العظام والرءوس كلها له، وقد أمد له يدي خلسة من تحت الطبلية بسمكة بحالها

غير أن السمك الذي كان مصدر فرحه كان أيضا سبب غمه. اجتمعنا ذات ليلة على العشاء، وأبي كعادته يحكي لنا عن أيام زمان، التي كانت كلها خيرا ونغنغة، وكانت العائلة تتغدى وتتعشى بقرشين صاغ. وفتحت أمي غرفة الفرن لتأتي لنا بالعشاء، وسمعناها تخبط على صدرها وتقول: بسم الله الرحمن الرحيم! راحت فين يا أولاد؟

فنادي أبي عليها: خير يا أم إبراهيم؟ - الصحفة يا أبو إبراهيم. - صحفة إيه؟ - صحفة السمك.

أجاب أبي كأنه يمسك بتلابيب الجاني الأثيم: مفيش غيره! الله يقطع خبره!

وقفت أمي على باب الفرن: مين؟ القط؟

فأسرعت أقول: وهو ده معقول يا جماعة؟ ده حتى مسرور طيب خالص.

فعادت تقول كأنها تندب عزيزا عليها: والنبي ما في غيره، الصحفة سيباها بخيرها دلوقتي، وقارية آية الكرسي عليها.

قلت كأني أدافع عن متهم بريء: طيب دوري هنا ولا هنا.

فقالت: أبدا يا ابني، والنبي ما فاتته، آه يا ناري لو أشوفه كنت أكله بأسناني.

وكأنما جاء القط على السيرة، فقد سمعنا وقع أقدام خفيفة تهبط على الدرج، ورفعنا عيوننا فوجدنا مسرورا يندفع نحونا وهو يلعق شفتيه بلسانه، وكأن الدنيا ليست على باله. صرخت أمي وجرت نحوه، وهجمت عليه بجريدة طويلة كانت قد أعدتها لمثل هذه المناسبة. ونظر إليها مسرور نظرة استغراب، وحاول أن يفهم حقيقة الأمر، فلما وجد أن المسألة جد وليس فيها هزار، هرب بجلده عائدا إلى السطوح، وهي تجري وراءه بالجريدة وتصيح: تعال يا خاين، يا قتال القتلة، منك لله.

كان القط قد تمكن من القفز على الساتر الخشبي وأصبح في مأمن من أن تناله يد أمي أو جريدتها التي لسعت ظهره لسعتين طيبتين. فلما أيقن من نجاته التفت وراءه كأنه يريد أن يتفاهم ويعرف سر هذه الثورة عليه. وراحت أمي تلاحقه بلعناتها: «روح ربنا ينتقم منك بحق دي الليلة. كده تبيت العيلة من غير عشا.»

ولقد بتنا حقا من غير عشاء، وصعبت علينا صحفة السمك، وازدادت شماتة أبي بمسرور، وأخذ يدلل على بعد نظره قائلا: «مش قلت لكم، دي القطط كلها من الشيطان.» وجلست أمي على الحصيرة ووضعت يدها على خدها، وجاءت الخادمة فجلست إلى جوارها كالكلب المجهد المريض، وهي تلهث من النط والجري وراء القط. وراح أبي يقول: ده عامل زي ناكر ونكير، أصل القطط كلها كده، تاكل وتنكر.

قالت أمي في حزن: كنت فاكراه من جنس تاني، أمال رومي ليه؟

فعاد أبي يقول: شوفي يا أم إبراهيم، إن شالله يكون قط من الجنة، عارفة الجنة، ولا حتى من الهند، أهو قط والسلام.

قالت أمي: قسمتنا، واللي كان كان.

فقال أبي: يا شيخة ده حتى القطط ملعونين من عهد سيدنا سليمان عليه السلام.

يومها داريت وجهي خجلا. وماذا أقول دفاعا عنه؟ وهل هذه عملة تعملها يا مسرور؟ القصد، أكلنا من الحاضر، والليلة فاتت والسلام.

وغاب مسرور، يوم، اثنين، ثلاثة، أسبوع، ومسرور لا يظهر له أثر ولا نعثر له على دليل، يا ترى أين أراضيك يا مسرور؟ هل أنت حي أو ميت؟ هل دهسك قطار أو وقعت في بير؟ شغلنا عليه وبدأنا نستوحش طلعته، ونشتاق إلى جلسته في الشمس، وجريه على السلم، ونومه على حصيرة الصلاة، وناو، ناو، ناو، كأنها بكاء طفل.

وبدأت أمي تحن إليه: «والله يا ابني كان مالي علينا الدار.» وتنظر إلى السلم وتتذكر صورته: «ما أحلى طلعته نازل كده يتهز زي سبع الليل!» وبدأت تستحضر في مخيلتها كل مآثره وأفضاله: «والنبي ده كان عاقل خالص، لما كنت أقعد أشرب القهوة يتسحب جنبي بشويش ويبص لي قوي، سبحانك يا خالق يا عظيم، زي ما يكون واحد عجوز.»

فأقول لها: مش عارف إيه اللي غيره على الآخر.

ويدفعها حنانها الفطري، فتقول: «ربنا اللي يعرف الظالم من المظلوم، يمكن يا ابني كان بريء واحنا اللي ظلمناه.»

فأضحك قائلا: «إحنا ليه؟ إنتي لوحدك اللي ظلمتيه.»

فتقول أمي: «أي والنبي يا ابني، ندر علي يا مسرور لو رجعت تاني لأعملك صحفة سمك لوحدك!»

وعاد مسرور أخيرا. إنه مثل كل القطط، يأتي على السيرة. وقف على الساتر الخشبي قليلا كأنه يتعرف على الجو، فلما رآنا نشخص إليه مذهولين، وندعوه ونطمئنه على نفسه، هرول يجري نحونا، وهات يا ناو، ناو.

ولكن «مسرور» كان قد تغير، صارت كبرياؤه المحبوبة مع الزمن شيئا حزينا مجروحا، وبدأ يميل إلى العزلة، كنت أعود إلى البيت فأفتش عليه في كل مكان حتى أعثر عليه فوق السطوح، أو في بير السلم، رأسه بين ذراعيه، ونظرته كسيرة، وجسده ممدد كأنه أبو الهول، فإذا رآني مقبلا عليه يرفع عينيه الحزينتين الواسعتين إلي قليلا ثم يعود إلى إطراقه وصمته، وإذا انحنيت عليه لأصالحه وأربت على ظهره، وأتحسس فروته الناعمة، طفق يموء مواء متقطعا مبحوحا كأنه يريد أن يقول: لم لا تتركونني وحدي؟ واعتدنا مع الأيام أن نراه راقدا على الساتر الخشبي كأنه تمثال فرعوني صامت، حتى الأصناف التي كانت تعجبه لم تعد تحرك فيه ساكنا؛ فلا السمك ولا اللحم يؤثر فيه، وازداد عطف أمي عليه وكأنها تعتذر عن ذنبها في حقه، ولكنه لم يكن يزداد إلا نفورا، حتى أصبح كما قالت أمي في ربع حاله، جلد على عظم.

وانقلب حزنه وصمته مع الزمن عصبية وتحفزا، إذا اقترب أحد منه ليدلله أو يداعبه كشر عن أسنانه، وإذا زاد فيها وقف شعره كالإبر وتقوس ظهره، وزمجر وزام، وربما خربشه وعض يده، لم يسلم أحد من شره، ولم يعد أحد يتجاسر على الاقتراب منه، وصار كما قالت أمي مثل ضبع الليل.

إلى أن كان يوم ارتكب فيه جريمته التي لا تغتفر؛ كانت لأمي صومعة كبيرة في حجرة الفرن، وضعت فيها الأرنبة الكبيرة التي ولدت سبعة صغار كالكتاكيت، كلها لحم في لحم، كانت ترعاها بنفسها، وتدس لها الأكل في الصومعة، وتغلق عليهم باب الفرن في عناية وحذر، لا لم تكن العرسة هي السبب، إن القط، بقدرة قادر، هو الذي اقتحم الصومعة ذات ليلة، ليلة أسود من وجهه، وراحت أمي تفتش على الأرانب الصغيرة، وتدس لها حزمتين من البرسيم وإذا بها ترى «مسرور» خارجا كالنمر المفترس، وفي فمه أرنبان، وجرت وراءه ولكنه كان قد اندفع أمامها كالوحش وهرب بفريسته إلى السطوح «الحقوا يا أولاد، القط أكل الأرانب!» وجرينا وراءه ولكنه أفلت من أيدينا. فعدنا إلى الصومعة نفتش على بقية الأرانب، كان القط قد أتى عليها جميعا، ليلة في ليلة، ولا من شاف ولا من دري.

كانت كل محاولة للصلح مع مسرور قد تبددت.

أصبحنا أمام وحش حقيقي، ومن يدري؟ إذا تركناه في هذه المرة فهل يقف عند حد؟ لقد أصبح حبيبنا وأملنا ولعبتنا هو عدونا الأول.

ووضعنا الخطط للقبض عليه. وكان أبي أكثرنا حماسا، وراح يردد قوله: ده مش قط، أنا عمري ما شفت قط بالشكل ده؟

وظهر مسرور أخيرا، نزل على السلالم يتهادى بخطواته المتزنة، وما كان لأحد منا أن يتأخر أو يهرب، وتأهبنا للانقضاض عليه، كل واحد من ناحية، وفي يد كل منا ما يتيسر: غابة طويلة، أو مقشة، هجمنا عليه. كنت أنا الذي قبضت عليه، وبيدي هاتين اللتين طالما طوقناه في حنان وضعته في زكيبة وأغلقتها عليه، وصاحت أمي: خذوه على طول على الترعة.

وحملت الزكيبة على ظهري، ومسرور يتلوى في داخلها كأنه وحش مقيد بالسلاسل، وسارت الخادمة ورائي، تمد يدها لتضربه على رأسه فيهبط إلى قعر الزكيبة وهو يموء مواء متقطعا مبحوحا.

كانت مهمة قاسية، لقد كان علي أن أغرق مسرورا، وأرسلت الخادمة تبحث عن حجر كبير، فعادت تحمله بين ذراعيها فرحة متحمسة مقتنعة بأنها تقوم بعمل رائع وعظيم، وقذفت بالحجر في داخل الزكيبة، وارتطم برأس «مسرور» المحبوب فصرخ صرخة ضعيفة ضاعت في أعماق سجنه الصغير، ويظهر أنه أحس بمصيره، وعرف ألا فائدة من مقاومته فلم يعد يتحرك أو يستجير، ورفعت الزكيبة وقذفت بها في الترعة فارتطمت بالماء ثم غاصت إلى قرار سحيق، ومع أني كنت مقتنعا بما فعلت، وما ندمت عليه يوما، إلا أن الحزن يعصر قلبي حين أذكر أن «مسرور» المسكين قد مات على يدي أنا دون غيري.

هذا المخلوق العزيز المغمض العينين، من كان يصدق أنه سيصبح طاغية مخيفا؟!

ولكن هل جنى عليه أحد؟

وهل كان في وسعنا أن نفعل غير ما فعلناه؟!

1955

مولانا السلطان

طردوني من المسرح! لم يكتفوا بطردي، شتموني ولعنوا جدودي، لم يكتفوا بهذا أيضا. صفعوني على وجهي وعيني وركلوني بالأقدام، قالوا لي: إياك أن تضع رجلك على عتبة المسرح، إياك وإلا قطعنا رأسك ورميناه للكلاب.

