جاءتني بعد مقال الأسبوع الماضي رسائل مختلفة سيطلع القارئ عليها وعلى تعقيباتها، ثم يرى فيها مصداقا جديدا لاعتقاد المعتقدين أن تمحيص التاريخ في أصغر المسائل من أصعب الصعاب، ودع عنك مسائله الكبار.
الأدباء والسياسة السرية
إحدى تلك الرسائل رسالة ذات شعبتين من طالب جامعي، يستغرب في أولاهما ما ذكرناه عن علاقة أدباء الجيل الماضي بالسياسة السرية، وعن مبلغ شأنها في تقدير أعمال الجيل كله، ويسألنا: لم لم يكتب عنها شيء حتى الآن ما دامت بتلك الأهمية؟ ولم لا نكتب نحن ما نعلمه عنها؟
والذي يستغربه الطالب الجامعي كان هو المألوف والشائع بين الأدباء النابهين في ذلك الجيل، فلم يكن فيه أديب واحد لا يتصل بقصر عابدين أو قصر الدوبارة في القاهرة، أو بقصر يلدز والمابين في الآستانة، ولم يشذ عن هذه القاعدة من طبقته وجيله غير حافظ إبراهيم؛ لأنه لم يكن من ذوي الجلد على الأسرار والمناورات.
على أن حافظا نفسه قد أدخلته تلك المناورات في حبائلها على غير مشيئة منه، فسعى بعضهم في تزويده بقلب شاعر الخلافة من قبل السلطان عبد الحميد الثاني، وقامت القيامة هنا حتى احتال من يعنيهم الأمر على حرمانه من اللقب المنتظر، ودسوا عليه من يغريه بهجاء السيد «أبي الهدى الصيادي» نديم عبد الحميد، فانقطع الرجاء في تلقيبه بذلك اللقب الفخم الذي يتضاءل عنده لقب شاعر الأمير.
ولا يستصغرن الطالب الجامعي خطر تلك المناورات التي طالما اشترك فيها أصحاب الأقلام من الأدباء والصحفيين، فالحق أن تاريخ الجيل كله يتوقف على الإلمام بها، ولسنا نعرف شهرة واحدة لا يتغير تقدير الناس لها إذا انكشف الستار عن تلك الأسرار، ومنها شهرة أناس يحسبون في الطليعة بين أبطال الوطنية، وتهبط بهم علاقاتهم تلك إلى ما دون أقدارهم المزعومة بكثير.
أما أن المؤرخين المعاصرين لم يكتبوا شيئا عنها مع أهميتها، فسببه واضح: وهو أنها أسرار يعنى أصحاب الدولة القائمة يومئذ بكتمانها.
وأما إننا نحن نكتب عنها، فذلك ما ننويه ولا نحجم عنه كلما عرضت لنا مناسبة من مناسباته.
والشعبة الثانية من سؤال الطالب الجامعي عن معنى قول السيد البكري للخديو عباس الثاني: إنني وزير مثلك؟
ونحن نحيل الطالب على تاريخ تلك الفترة، ويكفي في هذا السياق أن نذكر له أن خديو مصر كان معدودا من وزراء السلطان العثماني في الآستانة، وأنهم كانوا إلى عهد الخديو عباس يقعون في مشكلة من مشكلات المراسم كلما اتفق وجوده في الآستانة يوما من أيام الأعياد، فيحار رئيس الديوان المابيني في وضعه قبل الصدر الأعظم رئيس الوزراء أو بعده في مراتب التشريفات.
نامعلوم صفحہ