فصمت: الحق أني لا أفهمك، أنت شخص غريب.
فقال بهدوئه المثير: المسألة سوء تفاهم. - سوء تفاهم؟! - أعني سوء تقدير من ناحيتي.
فصرخت: يبدو لي أنك إنسان وضيع.
فدعاني إلى تمالك نفسي بإشارة من يده وقال: لا .. لا .. لا داعي لفتح هذا القاموس، أنا عشت دهرا لم أعرف الغضب. - إنها شهادة ضدك. - هدئي خاطرك، حصل خطأ، وبيدنا تصحيحه.
فقلت بتصميم: إني ذاهبة. - ولم العجلة؟ انتظري الصباح. - لن أبقى في هذا البيت لحظة أخرى.
فقال بتسليم: لك ما تشائين، ولا داعي للغضب.
محتشمي زايد
إنه لا يحب الظالمين . ما هذا القرار أيها الرجل؟! تعلن ثورة في 15 مايو ثم تصفيها في 5 سبتمبر؟ تزج في السجن بالمصريين جميعا من مسلمين وأقباط ورجال أحزاب ورجال فكر؟ لم يعد في ميدان الحرية إلا الانتهازيون، فلك الرحمة يا مصر،
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . وأذكر يوم حددت إقامة سعد زغلول في بيت الأمة، فزحف الانتهازيون بالولاء الزائف نحو القصر، لماذا تعيد تمثيل تلك المسرحية القديمة من ريبوتوار المآسي المصرية؟ وأذكر عهود الاستبداد بسوادها الكالح، أفكانت ثورة 1919 حلما أم أسطورة؟! «ليس الشديد بالصرعة .. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.» ترى ماذا تخبئ أيها الغد؟ أما عن أمسي فقد فقدت أقدم وآخر صديق. صداقة دامت خمسة وسبعين عاما، يوم تعارفنا على عتبة المدرسة الأولية، لولا الشيخوخة وسوء المواصلات .. آه. صممت على تشييع الجنازة. رحلة شاقة كرحلة الحاج، وتوكأت على علوان. في دار المناسبات استعرضت فيلم العمر الثري: المدرسة، الشارع .. المقهى .. الحانة .. لجان الطلبة .. ليالي الزفاف .. أعياد الميلاد. الوجه ها هو .. الابتسامة ها هي .. هل سمعت آخر نكتة؟ .. والشكوى من الدهر .. أنتفق في كل شيء ونختلف في الأهلي والزمالك؟! عليك بقدح ماء على الريق .. ولا تنس دواء الذاكرة، فاتني أن أسمع تعليقك على 5 سبتمبر، ولكنني أعرفه، وبدأت التلاوة:
كل نفس ذائقة الموت . سرعان ما جاء الموت بابتسامة المراوغة وجلس إلى جانبي. لا تتعجل فلم تبق إلا خطوة. موت صديقي القديم بروفا لموتي، أرى كل شيء؛ الغسل والدفن والمشيعين. وأقرأ النعي؛ محتشمي زايد من رجال التربية القدامى وشباب الحركة الوطنية. هل تذكره؟ ظننته مات من زمان، ويجيء النسيان متثائبا، ولكني أسلم بمنتهى الرضا. حقا إنه عمر طويل، ولكنه يبدو الساعة كلحظة عابرة . الحب والعنف والغضب والأمل، ألا ما أكثر الراحلين! لا فرق الآن بين أن تكون أنت في النعش وأنا ماش وراءك أو العكس. وحياني ابنه بحرارة وقال لي: في احتضاره حملني التحية إليك.
نامعلوم صفحہ