أنكروا العيش والملح الذي أكلناه معا عشرين عاما، في عز الليل والناس نيام كسروا عظامي وأغقلوا ورائي الباب، لم يشفع لي الجري والتعب وسهر الليالي والبهدلة في بلاد الله. حتى الجمهور الذي أفنيت عمري في خدمته لم يشعر بحالي، فقد كنا كما قلت في عز الليل، بعد أن انصرف الناس وأغلقت الستار.

هل أحكي لكم الحكاية من أولها؟

كان ذلك منذ عشرين عاما أو يزيد حين انضممت إلى فرقة «الفنون العالمية»، أقول انضممت وأعترف بما في هذا القول من مبالغة، فلم أكن أعرف شيئا عن التمثيل ولا جربت الوقوف على المسرح، كنت أيامها أبحث عن عمل، أي عمل، فبعد أن سقطت في الابتدائية أربع مرات يئس مني أبي وقال يحرم عليك بيتي حتى تبحث لك عن عمل. جربت ألف صنعة وصنعة، تسكعت في الشوارع، نمت في الحدائق والجوامع، اشتغلت صبي نجار وسمكريا وشيالا في السكة الحديد وعتالا بالأجرة وملاحظ أنفار وفشلت فيها جميعا، عشت مع النشالين والبلطجية والقوادين ولم أفلح في أن أكون نشالا ولا بلطجيا ولا قوادا، حاولت أن أنتحر ثلاث مرات - محاولات غير جادة بالطبع - بالزرنيخ والأسبرين وصبغة اليود، ولكنهم كانوا ينقذونني في كل مرة، وحين رأيت الزفة تسير في مولد سيدي إبراهيم، معلنة بالطبل والمزمار والصياح عن فرقة الفنون العالمية قررت أن أكون ممثلا - مشيت معهم في الزفة، زعقت بأعلى صوتي وتشقلبت كالقرود وملأت وجهي بالدقيق كالبهلوانات فأحبوني، وذهبت معهم إلى مدير الفرقة وقلت له: أريد أن أمثل معكم. ابتسم حين رآني أمامه ثم مسح على وجهه، وقال: الإرادة لا تهم، المهم أن تكون ممثلا. لم أفهم فصحت من جديد: أريد أن أمثل معكم! قال بعد أن قطب جبينه: المهم هو الموهبة. ماذا تستطيع أن تمثل؟ قلت: أمثل دور رجل يموت «كنت قد رأيت الموت بعيني أكثر من مرة وجربت أثر السكاكين في بطني عندما كنت أحاول الانتحار» قال ضاحكا: طيب فرجنا على شطارتك. فارتميت على الأرض وبدأت أتأوه وأئن وأمد ذراعي إلى الأمام والخلف، وأرسم على وجهي كل ما أستطيع من علامات الألم. ويظهر أنني كنت ساذجا في التمثيل؛ إذ سمعت المدير يقول: هل تموت أم تتثاءب؟ قم رح لحالك! تشنجت وتأوهت في هذه المرة تأوها يقطع القلوب وقلت وأنا أبكي: في عرضك يا سعادة المدير، جربوني ولو ليلة واحدة. قال غاضبا: ليس في روايتنا أحد يموت، إلا إذا وافقت على أن تقطع رأسك كل ليلة. صرخت: تقطعوها أو لا تقطعوها، أي دور يا سعادة المدير.

ضحكوا علي وضربوني على قفاي، وحين جلسوا للعشاء عزموا علي واعتبروني واحدا منهم. ورفع المدير صوته وقال: سنعملك حاجبا على باب السلطان. كلما رأيته داخلا المسرح هتفت بأعلى صوتك: مولانا السلطان. فهتفت بصوتي الجهوري: حاضر يا مولانا السلطان! قال في غضب وسط ضحك الممثلين الذين غرغرت عيونهم بالدموع: لا، من غير حاضر. مولانا السلطان فقط. تقولها كل ليلة عشر مرات، وبالنهار تمشي مع زفة الإعلانات وتجذب الجمهور للرواية، ولا مانع عندي أن تهتف بدورك ألف مرة - ليلتها اتفقنا وكان ما كان. عرفت أن الرواية اسمها «هارون الرشيد أو نكبة البرامكة» رواية من ثلاثة فصول يمكن على حسب الأحوال أن تصبح اثنين أو أربعة أو حتى خمسة . ومنظر واحد لا يتغير، قاعة العرض يمثلها كرسي فخم هو كل ما تملكه الفرقة ووراءه منظر بيوت وقباب المفروض أنه مدينة بغداد، وسجادة دابت ورقعت ألف مرة من كثرة ما مشى عليها الزمان، وسيف قديم لو دقق الجمهور النظر فيه لرأى الصدأ الذي يملأه، يمسكه العبد «مسرور» ويخطر به على المسرح ويقطع رقبة جعفر ويقدمها لهارون الرشيد في آخر منظر على صينية من النحاس. وصندوق من الخشب رسم عليه سبع يمسك بيده سيفا يمتلئ بعباءات الممثلين وطراطيرهم وبلغهم ولحاهم المستعارة أيضا. ننقله معنا من بلد إلى بلد، ومن مولد إلى مولد. يجلس عليه الوزراء والعظماء بين يدي السلطان، وينام عليه السلطان نفسه بعد أن يسدل الستار!

عشرين سنة قضيتها معهم. بالطبع ليس من الواجب أن أتحدث عنهم بضمير الغائب. فقد عرفنا بعضنا وأكلنا العيش والملح مع بعض ودخنا من الصعيد الجواني لوجه بحري على رجل واحدة، في عز الحر وفي عز البرد، في عربات السبنسة وعلى العربات الكارو، في الموالد وفي الأفراح، في الجوع وفي العطش، بالليل وبالنهار. علي السبع هو مدير الفرقة وصاحبها ومؤلف الرواية وموزع التذاكر ومؤدب الجمهور إذا لزم الأمر. كان جزارا في شبابه وهوى التمثيل - من كثرة ما شاف في السينما وسمع في الراديو وحفظ من عنترة وأبو زيد. الفن حكم عليه أن يرمي السكين ويمسك صولجان الخلافة، يترك رقاب العجول والخرفان ويأمر بقطع رقاب البرامكة. ومسرور السياف كان بوابا من النوبة وتاب. زهق من القعدة طول النهار لا شغلة ولا مشغلة. قامت في مخه يمثل ويقف على المسرح. لا يوسف وهبي ولا علي الكسار في زمانه. جاره أبو السباع قال له تقعد في الشمس ولا تقطع الرقاب؟ قال له أقطع الرقاب. قال له طيب شف لك سيف وتعال معي. وجعفر الزبال - واسمه الحقيقي جعفر - حكم عليه الزمان أن ينضم للفرقة ويقدم رأسه في آخر كل ليلة لمسرور السياف. إنه يصرخ طول الرواية ويسترحم ويثبت بألف دليل ودليل أنه بريء ولكنه يقدم رأسه في آخر الليل . لا يقدمها بنفسه بالطبع؛ بل يقدمها «مسرور» السياف على صينية النحاس وهو ينحني أمام كرسي العرش ويقول: رأس الخائن جعفر يا مولانا السلطان!

أما أنا فأقف على المسرح طول الرواية. ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، على حسب الأحوال كما قلت، وعلى حسب عدد الجمهور، ورواج الإيراد. يمكنكم أن تقولوا إنني في الحقيقة لم أكن أصنع شيئا سوى الوقوف على رجلي والصياح بملء صوتي الذي يعرفه الناس من أقصى الصعيد إلى أقصى وجه بحري: مولانا السلطان! صحت بها وأنا شاب في العشرين وصحتها وأنا في الأربعين. في المدينة وفي القرية. في الأفراح والموالد. عندما كنت صحيحا وعندما بدأ المرض يدب إلى جسدي. كانت تخرج قوية من حلقي، لا بل من صدري كله، تزلزل أرجاء المسرح الخشبي الصغير، وترج الصالة، وتهز القلوب. يظهر بعدها السلطان في أبهته وجلاله، فيجلس على كرسي العرش، ويستمع إلى الوزراء والعلماء، ويداعب زبيدة وقوت القلوب، ويفرح بغناء الجواري أو يغضب حين يسمع ما يرويه له الوزراء ورجال البلاط عن خيانة جعفر وفتنه - يظهر على المسرح فيستقبله صوتي الرنان: مولانا السلطان! كلمتان اثنتان، لم يكن لي أن أزيد عليهما كلمة واحدة، فما كان دوري - دور الحاجب - ليسمح بأكثر منهما. ومع أنني كنت أبذل كل ما أستطيع في القيام بدوري على خير وجه، فأتقنت مع الزمن تأدية الحركات التي تلازم هاتين الكلمتين، من مد الذراعين على آخرهما، وتطويح الرأس إلى الخلف، وحشر كل معاني الرهبة والإجلال في نبرات صوتي الجهوري، فلم يكن يزيد عن قولي: مولانا السلطان. ومع أنني كنت أساعد في تجهيز المسرح قبل بدء العرض، وأحمل الديكور الوحيد إلى مكانه في خلفية المسرح، وأضع كرسي العرض والصندوق الكبير في مكانهما في الواجهة وعلى اليمين، وأستعجل الممثلين بل أساعدهم في بعض الأحيان على ارتداء ملابسهم وربما أيضا على حفظ أدوارهم، ومع أنني كنت أنظم زفة الموكب الذي يقوم بالإعلان للرواية في الشوارع، وأشارك فيها بالرقص والغناء والهياج والشقلبة إن اقتضى الأمر، وأبتكر في ذلك كله ابتكارا يشهد لي به العدو قبل الصديق، مع أنني كنت أفعل ذلك فلم يكن يسمح لي بأن أزيد على هاتين الكلمتين كلمة واحدة. وتستطيعون بالطبع أن تتصوروا مدى حزني وضيق صدري على مر الأيام. صحيح أنني كنت سعيدا بذلك الدور متمتعا بالوقوف على المسرح كل ليلة أطول مما يقف أي ممثل آخر، مغتبطا بلقب «ممثل» الذي يطلقه علي زملائي في العمل، بل أفراد الجمهور الذين كان يحدث أن ألتقي بهم في الشوارع أو على المقاهي ويتذكرونني. وصحيح أيضا أن عظمة الدور لا تقاس بعدد الكلمات التي يقولها الممثل على خشبة المسرح، كما أن أهميته لا تحسب بحساب الحركات التي يؤديها عليه. إلا أنني مع ذلك كنت قد بدأت أستشعر شيئا كالحزن أو خيبة الأمل يزحف على قلبي كل ليلة. بل أصارحكم بأنني كنت قد بدأت أسأل نفسي الأسئلة التي لا يجوز أن تخطر على بال ممثل حدد دوره من قبل: إلى متى أظل على هذه الحال؟ لماذا لا يتيح لي أبو السباع دورا أكبر؟ وإذا كان من المستحيل أن أقوم بدور جعفر أو مسرور أو أحد الوزراء أو العلماء - بالطبع لم يكن يدور بخاطري أن أقوم بدور السلطان نفسه، فذلك هو رابع المستحيلات! - فلماذا لا يسمح لي ببضع عبارات أضيفها إلى الكلمتين اللتين عهد إلي بهما؟ لماذا لا يضاف مثلا أحد المناظر، حتى ولو كانت ثانوية ولا تؤثر على مجرى الرواية أدنى تأثير - يتاح لي فيها أن أظهر براعتي وأثبت أنني أستطيع أن أضيف شيئا إلى دوري الذي لا شك في أهميته ولكن لا شك أيضا في ضآلته؟

