أشار إلى تمثال «مهافيرا» وقال: هو مؤسس الديانة الجينية في القرن الثاني والعشرين، قبل الإنسان الجديد أي 599-527ق.م. اتخذه أتباعه إلها لهم فيما بعد، ولم يشركوا معه إلها آخر. رأى الكثيرون أنها إصلاح لما أفسده الكهنة الهندوس، التي ترى أن الناس غير سواسية، واتخذت من الدين ما يمكنها من السيادة على الآخرين. بعد وفاته انقسمت الجينية إلى مذهبين، المتشددون «ديجاميرا» والمعتدلون «سويتاميرا». كما انشقت الكونفوشية إلى مذهبين. كذلك قامت الديانة المسيحية بثورة ضد الديانة اليهودية، وانشقت هي الأخرى إلى مذهبين بروتستانتية وكاثوليكية. كما جاءت الديانة المحمدية التي هي آخر الديانات الإبراهيمية، وثارت على كل الديانات السابقة، وأتت بإصلاحات جديدة، وانشقت هي الأخرى إلى سنة وشيعة.
انتقل الدليل إلى مسرح آخر من المتحف، أشار إلى تمثال بوذا، وذهب يتحدث عنه قائلا: هو الأمير سادهارتا جواتاما، الملقب ببوذا (المتنور) لم يعبد المؤمنون به سواه. كانت ثورته على طقوس الكهنة البراهيمية المتشددة وتعدد الآلهة. ليس لهم كتب مقدسة، بل تعاليم بوذا الأخلاقية، وهو كتاب «فينايا بيتاكا»، وكتاب «أبهيدارما بيتاكا». تتضمن نقاشات في الفلسفة، وغيرها من الموضوعات التي تمس العقيدة. يقولون إن «الفيدا» الكتاب المقدس للبراهمة بشر بظهور حكيم، يجدد ما طمسه الزمن من الدين البراهمي، دعا إلى قهر الشهوات والمساوة بين الناس، والانصهار مع العالم إلى حيث لا وجود للأنا. وهذا ما توصل إليه هذا العالم، عصر الإنسان الجديد.
تلاشى ذلك المشهد، وظهر الدليل يتحدث عن الزرادشتية: أسسها زرادشت. كانت الزرادشتية تعرف بالمجوسية، كتابهم المقدس «الأفيستا». تعد واحدة من أقدم الديانات التوحيدية في العالم، ظهرت في بلاد كانت تسمى فارس في «26ق.ج.» أي القرن السابع قبل ميلاد المسيح. دعا زرادشت إلى عبادة إله واحد هو «اهورا مزدا» يأمر الناس بالفكر الصادق، والقول الصادق والعمل الصالح، والنار والماء لطقوس الطهارة الروحية، وأن الجسد يفنى وتبقى الروح في منطقة وسطى بين الجحيم والجنة حتى اليوم الآخر، فالرجل الصالح يخلد في الجنة إلى جانبه، والفاسق سيخلد في الجحيم إلى جانب الشياطين. وهناك ديانات توحيدية في إقليم إفريقيا، فالإنسان منذ فجر التاريخ يبحث عن خالقه الأوحد؛ فقد كان الزنوج البدائيون موحدين، يعبدون إلها واحدا. في قبيلة «الماو ماو» يؤمنون بإله يسمونه «موجابي» لا يرى ولا يعرف إلا من آثاره وأفعاله. وفي قبيلة «نيام نيام» كانوا يؤمنون بإله واحد يسمونه «مبولي»، وفي قبيلة «الشيلوك» يؤمنون بإله واحد يسمونه «جوك»، يصفونه بأنه خفي وظاهر، وفي قبيلة «الدنكا» يؤمنون بإله واحد يسمونه «نيالاك»، وكل قبيلة تزعم أن إلهها هو الأقوى من الآخر. هكذا البشر لا يستطيعون العيش بدون إله. ويذهبون للبحث عنه في الكون، منهم من يخترعونه وينحتونه كما يرونه في قلوبهم. وفي هذا العصر عرفت البشرية أن الرب يقطن في قلب المخلوق بجوار الشيطان الذي فطسناه، وبقي الإله وحيدا في القلب.
كان مروان في عالمه الفردوسي، يسمع ما لم يسمعه في حياته، يشعر بأن الشيطان لم يعد له وجود في ذلك العالم، في الوقت نفسه كانت أمه غصون تنوح في عالم يسود فيه الشيطان، لم تتوقف عن البكاء على ما جرى لابنها الوحيد من زوجها ناجي مدهش الراعي في القرية. انفصلت عنه بعد أن ولدت مروان بأربع سنين، تخلى عنها الراعي رغم حسنها؛ فهو لم يعد يطيقها هي وابنها مروان كلما نظر إليه؛ لشبهه برجل يدعى عبد الفتاح. نام ليلة في بيت الراعي. تكاد الحيرة والغيرة يقتلانه، لا سيما أن زوجته الأولى لم تحبل منه بعد ست سنوات من زواجهما؟! أمر جعله يحدث نفسه كلما نظر إلى مروان، ففضل أن ينفصل عنها.
ظلت غصون بجوار ابنها، لم يفارقها الحزن وهي تراه كجثة هامدة، ولولا تلك الأجهزة التي حول صدره وتزويده بالأكسجين لفارق الحياة. ظلت تبكي وهي تتذكر طفولته الشقية، عاش دون أب يرعاه، فكانت له الأب والأم. تذكرته وهو صغير يرعى الأغنام معها، وكيف نشأته منشأ حسنا. علمته حفظ القرآن وتجويده عند فقيه القرية «سعيد علي». أصبح مