فقلت بحرارة: ليكن حديثنا عن الحياة لا الموت.
فقال بحدة: الموت أيضا حياة!
وترددت في نفسي الآية الكريمة:
من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها .
علوان فواز محتشمي
جريح القلب والكرامة، أهيم على وجهي ككلب بلا مأوى، حرارة الجو تبخر لذة المشي. مقهى ريش منقذ من ضجر الوحدة، أجلس وأطلب القهوة وأرهف السمع. هنا معبد تقدم به القرابين إلى البطل الراحل الذي أصبح رمزا للآمال الضائعة؛ آمال الفقراء والمعزولين. هنا أيضا تنقض شلالات السخط على بطل النصر والسلام. النصر يتكشف عن لعبة، والسلام عن تسليم. على مسمع من السياح الإسرائيليين، أسمع وأهنأ بشيء من العزاء. أنتم إذا شئت حزب وهمي لا شعار له إلا الرفض. إن أضجرك الكلام فمد البصر إلى الطريق، راقب حركة الذاهبين والجائين، حركة سريعة لا تتوقف ولا تنقطع، وجوه مكفهرة ماذا وراءها؟ الرجال والنساء والأطفال، حتى الحبالى لا يقرن في بيوتهن، كل يحمل مأساته أو مهزلته. حوانيت الأثاث والبوتيكات مكتظة، كم أمة تعيش جنبا إلى جنب في هذه الأمة؟ أضواء الميدان قوية مثيرة للأعصاب، ومثيرة للأعصاب أيضا قوارير المياه المعدنية على موائد السياح. ماذا نشرب نحن؟! وأغرب الأغاني تنطلق من التاكسيات في راديو المجاذيب، لا يبقى على حاله التي كان عليها إلا الشجر والعمائر. وتدوي خطبة من راديو في مكان ما فتنتشر الأكاذيب في الجو مع الغبار. تعب .. تعب .. فلنعد إلى الكلام. خرابة صغيرة بمائة ألف. الجرائم الأكاديمية في الجامعة. كم عدد أصحاب الملايين؟ الأقارب والأصهار والطفيليون. المهربون والقوادون والشيعة والسنة. حكايات ولا ألف ليلة. الجرسون عنده أيضا حكاية وعند ماسح الأحذية. متى تبدأ المجاعة؟ الرشوة عيني عينك وبأعلى صوت. الاستيلاء على الأراضي. شيخ العصابة له أوراد. والفتنة الطائفية من يوقظها؟ مجلس الشعب كان مكانا للرقص فأصبح مكانا للغناء. الاستيراد بدون تحويل عملة. أنواع الجبن. البنوك الجديدة. بكم البيضة اليوم؟ والنقوط في ملاهي الهرم. وفسخ الخطبة! ماذا قال إمام الجامع على مسمع من جنود الأمن المركزي؟ لا مرحاض عام في الحي كله. لم لا نؤجرها مفروشة؟ ما هو إلا ممثل فاشل. وضرب المفاعل العراقي؟ صديقي بيجين .. صديقي كيسنجر. الزي زي هتلر، والفعل شارلي شابلن. ويسود صمت شامل ريثما تذهب امرأة قادمة من الطريق إلى بيت دعارة وراء المقهى وتعقد مقارنة بين تضخم عجيزتها والتضخم المالي العام. متفائل يؤكد أنها تشتغل لتجمع رسوم رسالة الدكتوراه، وأن قلبها أنقى من الذهب. وشاب شاذ يقترح الشذوذ كحل لأزمة الحب في الطبقة ذات الدخل الثابت، وأيضا لتحقيق الهدف من تنظيم الأسرة. لا خلاص إلا بالخلاص من كامب ديفيد. العودة إلى العرب والحرب؛ حرب أبدية والويل لعملاء التطبيع. كفى .. كفى .. في الوقت متسع لقليل من التسكع. الفرار منك جهد ضائع يا رندة. مرض الحب بطيء الشفاء، وأخاف أن يكون من الأمراض المزمنة. لا يعزيني عن إساءتي إليها إلا أنني أسأت ضعفين إلى نفسي. وعندما رأيت والدي على مائدة العشاء حسدتهما. أراحا نفسهما من هموم كثيرة بالعمل، التهمهما العمل، وهذا شيء حسن، ليس كما كنت أتصور. بكل حزم يقولان: أعفنا من الحديث عن نفسك أو عن البلد. حسبنا أننا نشقى من أجلكم. حل مشاكلك بنفسك والبلد له رب. اذكر أبي المخضرم في حماسه.
هتف للثورة، ولبس الحداد في هزيمتها، وقضي عليه في الانفتاح. سمعته يقول: تمر الأيام فلا أجد وقتا لحلق شعري أو تقليم أظافري.
وسمعته يقول لجدي: أنحشر في الباص وآخذ هناء في حضني لأبعد عنها أحضان الجياع.
ومرة قال لي: يوم الجمعة، يوم العطلة، تتراكم الواجبات؛ وقت للحمام، وقت للعزاء، وقت للاعتذار، ساعة واحدة للاسترخاء، وفيها تهجم علي همومك وهموم البلد.
في تخبطي ألقى أستاذتي في نادي الخريجين. يا أستاذتي لقد فسخت الخطبة. غير موافقة طبعا، وتطالبني بإعداد لقاء بينها وبيننا مجتمعين. الوداع يا أستاذتي، مضى وقت الكلام. أعدك بأن أكون عدوا للكلام بقية العمر. وخيل إلي أن المحروقي حل مشاكله بالمروق من العصر. إنه يعتقد أنه هزم العصر وطوعه لأغراضه. ماذا صنع بنفسه؟ تعلم حرفة السباكة، دفن شهادته في أول وعاء قمامة. سألته: والدكان؟ أجاب دون أن يبتسم؛ فنادرا ما يبتسم: أسير حاملا حقيبة حاوية للأدوات وأنادي: سباك .. سباك؛ فتنهال علي الطلبات، سأصير قريبا أغنى من سيدنا الزبير. وعندما هممت بالانصراف قال لي ساخرا: «أدعوك للدخول في دين جديد اسمه الإسلام.» ولما خلا أنور علام إلي قال: آسف، ولكنك فعلت الصواب، وسوف تضحك لك الدنيا.
نامعلوم صفحہ