بمرور الأيام رحت أفكر في ذلك تفكيرا جديا. بدأت أعلن سخطي هنا وهناك، في صورة ملاحظات تافهة في أول الأمر، أخذت تتطور بعد ذلك إلى ما يشبه التمرد والعصيان. كنت أنتهز الفرص لأختلي بجعفر ومسرور كل على حدة، بعد أن ينتهي التمثيل ونتهيأ للنوم أو نتجول في الشوارع أو نشرب الجوزة في أحد المقاهي. كنت أتوسط عندهما لكي يشفعا لي عند «أبو السباع»، وأزن عليهما بأن المسألة طالت أكثر مما ينبغي، وأن على السلطان أن يسمح لحاجبه ولو مرة واحدة في حياته، ولو في عرض صغير في قرية صغيرة منسية - بأن يظهر براعته في التمثيل، ويقول جملة أو جملتين من نفسه. وقد استطعت مع الزمن أن أجذبهما إلى صفي، وأضمن عطفهما على قضيتي، التي أصارحكم بأنها كانت في ذلك الحين أشبه بما يسمونه في هذه الأيام بقضية حياة أو موت. كانت المشكلة الوحيدة عندهما هي ماذا عسى أن أضيف إلى ندائي المشهور. فأنا لست مؤلفا ولا يمكن أن أدعي ذلك. ولا بد في مثل هذه المشكلة أن يتولاها بنفسه مدير الفرقة وصاحب المسرح والمسئول الأول والأخير عن الرواية. فمن غير الجائز بالنسبة لفرقة تحترم نفسها وتحترم جمهورها أن يقف أحد الممثلين ويرتجل كلاما أي كلام على خشبة المسرح؛ إذ ماذا يفعل أبو السباع يا ترى؟ وماذا يكون وقع هذه الكلمات عليه. وحتى إذا فرضنا أنه لم يغضب ولم يثر ثوراته المألوفة، فماذا يكون موقفنا أمام الجمهور؟ وإذا حدث وتلجلجت أو اختلط الأمر على السلطان ولم يعرف بماذا يرد فماذا تكون الحال يا ترى؟

مشاكل عويصة بالطبع. حاولت أن ألتمس لها الحلول من كل طريق. ويظهر أن الإنسان مخلوق لا ييأس بطبعه - فمجرد أنه يتنفس دليل على أنه لم ييأس بعد تماما! - وأنه في بعض الأحيان يصل به الطيش إلى حد أن يخاطر بكل شيء في سبيل نزوة طارئة يخيل إليه أنها الشعرة التي تفصل بين وجوده وعدمه. المهم أنني كنت قد يئست من أن أفاتح أبا السباع بنفسي في ذلك الأمر. كتمت في نفسي وقلت أنتهز فرصة مناسبة وألقي بقنبلتي على المسرح. فإما أحرقتني ومن معي وإما تطايرت معها في السماء وأصبحت أعظم ممثل في فرقة الفنون العالمية.

وقضيت السنوات الطويلة أفكر في مسألتي. كان لا بد أن أضيف شيئا إلى مولانا السلطان. جملة أو جملتين أو عدة سطور. كانت المسألة في نظري قد انتهت وتقرر الأمر. لا بد من أن أقول شيئا وليكن ما يكون! وجاءت مشكلة أخرى لم تكن في الانتظار. ماذا ستكون هذه العبارة؟ وهل تناسب الجو الذي ستقال فيه أم ستكون شاذة عليه؟ هل تحوز قبولا لدى السلطان هارون أم سينفر منها ويغضب وربما يهجم علي ويقبض على رقبتي؟ وإذا أغضبته فهل تحوز رضا الجمهور؟ إنها إن فعلت فلن يهمني بالطبع أن يسخط السلطان أو يرفض، فإسعاد الجمهور، كما يعلم كل ممثل على ظهر الأرض، هو هدفنا الأول والأخير. أم يا ترى سيتلجلج السلطان وينسى الدور الذي حفظه ويرتبك ويشعر الجميع بارتباكه؟ ورأيت بعد طول تفكير أنه لا بد من استبعاد هذا الاحتمال الأخير. فالملقن سيبادر بغير شك إلى مساعدته. ومن حسن الحظ أن الملقن دائما ما يكون هناك. إذن فلأتوكل على الله وليكن ما يكون.

وجاءت مشكلة أخرى: ماذا سأقول؟ لا يمكن بالطبع أن أرتب دورا طويلا يستلزم الأخذ والرد، كما يستلزم استعدادا سابقا ومرانا طويلا عليه. ثم إنني لا أستطيع أن أرتب هذا الدور من طرف واحد، وإلا لزم أن يخرج السلطان على الفور من المسرح ويتركني لأحدث نفسي. إذن فلا بد أن تكون عبارة أو عدة عبارات أضيفها إلى كلمتي القديمتين. ولكن أي عبارة؟ هل أقول مثلا: مولاي السلطان «لاحظ أنني قلت مولاي، لا مولانا، واعتبرت المسألة بذلك شخصية إلى أبعد حد!» لماذا حكمت علي بهذا؟ - عبارة سخيفة بغير شك؛ فهو أولا لم يحكم علي بشيء؛ لأنني أنا الذي سعيت إلى الالتحاق بالفرقة وإن لم أكن بالطبع قد سعيت إلى هذا الدور بالذات. ثم بماذا يستطيع أن يرد علي؟ وهل من المعقول - وليكن معلوما أن كل جهودي ليس فيها أي اعتراض على هذا الدور - أن يتحدث الحاجب إلى سيده وسلطانه ويوجه إليه مثل هذا السؤال؟ أم أخاطبه - وسيفاجأ بالطبع بذلك في كل الأحوال - قائلا: مولاي السلطان. هل تسمحون لي بأن أقول لكم، ولكن ماذا أقول له؟ هنا تأتي المشكلة. إن كل ما سمح لي بقوله هو: مولانا السلطان. أقولها بصوتي الجهوري. وأمد فيها وأجود كما أشاء. ولكنها تظل محايدة، بعيدة عن كل علاقة شخصية، ثابتة ورزينة كحكم يتلى في المحكمة. ثم ماذا عندي لأقوله له؟ ستقولون أشكو له حالي. ولكن لماذا أشكو الآن بعد هذا العمر الطويل؟ وهل يستطيع هو نفسه - وهو في نهاية الأمر ممثل يقف على خشبة المسرح كل ليلة كما أقف - أن يغير من الأمر شيئا؟

قضيت السنين كما قلت أفكر فيما سأقوله لأبي السباع، لا بل فيما سأفاجئه به، في ليلة رهيبة كنت أعلم تماما أنها ربما كانت آخر ليلة على المسرح، وربما كانت بداية مجد جديد يكتب لي فيها الحظ من السماء. كنت قد بدأت أشعر بدبيب الشيخوخة في جسدي، بالشعرات البيض تلمع واحدة بعد الأخرى في رأسي، بالتعب يزحف على روحي. ويظهر أن هذا الشعور، إلى جانب النزوة الطائشة التي كانت قد تحكمت في والتي حكيت لكم عنها من قبل هما اللذان أوعزا إلي أن أنتهي إلى عبارتي التي فكرت فيها طويلا، حتى كدت أنا نفسي أصبح حرفا أو نقطة فيها. «ومن حسن الحظ أن مسرورا السياف وجعفرا بل السلطان نفسه لم يلاحظوا في السنوات الأخيرة أنني كنت أكثر من الحديث مع نفسي وأنني كنت أقف على المسرح شبه غائب عن الوعي، وأن صيحتي المألوفة كانت تأتي قبل موعدها أو بعده، بل إنني نسيت عدة مرات أن أهتف بها بالمرة». المهم أنني وقفت أخيرا على المسرح، وجاءت اللحظة التي أقول فيها كلمتي الخطيرة. كان ذلك ليلة الأمس كما قلت لكم. ولست في حاجة إلى أن أقول إنني على الرغم من تعبي ودقات قلبي المتلاحقة قد جمعت كل شجاعتي على طرف لساني وقذفت بها مرة واحدة في وجهه. بغير ضعف ولا صراخ ولا رغبة ظاهرة أو خفية في البكاء أو العفو والاستغفار. لم يكد السلطان يجلس على كرسي العرش في أول الرواية حتى تركت مكاني المعتاد على الباب الأيمن من المسرح ووقفت أمامه قلت: مولاي السلطان! ورفع أبو السباع رأسه الضخم الأصلع إلي ولاحت على شفتيه الجافتين شبه ابتسامة وفي عينيه الراضيتين شبه استغراب، فتقدمت أكثر وألقيت بنفسي على ركبتي وأنا أهتف: مولاي السلطان! هل تسمحون لي بأن أقبل قدميكم؟!

ونهض السلطان واقفا. في جلال يعرفه الجميع عنه، انحنى ووضع يديه على كتفي «يظهر أنني كنت قد نسيت نفسي!» وقال: «قم يا بني. قم وخذ جزاءك من عبيدي.» وأشار بإصبعه الذي يلمع فيه خاتم ذهبي مرصع بفص من الفيروز إلى مسرور السياف، فأسرع وجذبني معه إلى الخارج. لا أدري إن كان الجمهور قد هاج وثار أم ضحك وزاط أم لبث هادئا ولم يلاحظ شيئا، «فمن حسن الحظ أن الجمهور في كل ليلة غالبا ما يكون غيره في الليلة السابقة». المهم أنني كنت أنتظر جزائي في الخارج. بعد أن قلت كلمتي نلت جزءا منه والباقي بعد أن انتهت الرواية.

ألم أقل لكم إنهم تجمعوا حولي وصفعوني على وجهي وركلوني بالأقدام؟ ألم أقل لكم إنهم طردوني من المسرح؟

1964

أسوار المدينة

أنا رجل ضائع في المدينة.

شهادة ميلادي تؤكد أنني موجود.

ثيابي رثة. طعامي قليل. شعر رأسي أشعث. وحذائي متمزق من قديم.

أما مدينتنا فهي عظيمة، واسعة الأرجاء، يحدها من الشمال جبل هائل مرتفع. ومن الشرق صحراء ممتدة إلى غير نهاية. ويجري في وسطها نهر لطيف محبوب بين صفين من أشجار النخيل. وما أكثر ما تراءت مدينتنا لعيني تنينا ضخما، ينفث الدخان من فمه، وعلى رأسه تطوف سحابات شتاء قاتمة. ربما يرجع هذا إلى أن عيني يأكلها الرمد من زمن بعيد، فلا تميزان الرؤى والمشاهد. كل ما أستطيع أن أؤكده أنني كلما سرت في شوارع مدينتنا استطالت أمامي أجسام الناس، وتضخمت أبعادها، واختلطت علي حدودها، فلا أكاد أعرف إن كانوا بشرا، وتكاد عيناي تدمعان.

مدينتنا مدينة عظيمة كما أسلفت. أعظم ما فيها هذا السور الهائل المنيع الذي لا يذكر اسمها إلا مقترنا به، يحدها من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب. وتاريخها مذكور في الكتب. مدون في الأسفار الكبيرة، محفور في الآثار والصخور، وفي رءوس حكمائنا الشيوخ. وإن نسينا في بعض الأحيان أن مدينتنا قد هاجمتها جيوش أعداء كثيرين، على مر الدهور ، فلنا العذر في ذلك. فذاكرة أمثالي من رجال أمتنا ضعيفة. وكيف تعلق بأذهاننا تفاصيل لا حصر لها؟

كان من أعدائنا من يلبسون العمائم الكبيرة والبيضاء، ويحملون السيوف في أيديهم، ويقاتلون أجدادنا كالوحوش، وكان منهم من يلبسون القبعات فوق رءوسهم، ويتطاير الشرر من عيونهم الخضراء، ويرطنون بلسان غريب على أفهامنا، ولكنه رقيق. لن نستطيع أن نذكر جميع أعدائنا، كل ما نذكره هو هذا السور الهائل المنيع حول مدينتنا. تقول عجائزنا المخرفات أنهم قد بنوه منذ مئات السنين، ويقول حكماؤنا ذوو اللحى الطويلة، والرءوس الصلعاء من أثر الحكمة، أنه موجود على حاله منذ الأزل. ونحن بينهم حائرون: فتحنا أعيننا فرأينا هذا السور الهائل المنيع يطوق مدينتنا، من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب، يكاد يخنق أنفاسنا. ويكاد الحزن يغلبنا فنعتقد أننا سنموت ونتركه وراءنا.

حكاية هذا السور العظيم لا تبرح رءوسنا ولا شفاهنا. في كل بيت. في كل منتدى. في كل شارع. في كل حي نجد من يذكر السور وهو خائف، وأطرافه ترتعد. جدتي قالت لي - أيام أن كانت تروي لي الحواديت في ليالي الشتاء - إن هذا السور قد بناه حاكم عظيم، كأنه مارد من الجان، بساعديه الغليظين. وأمي حذرتني - وهي على فراش الموت - من أن أقربه. لكنني مع ذلك بقيت حائرا، والشك يطل من عيني. حرصت على أن أجمع كل خبر، وأن ألتقي بكل من أتوسم فيه المعرفة بنبأ السور العظيم. وكان أن جمعت أنباء طيبة، وإن كنت أعجب من اضطرابها، ومن تناقضها في أكثر الأحيان. فحراسنا الأشداء يقولون إنه يحمي مدينتنا من غارة الأعداء - وهم كثيرون - والفلاحون الأتقياء يؤكدون في لهجة صادقة أنه يصد عنا رياح الشمال التي كانت تهلك فيما مضى محاصيلنا، وتؤذي زرعنا ونباتنا، أما الحكماء فهم يقولون - وعيونهم لا تفتأ تتأمل الكتب القديمة الصفراء، وأصابعهم تتخلل لحاهم البيضاء - إن هذا السور يعصمنا من الجهل الذي عم البلاد، ومن وباء استشرى في سائر الأمم، وإننا لذلك سنبقى حكماء عاقلين ما بقي لنا هذا البناء العظيم.

هذا السور قد صحب أعمارنا، وحفظ ذكرياتنا، فنحن نخشى عليه من أن ينهدم منه حجر، أو تفتح فيه ثغرة. أجدادنا من المهندسين صبوا فيه عصارة أفكارهم، وسهروا الليالي الطويلة وهم يعدون رسومه، ويبدعون تصميمه، ويقيمون أعمدته وأبهاءه، وشبابنا من البنائين والصناع والعمال قد وضعوا فيه جهد أعضائهم وأعصابهم ودمائهم، لبثوا عشرات السنين يحفرون، ويردمون، ويحملون الطوب والحجارة فوق أكتافهم، ويتحملون لفحات شمسنا الخالدة فوق رءوسهم. ومات منهم كثيرون، واختلطت عظامهم بالرماد والجير والأسمنت. وأطفالنا لعبوا حوله، ولمسوا أحجاره، وحملوا في رءوسهم الصغيرة أعز الذكريات. والعشاق لم ينسوا أن يصحبوا معشوقاتهم إلى جانب السور العظيم، فاستندوا معهم على جدرانه، وغازلوهن واعتصروا أجسادهن من الحب، ورقصوا، ورجعوا في آخر الليل وقد أضناهم العناق والضم والتقبيل. أما عجائزنا من الشيوخ والنساء فقد كان لهم في جوار السور أولياء صالحون، وقديسون طيبون، يزورونهم بين حين وحين، ويؤدون فروض العبادة في أضرحتهم، ويلثمون أطراف أكفانهم، ويرجعون إلى بيوتهم راضين مستبشرين.

ولكن حدث منذ عهد قريب ما جعلنا نشفق على سورنا العظيم من أن يصيبه أذى؛ فقد أسفر صباح يوم سار فيه المنادي - وهو رجل أعمى يقوده صبي حافي القدمين - في شوارع المدينة وهو يلقي بالنبأ العظيم: «لقد وجدت أمس في جدار السور ثغرة كبيرة. الحراس يبحثون عن اللصوص.» سرى النبأ في المدينة مسرى الرعب. من هم هؤلاء اللصوص؟ من أين جاءوا؟ كيف واتتهم الجرأة على أن يتسللوا إلى مدينتنا أو يهربوا منها؟ وسرعان ما تم التدبير، واحتاط حراسنا الأشداء لكل الظروف. ووضع على مسافات متقاربة من السور رجال من الشرطة مدججين بالسلاح، وعيونهم ساهرة بالليل والنهار. ولم يمض قليل حتى ضبط اللصوص المعتدون. وأمر الحاكم العظيم بأن ينزل بهم أشد العقاب. فسار بهم رجال الشرطة في شوارع المدينة بعد أن حلقت رءوسهم، ومزقت ثيابهم، حفاة عراة إلا من خرقة تسترهم. أنا قد رأيتهم بعيني، فأنا واحد من شعب هذه المدينة. ومن حقي أن أقف على جانب الشارع لأتفرج على الموكب وهو يمر من أمامي. وشد ما كانت دهشتي إذ عرفت اللصوص الثلاثة. لا ريب أنهم من أهل مدينتنا، بل يخيل إلي أنني رأيتهم وعاملتهم، وإن كنت لا أذكر تماما أين كان ذلك؟ ولقد بلغت بي الشفقة عليهم حدا كبيرا، فاستغفرت لذنوبهم، وطلبت في قلبي لهم الرحمة من الله، ومن الحاكم. كان موكبهم شيئا يبعث على الألم حقا. فلا بد أن حراسنا الأشداء قد ضربوهم على ظهورهم بالسياط حتى سالت منها الدماء في خيوط متعرجة، حفرت عليها آثارا عميقة كامدة.

ولقد بلغني بعد رؤية هذا المشهد بيومين، أن الحاكم الكبير لم يكتف بهذا الجزاء، بل طلب أن يوضع الثلاثة في السجن. ولما لم تكن في مدينتنا سجون، فقد أمر فبنيت لهم على عجل زنزانة ضيقة، منعزلة في قلب الجبل - قيل لي: إنها قد كلفت ميزانية الحاكم أموالا طائلة - فلما قيل له: إنه لا بد للمسجونين من حارس. صار يدمدم يومين كاملين، فالنفقات لم تكن تخطر على باله، ولقد سمعنا ونحن في المدينة - فقد صار نبأ هؤلاء المساجين أهم ما يشغلنا ويجذب انتباهنا - أن اللصوص الثلاثة قد صافحوا حارسهم في حرارة وهم يدخلون في الزنزانة. وأن واحدا منهم راح يؤكد حين أغلقت عليهم الزنزانة أنه هو الذي صنع البوابة الحديدية والقفل الكبير بيديه، مما سر الحارس وجعله يغرق في الضحك. وكان زميلاه في السجن كذلك في غاية من الانشراح. أما أحدهما فهو فلاح بسيط كان يعيش على قطعة صغيرة من الأرض يزرعها بقليل من القمح والخضر ويعيش سعيدا مع أبويه العجوزين وأولاده الأربعة. وأما الآخر فكان شابا يشع من عينيه الذكاء والقلق. لم يكد الحارس يغلق عليه باب الزنزانة حتى طلب أوراقا وقلما.

وهكذا سارت الأمور على خير ما يرام. فالسجناء الثلاثة فرحون مستبشرون لسبب لا ندريه. بل لقد زادت شهيتهم للطعام «حتى طلب أحدهم أن يؤتى له بفخذ خروف محمر، وثلاثة أرطال من اللحم المشوي. وأقتين من التفاح والكمثرى»، وهم لا يكفون عن الضحك والتهليل كأنهم قد دخلوا حانة أو مشربا، ثم إنهم ينامون نوما هادئا، وعلى الأخص ذلك الحداد الذي لا يكاد يصحو من نومه حتى يطلب الطعام من حارسه ثم يعود إلى النوم في هدوء.

ولقد سارت أمور المسجونين الثلاثة على النحو التالي: كانوا يزدادون سمنة يوما بعد يوم، ونتيجة لذلك زادت نفقات إيوائهم على الحاكم - حتى كان يوم استشاط فيه غضبا - أرسل إلى مدير ديوانه ليقول له وعيناه ترسلان الشرر: لا بد من الخلاص من هؤلاء الملاعين. - وكيف يا مولاي؟ - اقطعوا رقابهم. - لا نستطيع يا مولاي. - وماذا يمنعكم؟ - نخاف على سور المدينة. - وما شأن السور في هذا؟ - ستزداد فيه الثغرات، ويهجم شعبك الأمين عليه فيهدم أحجاره. - إذن فافتحوا أبواب السجن. - ومتى كانت السجون مفتوحة الأبواب. - افعلوا أي شيء. فقد ضاقت نفسي بهذه التكاليف.

وأذعن مدير الديوان لهذا الأمر، فأمر حارس الزنزانة أن يترك بابها مفتوحا. ولكن هذه الوسيلة لم تجد إزاء عنادهم؛ فقد كانوا يخرجون للطعام أو للنزهة ثم يعودون إلى السجن فيغلقونه عليهم في إحكام. وسارت الأمور على هذا النحو أياما. المساجين ينفذون العقوبة المفروضة عليهم بأمانة وإخلاص، والحارس يستولي عليه الملل ويغط في نوم لا يفيق منه.

وبلغت أنباء الثلاثة أسماع أهل المدينة. إنهم يستطيعون - بمجرد فتح ثغرة في السور العظيم - أن ينعموا بسجن هادئ مريح، وأن يناموا ملء جفونهم، ويستسلموا لأحلام صافية. وكان أن تسلل الكثيرون إلى السور في الليل - وكل من فتح ثغرة أو نقل حجرا عن موضعه أسرع إليه الحارس فقبض عليه، وأسلمه لرجال الأمن. وتعددت هذه الحوادث حتى ألفت آذاننا صوت المنادي العجوز وهو يطوف بالطرقات ليعلن نبأ القبض على اللصوص. ووجد العاطلون من أهل المدينة عملا مربحا في بناء السجون الجديدة المحكمة. وأطمعت هذه الثروة المفاجئة الكثيرين، فتركوا أعمالهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم وشاركوا في البناء الجديد في همة ونشاط. ولكن الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد أن عددا من الصبية والنساء قد تسللوا ذات ليلة إلى السور العظيم - في غفلة من الحراس - فقلبوا أحجارا كثيرة عن مواضعها، وفتحوا فيه ثغرات لا يقوى عليها إلا الرجال. وكان أهل المدينة كراما مع هؤلاء المذنبين. فقد أثارتهم المروءة والوفاء، وهزهم الشحوب البادي على وجوههم، فدلوا رجال الأمن عليهم.

لم يكن بد إزاء هذه الأحداث من أن تقام المحاكم، وأن يجعل لها قضاة مهيبو الطلعة، طوال اللحى، يتلفعون في مسوح سوداء فضفاضة كمسوح الرهبان. وكثر عدد هذه المحاكم فيما بعد حتى دخلت كل حي، ومن لا يحاكم يتفرج. وتوافد الفلاحون الأتقياء من القرى البعيدة ليشهدوا، ويروا المدينة التي تقيدها سلاسل من الحجارة. أما الحاكم فلم يكن يفهم مما يدور حوله شيئا. كان يعجب لأهل المدينة الذين يسيرون إلى السجن بمحض اختيارهم. وكان أكثر ما يزيده غيظا أن يسمع أناشيدهم حين تسوقهم الشرطة إليها، وكان أشد ما عجب له أن الحراس الذين وضعهم على مسافات متقاربة من السور العظيم قد تفشى بينهم مرض النوم «لقد رآهم بنفسه يتثاءبون». وراع الحاكم ما سمع وما رأى، فأسرع يستدعى كبير قضاته. وحين مثل هذا بين يديه. وانحنى أمامه حتى كادت جبهته أن تلمس الأرض صاح فيه: أرأيت؟ أرأيت؟ - أنا أيضا لا أكاد أصدق يا مولاي. - وماذا يريدون؟ - السجن. - أيعاقبون أنفسهم بأنفسهم؟ - ويطلبون المزيد من العقاب. - المدينة امتلأت بالسجون. ليس بوسعي أن أفعل أكثر من هذا. - نحن أيضا قد يئسنا يا مولاي. لقد تعطلت وظيفتنا. لم يعد لأمثالنا من القضاء ضرورة. إن الجميع يتمنون العقاب الذي نفرضه عليهم. - احكموا عليهم بعقاب أشد. - الحكم في يدك يا مولاي. - في يدي؟ - نعم، هناك حكم واحد يريحنا من هذا العذاب. - تكلم، تكلم. هل نسجنهم إلى الأبد؟ - لقد جربنا هذا. - إذن نقطع رقابهم. - ولا هذا. - ويحك، بماذا أحكم إذن؟ - احكم عليهم بالحرية. - الحرية؟! وكيف؟ - اهدم السور العظيم.

قال كبير القضاة ذلك واحمر وجهه كفتاة عذراء، ثم انحنى حتى كادت جبهته تلمس الأرض، وخرج وهو يتعثر في أطراف ثوبه الفضفاض.

وعاد القاضي من فوره إلى المحكمة. وسارت الأمور سيرها الطبيعي. النساء يلدن. والصغار يكبرون. والعجائز يموتون. والثيران تدور في الطواحين. وأمواج الفلاحين تترى على مدينتنا من القرى البعيدة. كل شيء يجري على ما يرام.

كان ذلك منذ زمان قديم، سحيق في القدم، ولم تزل أسوار مدينتنا كما هي، عالية، مرتفعة، تحجب عنا رياح الشمال، وتكاد تحجب النور.

وما برح أهل مدينتنا يتسللون إليها في ظلمات الليل، يغافلون حراسها، ويحفرون فيها ثغرة جديدة.

أدرك أهل المدينة أن مدينتهم قد باتت وهي سجن كبير. ولم يكن الحاكم يدري أن السجن الصغير يمكن أن يتسع ويتسع حتى يضم كل هذا العدد من الناس.

أما أنا - وإن كنت رجلا مسكينا من أهل هذه المدينة، فثيابي رثة، وقدماي حافيتان، وطعامي قليل - فقد فهمت ما يريدون. لمعت هذه الفكرة في رأسي فجأة وعلى غير انتظار: سوف لا يهدأ لهم بال حتى يهدموا السور العظيم، وينقضوه حجرا بعد حجر.

أنا قد لمحت هذا في عيونهم.

1953

قيصر

افسحوا الطريق لقيصر.

من هنا سيعبر موكبه.

عما قليل ستهل عليكم طلعته. - قيصر، يا ظل الله في الأرض.

أصوات الرعية تهمهم من بعيد.

والحاشية تحف بالعربة الإمبراطورية.

الموكب لا ريب قادم في الطريق. أنا إذن سأبصره بعيني هاتين، بل ربما استطعت أن أندس بين صفوف الجند العظام، وأن أهتف مع الهاتفين، وأمد يدي فألمس - أقول ألمس! - العربة الإمبراطورية المزينة بالورود، المتوجة بالذهب وبالفضة. ومن يدري؟ فلعلي أستطيع أن ألفته إلى وجودي، ولعل الشجاعة أن تواتيني فأمد إليه يدي بشكواي. سيطرق قيصر العظيم برأسه، وربما ابتسم، وربما مال على أذني ليقول لي: «أنا لم أنسك قط. أنا لن أنساك في يوم من الأيام.» ولكن هل أستطيع حقا أن أنفذ من الستار العظيم الذي يطوقه بالرجال والسلاح؟ هل أستطيع حقا أن أعبر السياج المتين الذي تصنعه الهيبة والجلال حول مجده الإمبراطوري؟!

وا فرحتي بين العالمين!

من كان يصدق أنني سأرى قيصر؟

هل يمكن أن يتحقق الحلم في لحظة واحدة؟

سيعبر الموكب بعد قليل.

يا إلهي! ماذا يحدث لو أن قلبي خانته الشجاعة؟ سترهبه الأبواق التي تزعق من حولي، ستخيفه مواكب الجنود التي تزحم المكان، سيتلفت حوله فيجد نفسه غريبا ، مفقودا، عبر به الموكب، وانفضت الجموع ، وخرس الضجيج.

جاري يصيح وحنجرته تكاد تنشق: الموكب في الطريق.

وامرأة عجوز تداعب حفيدها وتشير بيدها النحيلة قائلة: عما قليل يمر من أمامنا قيصر.

وطفلة تفتح عينيها وتهتف بصوتها اللطيف: أليست هذه هي العربة يا أبي؟

لكنني لا أرى على مدى البصر شيئا.

ماذا يحدث لو لم يأت قيصر؟

اليأس لن يتسرب إلى نفسي. سوف أرى القيصر على أية حال.

وسوف أهتف بملء صوتي: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي. وسوف يضحك قيصر حتى يميل ظهره إلى الوراء، أما أنا فسوف أجري وراء الركب لألحق بعربة قيصر. وسوف يبعدني الحراس عن موكبه برفق ومع ذلك لن أبعد حتى أعرفه بشكواي، وأبسط له حالي، سيقول لي في آخر الأمر: اذهب إلى دار الطعام والكساء، قل لهم لقد بعثني قيصر إليكم.

دار الطعام والكساء قريبة من هذا الشارع.

سأتوجه إليها بعد قليل، بعد أن أكون قد رأيت الموكب وحادثت قيصر.

سأتقدم في غير وجل ولا خوف لأقول للأمين على خزائن الطعام: هذا أنا يا سيدي. لا لن أقول له يا سيدي - ألسنا جميعا سواء! - أتعرف من أين أنا آت إليك؟ سيفتح الأمين فمه من الدهشة، ستتسع عيناه اتساعا كبيرا عندما أقول في صوت لا تخونه الثقة: لقد بعثني قيصر إليك، قال لي: اذهب يا أحب رعيتي إلي، اذهب إلى الأمين ليفتح لك خزائني فكل منها ما تشاء. أشبع بطنك التي هدها الجوع. اكس جسدك الذي أكلته الرياح وهصرته أمطار الشتاء. سوف لا يصدقني الأمين في أول الأمر، وسوف يزمجر غاضبا ويأمر أتباعه أن اطردوا هذا الرجل من دار الطعام. لكنه لن يعرف في سطوة كبريائه أنني قد انتصرت عليه. نعم! لقد بلغته شكواي. وماذا بوسعي أن أفعل أكثر من هذا؟!

أنا لن أيأس كما قلت؛ ففي يدي ورقة دفعت عليها رسم الضريبة، وسطرت عليها شكواي ونمقتها بالخط الجميل، وحشوتها بعبارات المدح والثناء على قيصر العظيم. كيف تصل ورقتي إلى يد قيصر؟ قد تأخذني الحيرة أو تذهب بلبي، فغير بعيد من هذا الحي سأجد قصر العدالة. حقا إنني لم أدخل أبوابه من قبل، غير أنني سأصعد سلالم المرمر، وأمضي إلى الردهة الكبرى. سوف يسألني الحجاب: ماذا تريد أيها الرجل؟ وسوف أرد عليهم في عزم ثابت: أريد أن ألتقي بقاضي القضاة. - إنه مشغول بإقرار العدل في البلاد. - ولكني أريد أن أسمعه شكواي. - وهل نستطيع أن نعرف الرجل الذي تشكو منه؟ - حسن أيها السادة، إنه قيصر!

سيعجب الحجاب من أمري، وسيمد أحدهم يديه ليطردني بعيدا عن قصر العدالة، ولكن سأقنعه أن قيصر هو الذي بعثني، وسوف أفلت من أيديهم لأجري في ردهات القصر باحثا عن قاعة المحاكمات، وسوف أظل في القصر، حتى أجدها. هناك أصرخ بملء صوتي: يا قاضي القضاة! يا قاضي القضاة! ألا تسمع شكواي! وسيرفع القاضي وجهه إلى الجريء الذي دنست قدماه قدس أقداس العدالة، وسيقول لي: ممن تشكو أيها الرجل؟ وسوف أقول بلا أدنى خوف: أنا أشكو قيصر أيها القاضي الجليل.

ماذا عسى أن يفعل القاضي؟ إما أن يعطف على شكواي، ويؤجر المحامين للدفاع عنها - فأنا رجل فقير لا أملك حق الدفاع عن نفسي - وإما أن يثور ساخطا: ضعوه بين المتهمين. أما أنا فلن أغضب أو أثور؛ يكفيني أنني أسمعت القاضي شكواي. وسواء علي أن أقف بين المظلومين أو بين المذنبين، ألم أوفق إلى دخول قصر العدالة في آخر الأمر؟!

أنا أنتظر موكب قيصر. سوف ينحني علي، ويقرب وجهه من أذني، ويقول لي: ستجدني في القصر غدا.

ها هو القصر بلغته بعد أن تمزقت قدماي وغطى الغبار بشرتي. وها أنا ذا أتقدم من الحراس الأشداء. إنهم يظللون جدران القصر بهيبتهم، ويتسامقون عن جانبيه كالأشجار العتيقة المتكبرة. سوف لا أهاب شيئا، سوف أقول لهم: لقد بعثني الأمير إلى هذا القصر. سيضحك الحراس بلا مراء، وسيتخذون مني أضحوكة لهم، وربما هجم أحدهم فقبض علي بين ذراعيه كأنني دمية عاجزة، لكن هذا كله لن يخيفني، لن يضيرني أن أنتظر يوما أو يومين، أو أن أقف عند البوابة المرمية شهرا أو شهرين.

فسوف أبعد عن القصر وفي نفسي أحسن الذكريات، ألست قد عرفت الطريق إليه؟ ألست قد ألفت الحراس، وضاحكتهم، وحفظت ملامح وجوههم؟ ألم أفلح - إلى هذا كله - في أن أعطفهم على حالي، وأن أسرد عليهم حكايتي وتاريخي؟ ألست قد لمست يد الحارس؟ وأليست يد هذا الحارس ستلمس يد رئيسه الذي يفوقه قوة وبأسا؟! وهذا الأخير، من ذا يشك في أنه سيسلم على كبير حراس قيصر؟ أما كبير الحراس فإنه يسلم على قيصر نفسه في كل يوم مرات، أفلا أكون بهذا قد لمست يد قيصر؟!

ربما وجدتهم في المرة التالية يقولون لي: تفضل، لقد أذن لك قيصر، وهو ينتظرك في شوق وقلق في الردهة الكبرى!

سأمضي في طريقي غير هياب. - هل تسمح لي أيها الحارس المبجل. - أراك رجلا من الشعب. - إني لكذلك يا سيدي. - إذن فقد أخطأت الطريق. - ولكن قيصر هو الذي بعث بنفسه إلي يا سيدي.

ويفطن هذا الحارس الغبي إلى خطئه حين يهرع إلى حارس آخر أعلى منه رتبة ليقول لي: تفضل مكرما، نحن ننتظرك من سنين وسنين، ألست أنت ... (وهنا ينطق باسمي.) - نعم أنا هو يا سيدي. - ادخل، ادخل؛ إن قيصر العظيم مشتاق إلى رؤياك!

وأصعد سلالم الرخام الناصعة، حريصا حتى لا تنزلق قدمي. وأمر يدي لأنعمها بملمس الأعمدة الملساء، وأسير في معبر طويل لا تكاد نهايته أن ترى - وحين أبلغ قاعة فسيحة عليها حراس متدثرون بسترة زرقاء، تلمع فوق أكتافهم نجوم وأقمار ذهبية براقة، أسألهم: أنبئوا قيصر أن رجلا من شعبه الأمين قد جاء؟ - ولكن هذا مكان حاجب الوزير.

فأرد عليهم ساخطا: من قال لكم إنني أريد مقابلة الوزير؟!

فيجيبني أحدهم وهو يحاول أن يرضيني: أردنا أن نقول إنه وزير قيصر.

وأنصرف عنهم لأواصل سيري. عما قريب سأجد قيصر وسأمثل بين يديه. كيف يصدق أخوتي وصحابي أنني مثلت بين يدي قيصر؟! من كان يظن أن هذا سيحدث لرجل مثلي؟! وأدور من قاعة إلى قاعة، مبهورا بالسحر الذي يتخايل أمام ناظري، في الثريات، والطنافس، والرسوم، والمرايا ، والرياش، والتحف الغالية. ولكني سأمضي قدما حتى أجد قيصر، وسوف تشغلني عما أرى أفكاري التي تضطرب في خاطري، وخطابي المنمق الطويل الذي سألقيه بين يديه.

ويقفز أمامي رجل طويل غرق جسده في ثوب رمادي يبدو وكأنه قد خرج من بين الجدران ليقول لي: أي شيطان جاء بك إلى هنا؟

فأقول له وشجاعتي لا تفارقني: لقد بعث قيصر إلي.

فيقول وهو يرفع حاجبيه من الدهشة: ولكن هذا الجناح مخصص لكبير وزراء قيصر.

فأسأله في صوت رزين: وأين إذن أجد قيصر؟ - اذهب إلى القاعة الكبرى، وهناك فلتسأل كبير التشريفات.

وأقلب الورقة التي كتبت فيها شكواي بين يدي. وحين أفرغ من قراءتها - للمرة الواحدة بعد المائة - يعاودني الأمل في لقاء قيصر. ولكني أصحو على أصوات تناديني من خلفي: أيها الرجل، أيها الرجل.

فألتفت لأجد جماعة من الحراس يتقدمون نحوي. وأجفل لرؤيتهم، وتطرف عيناي؛ إذ تقع على ملابسهم المزركشة بالألوان الحمراء والزرقاء، ويقبض واحد منهم على ذراعي ليقول لي: إنا نبحث عنك منذ ساعات.

فأقول لهم: وأنا أيضا أبحث عن قيصر.

فيعتذر إلي حارس طويل القامة في أدب رقيق: لقد أخطأنا حين تركناك تدخل القصر.

فأتعلق بثيابهم وأنا أستنجد، ألست رجلا من الشعب؟! - نعم، ولكنه يريد رجلا آخر!

وأعود معهم أشق ردهات القصر، وأعبر دروبه، وأجوز قاعاته، وأتفرج على بدائعه وكنوزه، ويلاحظ الحراس أن رجلي أصابهما الوهن، فأنا أعرج بهما، وأنني في حاجة إلى الراحة بعد جهد المسير.

أنا ما زلت في موقفي على أفريز هذا الشارع.

ها قد انقضت ساعات الظهيرة.

ولا بد لي من أن أرى قيصر.

سمعت أناسا يهتفون وتبح أصواتهم. بعضهم يقول إنه قد رأى الموكب وهو يعبر الحي القريب، ولكن عاقته الجماهير المتدافعة عن مسيره، والبعض الآخر يؤكد أنه قد سمع الأبواق على طول الطريق، وهي تؤذن بقدوم قيصر. وفريق ثالث يقسم الأيمان على أنه قد شاهد العربة الإمبراطورية وهي تخطر في الطريق كالعروس الجميلة في ليلة الزفاف. ثم يعتذر عن تقصيره في الوصف قائلا: إن أحكم حكمائنا، وأعز شعرائنا لن يستطيع أن يصف لكم روعة الموكب الإمبراطوري. ونتحرق نحن شوقا إلى رؤية هذا الموكب، وقد يحلم بعضنا بالذهب يتناثر من يدي قيصر على جانبي الطريق، وقد يطمع الجياع منا في طعام هنيء يأمر به قيصر، والحفاة في أحذية جديدة يوصي بصنعها قيصر، والمظلومون في العدل الذي يأمر به قيصر.

لكن الشمس تغرب، والشفق يصبغ بحمرته الدامية وجوهنا الشاحبة كشحوب أنواره.

والأصوات التي كنا نتصور أنها تصم آذاننا أصبحت موجات من الصدى تنغمها الريح في الفضاء.

وفريق منا أضناهم التعب فانصرفوا إلى بيوتهم وهم يعدون أنفسهم برؤيته في زمن قريب.

أما أنا فأقلب بين يدي الورقة التي كتبت فيها شكواي، ودفعت عليها رسم الضريبة، وأقول في نفسي: أفلا يصدق الحلم فأجثو أمام قيصر، وأقبل قدميه وأبكي؟

يا ظل الله في الأرض!

لم لم يعبر بي موكبك؟

يا سيد البحار والأراضي!

أنا أنتظر موكبك.

ألن يأتي هذا اليوم في عمري أبدا؟

أنا لن أذهب إلى بيتي كما فعل غيري. فسوف أنتظر، وأنتظر، إلى صباح الغد، وبعد الغد، وأيام المستقبل كله.

على هذا الجانب من الطريق سأسمر رجلي الضعيفتين حتى أسمع الأبواق تنفخ من بعيد، والرعية الأمينة تهتف، والعربة التي تجرها الجياد المطهمة تسير أمامي. عندئذ سأمرق وسط الزحام، وأشق السياج المتين الذي يطوق قيصر، وأقف بين يديه، وألقي عليه بشكواي. حقا إن شكواي طويلة مستفيضة، ولكن قيصر لن يسأم منها. سيأمر بوقف الموكب ليراني، سيوصي بإخماد كل الأصوات ليسمع صوتي. وبعد أن أفرغ من شكواي التي ستستغرق أياما وأياما سيميل على أذني، ويسر إلي بهذا السؤال: من أنت أيها الرجل المسكين؟ فأرفع إليه عينين تملؤهما الدموع وأقول: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي. فيميل على أذني للمرة الأخيرة ليقول لي في حنان عظيم: يا أقرب الناس من قلبي.

انتظر حتى أراك في موكبي التالي.

ولكن متى يمر الموكب؟ ومن أين؟ من الشارع الآخر؟ لا! في مدينة أخرى؟ لا! في عالم آخر؟

أحقا أنني لن أراه أبدا؟!

1954

الراهب

ذات يوم من سنين بعيدة، كثيرة لا يحصيها العدد، قديمة لا تدركها ذاكرة إنسان، كان هناك راهب شاب، لم تنبت شعرات لحيته بعد، يجلس وحيدا في غرفته في الدير المعروف بدير هيسترباخ. كان الكتاب المقدس مفتوحا أمامه منذ ساعات، وعيناه تتابعان الآيات المسطورة أمامه، ولكن عقله ذاهل عنها، وفكره مشغول بالعلل الأولى والأخيرة للأشياء، غارق في تأمل الحياة والموت والمصير. كانت هناك عبارة لم يمل من قراءتها، ولكنه لم يستطع أن يفهم معناها أو يصل إلى سرها: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل».

عذبه التأمل والتفكير حتى ضاقت نفسه بمحنتها، وأحس بالحر يكاد يخنقه، وباللهب يمتد من دماغه وقلبه فيتغلغل في جسده حتى يكاد يحرقه. هنالك نهض من مجلسه، وهبط إلى حديقة الدير، فشعر بأنسام الربيع تنعش وجهه، وترفرف حول أذنيه. كان لا يزال سابحا في ذهوله فلم تبصر عيناه الذاهلتان شيئا مما يجري حوله؛ لا الرهبان العجائز المنتشرين بين أحواض الزرع والزهور، ولا الشبان السائرون في ممرات الحديقة تتحرك شفاههم وهم يتلون من الكتاب المفتوح بين أيديهم، ولا السور الأجرد المبني من أحجار الجبل التي حال لونها ونمت عليها الأعشاب والأشواك. ولكن صوتا رقيقا، مثل أجراس ناقوس يدق وراء الأفق بدا كأنه أعاده إلى نفسه. كان صوت غناء شجي، متقطع، خجول، كأنه صوت أجنحة طفل ملائكي يهبط من السحاب ويتجلى للآباء الصالحين والقديسين. وبحثت عيناه قليلا بين أوراق الشجر، وهدته أذناه إلى طائر صغير ينتفض على غصن شجرة السرو العتيقة المغروسة إلى جانب السور، ويقفز من ورقة إلى ورقة كأنه يتعذب مثله بالتفكير في الأصل والمصير. كان الصوت على الرغم من ارتعاشه وحزنه، رقيقا وساحرا كأنما ينبعث من ناي يلعب عليه أحد الرعاة. نسي الراهب الشاب عذابه، وغمرته فرحة سماوية أبعدت عنه همه وضيقه، فراح يتابع غناء الطائر العجيب، ويجري وراءه وهو يطير من شجرة إلى شجرة، ولا ينتهي من لحن إلا ليبدأ في لحن جديد. أخذ الراهب الشاب يتابعه بقلبه قبل عينيه، مسحورا بغنائه الذي يتدفق في صدره كأنه خرير نبع الحياة الأبدية، حتى حط الطائر أخيرا فوق شجرة صنوبر وراء السور. ولما كان باب الدير مفتوحا فقد سار الراهب الشاب في طريقه، وعبر الباب الخارجي بدون أن يشعر وراح يتابع الطائر الجميل وهو يقفز من شجرة إلى شجرة، ويسكب خيوطه الذهبية الصافية فيجذبه معه. ولم يحس الراهب الشاب بنفسه وهو يجوس في الغابة، مذهولا عن الجمال الإلهي الذي أسدله الربيع على طيورها وأشجارها ونباتها ودروبها. ولم يشعر بنفسه وقد توغل في الغابة حتى وصل إلى واد عميق مخضر كأنه هاوية، تتكاثف فيه أعواد العليق، ويتلألأ فيه نبع صاف تحت أشعة الشمس الذهبية.

وفجأة أحس أن الشمس قد غابت، والطائر سكت، والغابة بدأت تسحب عليها غطاءها الداكن الظلال، والبرودة تسري إليه من جوف الوادي ومن النسمات الباردة التي بدأت تلفح وجهه. كان كل شيء فيه يرتعش رعشة لم يحس بها في حياته من قبل، وإن كان في نشوة انبهاره قد عزاها إلى وحشة الغابة، ورطوبة المساء، وجلال الغروب. وازدادت الرعشة حتى أصبح كيانه كله ينتفض، فاستدار يريد العودة من حيث أتى. ولكن أعواد العليق والتنوب والأرز شبكت في بردته، فراح يخلص نفسه منها في عناء. ولما أنقذ نفسه أخيرا من الأذرع الخضراء التي امتدت لتعانقه على الرغم منه، وسلك الطريق الذي بدا له أنه يوصله إلى الدير، كانت الشمس قد دخلت كهفها الأبدي منذ لحظات، حتى إنه لم يكن يكاد يرى أصابع كفه حين يبسطها أمامه ولا مواضع قدميه عندما وصل إلى الدير. كان باب الحديقة مغلقا، والسكون يخيم على الدير الذي بدا كأطلال مدينة قديمة مهجورة. ووجد الراهب الشاب أن عليه أن يدور حول السور دورة مضنية قبل أن يصل إلى البوابة الرئيسية. وحين وقف أخيرا أمامها ولمست يداه قضبانها الحديدية العالية منعه الخجل لحظات من أن يجذب حبل الجرس. ولكنه حين تغلب أخيرا على خجله أخذ يبحث عن الحبل فلم يجده في موضعه؛ هنالك لم يجد بدا من الطرق على الباب كما يفعل الغريب.

وفتحت البوابة وأطل منها وجه لم يتبينه في أول الأمر وإن شعر أنه لا بد أن يكون وجه شيخ عجوز لن يرحمه من اللوم والتأنيب. وحاول الراهب الشاب ألا يعطيه فرصة للعتاب والتوبيخ فأسرع يعتذر إليه عن تأخره الشديد في صوت لا تخطئ الأذن نغمته المتضعة الكسيرة. وأراد أن يمضي في طريقه الذي يعرفه جيدا لولا أن اعترضه الشيخ العجوز وراح يتفرس في وجهه ويفحصه بعينيه الغائرتين كأنما يفحص وجه حيوان منقرض. ولاحظ الراهب الشاب أنه لم يكن هو نفس البواب الذي تركه وراءه، كما أن البواب الجديد لم يترك له فرصة يحاول فيها أن يتذكر وجهه، فقد دعاه في صوت حاسم وسريع للذهاب معه إلى رئيس الدير. وحين وصلا إلى حجرته لاحظ الراهب الشاب أنه لم ير هذا الرئيس العجوز أيضا من قبل. ساوره الشك فراح يقلب عينيه بين سقف الحجرة وجدرانها ولوحاتها التي يعرفها، كما يعرف منها أنه لا يمكن أن يكون قد دخل ديرا غريبا؛ إذ ليس في المنطقة كلها وعلى مسافة مئات الأميال دير سواه. وبينما هو يقلب رأسه في حيرة وقعت عينيه على صورته منعكسة تحت ضوء الشموع الخافتة على ألواح الزجاج الذي يغطي صورة العذراء على الجدار المواجه له. واقترب منها قليلا ليتحقق مما أنكرته عيناه؛ كان الوجه الذي يطالعه من المرآة العكرة وجه شيخ عجوز ابيض شعر رأسه، وطالت لحيته حتى كادت تلمس صدره، حتى إنه لم يستطع أن يصدق كيف أنه لم يحس بها. وأحس بألم في ظهره، فمد ذراعه ليتحسسه، وعادت يده لتخبره أن ظهره قد تقوس كما يتقوس ظهر شيخ محطم. ترنح الراهب ولم تقو ساقاه على حمله، وأسرع الراهبان إليه فأسنداه على مقعد مريح، وساعدهما على حمله أخوة آخرون أخذوا يفدون من قاعات الدير واحدا بعد الآخر، والراهب يدير عينيه بينهم فلا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد. وعندما سألوه عن اسمه فنطقت به الشفتان المرتعشتان، أرسلوا في طلب سجل الدير القديم وأخذوا يقلبون أوراقه. ولما وصلوا إلى آخر ورقة فيه دون أن يعثروا على اسمه أو اسم عائلته أرسل رئيس الدير يطلب سجلا بعد سجل قيدت فيها أسماء الرهبان على مدى ثلاثمائة عام. وعندما وجدوا اسمه بعد البحث المضني الذي اشترك فيه جميع الرهبان رأوا أمامه هذه الكلمات: «داخله الشك في شبابه فغادر الدير سرا ولم يعد إلى اليوم».

عندما سمع الراهب العجوز ذلك أحس بظل ثقيل يزحف على عينيه، ظل كلمات قرأها من قبل ولم يستطع أن يفهمها: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل». عندها سقط الراهب العجوز، كما يقولون، مثلما تسقط الريح على شمعة واهنة.

1

1965

بكاء

أوه! معذرة. طرقت على الباب طرقتين، فلم يرد أحد، قلت لا شك أنه خرج مبكرا، ليتسلق الجبل أو يمشي في الغابة أو يتزحلق على الثلج، ولكن ها أنت ما تزال في الفراش، هل نسيت أن اليوم هو الأحد؟ أم يا ترى لم يحضر قاموسك ذو ذيل الحصان؟ تقول إنك لا تفهم؟ آه! هذا شيء محزن. لا بد أنك ستفهم يوما، لغتنا الصعبة، أليس كذلك؟ كثيرا ما سألت نفسي كيف يستطيع أمثالكم أن يتكلموها؟ أرجوك أن تفهمني؛ لست أشعر بالطبع بأي تعصب ضدكم، نحن جميعا بشر، وأنتم كذلك أيضا. هل تسمح لي بأن أقدم لك مجاملة؟ إن نطقك رائع، صحيح مائة في المائة، لولا شعرك الأكرت وبشرتك السمراء وعيناك السوداوان لقلت إنك واحد منا. معجزة، هذه معجزة، هل تسمح بالنهوض لحظة واحدة؟ لا لحظة واحدة فحسب، بمجرد أن أرتب السرير يمكن أن تعود للنوم. ماذا تقرأ؟ قصيدة لجوته؟ عظيم! عظيم! سمعت بالطبع أنه أعظم شعرائنا، كل إنسان هنا يذكر اسمه، يحتفظ بمؤلفاته في مكتبته، لكن صدقني: ما أقل الذين يقرءونه! وما أقل من يفهمونه! هؤلاء المنافقون! لو أنهم عرفوه حقا ما حدث ما حدث. ما علينا، لا تؤاخذني، هل أثرثر كثيرا؟ لا؟ هل أنت متأكد؟ ولكن لونك متغير قليلا. تقول إنها الإنفلونزا؟ هل أحضر لك قرص أسبرين؟ تقول أخذت خمسة؟ لا، اسمح لي، هذا كثير، كثير جدا. لو كنت مثلي تمارس اليوجا لما بلعت قرصا واحدا في حياتك. نعم اليوجا. هل تضحك؟ لك حق. وماذا تفعل إذن لو رأيتني كل يوم واقفا على رأسي وساقاي في السماء أمام البيانو؟ لا تصدق؟ ولكنني لا أستطيع أن أجرب هذا أمامك، ثم إن ساقي ليستا مما يحسن رؤيته. أشكرك. بعد هذه السن. الغرض. يمكنك أن تعود إلى الفراش، ولكن دعك الآن من جوته. شعر؟ مع هذا البرد؟ يظهر أنك عاطفي جدا. لو كنت مكانك لقرأت شيئا آخر. مثل ماذا؟ عندك الرحلات، شاب في سنك لا بد أن يسافر ويرى الدنيا، مرة في الجنوب ومرة في الشمال، أم هل تظن أنك ستعرف الدنيا وأنت جالس في حجرتك؟ أرجوك، لا تظن أنني أطردك. يمكنك أن تفعل ما تشاء. ثم إن الناس طباعها مختلفة، ولكل بلد عاداته. أنا أيضا كان ينبغي أن أكون اليوم في الجبل أو أتزحلق على البحيرة. تقول كيف؟ ألم ترها في الشتاء؟! لا لا، أنت مقصر جدا. صحيح أنك هنا من شهر واحد، ولكن لو كنت مكانك لتفرجت على كل شيء. يظهر أنك تحب البيت؛ ستكون زوجا ناجحا. نعم نعم، أنا لا أضحك أبدا، ستكون زوجا ناجحا. على فكرة، لم أسألك عن جو الحجرة. هل يعجبك؟ صحيح؟ منذ أن حضرت في أول الشهر وأنا لا أجد فرصة للكلام معك، ربما تجدني لهذا السبب أثرثر كثيرا. أرجوك أن تعذرني، لست دائما هكذا. أنت تضحك؟ يظهر أنك لا تصدق أبدا. وبخاصة السيدات. ها ها! لا بد أنك لاحظت أنني مشغولة جدا؛ من السابعة صباحا حتى التاسعة في المساء، أرجو ألا يكون صوت البيانو قد أزعجك، ماذا أفعل؟ أكل العيش كما يقولون، حذار أن تظن أن العزف السيء مني! إنهم الأطفال الصغار. نعم، من الخامسة إلى الخامسة والعشرين. مدرسة حقيقية، أنا فيها المعلمة والناظرة والمفتشة والتلميذة والفراشة أيضا. تقول إن العزف يعجبك كثيرا؟ هذا شيء يسعدني. يظهر أنك تحب البيانو. ألم أقل لك إنك عاطفي أكثر من اللازم؟ وماذا لاحظت أيضا؟ إنني أصحو بميعاد وأعمل بميعاد وأنام بميعاد؟ وماذا كنت تنتظر غير هذا؟ ألم تسمع عن الفيلسوف كانت؟ يقولون إن الناس كانوا يضبطون ساعاتهم عليه. دائما في الساعة الرابعة يخرج من بيته ليتمشى في الغابة. رجل عظيم بالطبع، وإن كنت لم أفهم منه حرفا. أقول لك الحقيقة بل لم أحاول. نظام مزعج، ولكنه مفيد في بعض الأحيان، على الأقل ينسي الإنسان عذابه. تستطيع أيضا أن تقول إنه نوع من التعذيب ينسى به الإنسان عذابا أكبر. معذرة، أنا لا أتفلسف ولا عمري ذقت طعم الفلسفة، إنما العرق دساس كما يقولون. على فكرة، نسيت أن أقول لك: جاء لك خطاب أمس. نعم أنا التي تسلمته من الموزع. هل تصرفت في طابع البريد؟ أرجوك أن تحافظ عليه دائما. تقول في درج المكتب؟ شيء بديع. أبو الهول نفسه. لا بد أنه شيء ساحر، الصحراء والصمت واللانهاية، خصوصا في ضوء القمر. هل كنت تذهب إلى هناك أيضا؟ ليس وحدك بالطبع. لا! يا للخسارة! تقول ربما قدر لي أن أزوره أنا أيضا؟ آه! فات الأوان، أنت لا تعرف أنني تجاوزت الستين. لا يبدو علي؟ الحمد لله على كل حال، أنا لا أطمع في أكثر من هذا. على فكرة، هل رأيت جارتك في الحجرة المقابلة. لا، اطمئن، إنها ليست هنا. أردت فقط أن أحذرك منها. نعم، تلك التي تسمي نفسها مدام شميت. ستعرفها من الإنجيل الذي تحمله دائما في يدها. تقول إنها تقية؟ يظهر أنك حسن النية. وماذا يفعل القسيس الشاب الذي يحضر إليها كل أحد؟ ألم تره اليوم؟ أقول لك كل أحد؟ وربما كل يوم. من يدري؟ ثم إنني مشغولة بدروسي وتلاميذي. أنا شخصيا لا أطيق رجال الدين. لا تتصور أنني أنكر وجود الله. بالعكس، إنني أتذكره على الأقل مرة كل أول شهر، عندما يخصمون مني ضرائب الكنيسة. لكن استغلال الدين لأشياء أخرى! أنت تفهم قصدي بالطبع. ثم ماذا يفعلان طول الليل؟ يلعبان الورق أو يقرآن الإنجيل؟ أنا لا أمانع في الزيارة كما قلت لك. يمكنك أنت أيضا أن تأتي بصديقتك. بالطبع لغاية الساعة العاشرة فقط. تقول ليس لك صاحبة؟ هذا شيء محزن؛ لا يمكنك بالطبع أن تعيش وحدك طول العمر، لا يمكنك أبدا. ألا يقول الإنجيل ليس حسنا أن يكون آدم وحده؟ لا بد أن هذا أيضا موجود في إنجيلكم. تقول ليس عندكم إنجيل؟ تسمونه القرآن؟ لا بد أن شيئا كهذا موجود فيه. وليس حسنا أن تكون حواء وحدها. ليس حسنا بالمرة. أقول لك هذا بمنتهى الإخلاص، ربما لأنك تخطئ في بعض الأحيان وتناديني بالمدام. لست مداما، أنا ما زلت آنسة. نعم في الستين وما زلت آنسة. أف! ها أنا أعود مرة أخرى إلى حكايتي القديمة. إن كان هذا لا يضايقك فسوف أرويها لك. تقول لا تضايقك؟ بالرغم من البرد والصداع ورغبتك في قراءة جوته؟

إذن فذنبك على جنبك. هل أستطيع أن أجلس هنا لحظة؟ الحجرة أصبحت نظيفة على كل حال. هل قلت لك ليس حسنا أن يكون آدم وحده؟ نعم نعم. وليس حسنا أن تكون حواء وحدها. أنا بالطبع لم أكن وحدي دائما. كان لي، مثل كل الناس، أهل وأصدقاء وحبيب أيضا إن شئت. هل قلت كان لي حبيب؟ أنا أبالغ بالطبع بعض الشيء. الحقيقة أنه هو الذي كان يحبني. حب من طرف واحد كما يقولون. بالطبع أنا أيضا لم أكن أكرهه. بالعكس كنت أشعر بالرضا عندما أراه. لكنه العناد أو الطموح أو الأنانية - سمها كما تشاء - هو الذي كان يمنعني من أن أحبه. ذلك الحب الحقيقي، الصريح، المتفاني. آه يا ربي! لماذا تذكرني بهذا كله؟ كان في مثل سنك تقريبا. هل أخطئ كثيرا إذا قلت حوالي الخامسة والعشرين. صامت ومتعب ومصفر الوجه دائما. تعارفنا في المعهد. معهد الموسيقى بالطبع. كنا معا في قسم البيانو. لم نكن وحدنا بطبيعة الحال. كان هناك طلبة آخرون. لا يقلون عن عشرين. وربما أكثر أو أقل. آه يا ربي! ما الذي يجعل الشبان ينسون شبابهم؟ ما الذي يغمض عيونهم عن متعه الحلوة، عن لحظاته السعيدة الفانية؟ ما الذي يجعلهم يديرون له ظهورهم ويتذكرون كل شيء إلا شبابهم؟ هل يعرفون وهم يفعلون هذا أنهم سيشيخون في يوم من الأيام؟ إن شعرهم سيبيض، وظهورهم ستنحني، وعيونهم سيتخلى عنها النور، وقلوبهم ستصبح كساعات الحائط القديمة التي لا تفعل شيئا سوى أن تردد رنين الزمن الأجوف؟ لا داعي للندم. أقول إنني تجاهلته وأعترف لك. بالطبع كنت أقابله، وأتناقش معه، بل وأحتد في النقاش إلى الحد الذي أتمنى معه أن أصفعه أو أبصق في وجهه أو أشد شعره. وماذا أفعل إذا كان يصر دائما على تمجيد بتهوفن فوق كل شيء؟ هل تصدق أنه كان يرفع هذا المجنون المشوه فوق باخ نفسه؟! وأنا التي كنت لا أقدس أحدا مثل باخ. صدقني يا سيدي. إنه في الموسيقى هو الألف والياء، المنبع والمصب، الأول والآخر. تستطيع أن تتأكد من هذا إذا ألقيت نظرة على حجرة البيانو. هناك سترى لوحة تقول كل هذا الكلام، موضوعة تحت صورته التي يطالعك منها وجهه الهادئ المكتنز، وعيناه الثابتتان، وجبهته الشامخة، كأنه هو بوذا الموسيقى في كل زمان ومكان، لكن هانز لم يكن يريد أن يفهم هذا. وعندما كنا نتقابل لم نكن نفعل شيئا سوى أن نتناقش أو نعزف على البيانو أو نتكلم عن مستقبل الموسيقى والإنسانية.

لماذا لا يسعد الإنسان بإنسان قريب منه؟ ما الذي يشل يده فلا تمتد إلى الثمرة التي تدعوه لأن يقطفها؟ أي شيء في الوجود يجعل الأقوياء أقوياء والضعاف ضعافا؟ أليس هؤلاء يتركون الفرصة تفلت من أيديهم بينما يتشبث بها أولئك؟ تقول القدر؟ وهل القدر إلا أن تفعل الشيء المناسب في الوقت المناسب؟ أن تلتقط اللحظة المواتية من نهر الزمن فتمسك بها وتعانقها وتقبلها قبل أن تذوب في الماء؟

كان الإغريق يسمون الفرصة «توخي». بالطبع ليس الإغريق مجهولين لك؟ هل تقول إن العرب أيضا نقلوا تراثهم إلينا؟ ألست أكاديميا وأدرى مني. كانوا، كما نعلم، يصورون كل شيء بالأساطير. كل فكرة عندهم يقابلها مخلوق حي مجسم. هل تعلم كيف كانوا يصورون التوخي؟! فتاة حسناء تنسكب خصلات شعرها على جبينها. نعم على جبينها. حتى يستطيع الإنسان أن يتشبث بها، أن يقبض على شعرها قبل أن تفلت منه. والويل لمن تفلت منه الفرصة! والويل لي أيضا فقد فاتتني. أدارت ظهرها لي قبل أن أمد يدي لأمسكها من خصلات شعرها. كنت أحسب أنها ستعود. لكنها لا تعود أبدا. لا تعود. تقول كيف؟ جاءت الحرب كما تعلم وطلبوا هانز. هل قلت لك إن اسمه كان هانز؟ حسن. أستطيع إذن أن أكمل كلامي. إلى هنا والفرصة لم تفت. كان يمكن أن أمد يدي فأمسك بخصلاتها الحريرية المغرية. ولو للحظات. لو كنت فعلت ما كان يهمني بعد ذلك ما يحدث. قال لي آخر مرة في المعهد: غدا أسافر يا كلارا. قلت: إلى أين يا هانز؟ قال وهو يمد يده يفتش عن يدي: ليس للنزهة بالطبع. فهمت ما يعني، فأطرقت وكتمت شلال الألم الذي يوشك أن ينفجر من عيني بعد أن طال إنكاري له. قال بعد لحظة صمت: هل أنتظر أن تكوني في وداعي؟ قلت في صوت تعمدت أن يكون جافا لكيلا يشي باضطرابي: ربما. آه يا سيدي! لماذا نحاول أن نخفي ضعفنا أمام أحبابنا؟ أليس لهم حق أيضا في دموعنا؟ ذهبت للمحطة. كانت تغلي بأفواج المسافرين. ما من شاب إلا ومعه زوجته أو عروسه أو صديقته. وأنا أقف مع هانز، وجها لوجه، الصمت يكبلنا، الخجل يشلنا. لا كلمة ولا لمسة ولا دمعة، ليس هناك شيء أشد خجلا من أن يخجل الإنسان من إظهار عاطفته. اللغط يشتد. الصراخ والبكاء من حولنا يحرك الصخر. القطار يصفر. حراس القطار يدفعون الشبان دفعا إلى القطار. وأنا هناك صخرة محرومة من نعمة الصخور. وفي لحظة شعرت بشفتي هانز على شفتي. لم تكن ذراعه تجد الوقت لتطوقني. لم تكن إلا لثمة واحدة. سريعة وملهوفة وتكاد أن تموت من الخجل. هل تدري ماذا فعلت؟ لم أفعل شيئا على الإطلاق. وحين تحرك القطار وراح يشير إلي بيديه رفعت ذراعي وأخذت أشير. بلا حماسة ولمجرد التقليد في أول الأمر ، ثم في حماسة أخذت تزداد حتى وجدتني أجري وأجري وراء القطار. لكن الوقت فات. و«توخي» أعطتني ظهرها، وخصلاتها السوداء الناعمة أفلتت إلى الأبد. لا أعلم ماذا حدث لي بعد ذلك. فلم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقاة على أرض الرصيف، وحارسان من حراس المحطة فوق رأسي يرشان الماء على وجهي ويقومان بالتنفس الصناعي لي. وحين فتحت عيني وجدتهما يتحسسان رأسي بحنان ويقول أحدهما: هل تقتلين نفسك إذن؟ أمن يؤدي واجبه نحو الوطن يستحق منك كل هذا البكاء؟ ونظرت حولي فوجدت المحطة خالية والريح الباردة تبكي في أرجائها. شكرت الحارسين وقمت أتعثر في خجلي. كنت أحس بأن هذه هي آخر مرة أرى فيها هانز. لو أنني لمست يده فحسب؟ لو أنني بادلته قبلة؟! لكن لا بأس. إن الإنسان يدفع ثمن لحظة ضعيفة بعشرين سنة، وربما تقول ألم تكن أمامك فرص أخرى؟ هل انقرض الشباب من على وجه الأرض؟ بالطبع تأتي الفرص كثيرة. والشباب أيضا موجودون في كل مكان. لكن ماذا تفعل فيمن خاب أمله في نفسه؟ من الذي يهمه أن يعيد إليك ثقتك بنفسك حين تفقدها مرة؟ تخرجت من المعهد واشتغلت بالتدريس، وحين اشتدت الحرب في سنواتها الأخيرة وأخذوا منا تلاميذ المدارس لم يبق أمامي إلا أن أعزف للعجائز والمشلولين في البيوت أو للجنود في المعسكرات، وحين دخل الحلفاء بلادنا كانت مهمتي أن أعزف للعساكر في البارات والقشلاقات، هل تتصور أن تساعد موسيقى باخ على السكر أو الفجور؟ ثم إنني كنت أنفع بشيء آخر، فاللغات التي يتعلمها الإنسان لا بد أن يحتاجها ذات يوم، نعم كنت أشتغل مترجمة لخطابات الحب - إن جازت هذه الكلمة - التي يرسلها الجنود إلى بناتنا، وبالطبع كنت أكسب، على الأقل لم أمت من الجوع. لماذا لم يلتفتوا إلي؟ وهل يطمع فيك أحد إذا كنت تضع نفسك في صفيحة القمامة؟! وأين الفرصة التي تقدم نفسها إليك بعد الآن؟ لا أنكر بالطبع أن الكثيرين ناموا معي ولا إنني نمت مع الكثيرين. لكن «توخي» ذات الشعر الناعم المنسدل على الجبين الناصع الشفاف، من أين تأتي إن أدارت ظهرها مرة واحدة؟! كيف تعود إن ذهبت إلى الأبد؟! لا. لم تعد قط بعد ذلك. ماذا؟ هل تقول إنني بكيت كثيرا؟ حقا؟! شيء غريب. أنا نفسي لم أحس بهذا، معك حق، لا بد أن أجفف عيني، أشكرك. يا إلهي! وأنت أيضا تبكي، هذه دمعة تجري على خدك، احتفظ إذن بالمنديل لنفسك. أأنت أيضا فاتتك «توخي»؟ لم تمد يدك في الوقت المناسب لتتشبث بشعرها؟ لا تقل هذا. وماذا أقول أنا إذن؟ من يدري؟ ربما كان في العمر بقية لزيارة أبي الهول. ستكون معي بالطبع. أعدك أنني لن أتكلم كما تكلمت اليوم. أبدا أبدا. هل تسمح لي بطابع البريد؟ صحيح أنك تستغني عنه؟ يا له من وجه عجيب. تصور أنه يبتسم، هذا الصامت الأبدي يبتسم، لا بد أنه يضحك علينا، وعليك أنت بالطبع أكثر، لن أتركك حتى تبتسم مثله، مهما حاولت. نعم، من فضلك، هكذا.

1965

نامعلوم صفحہ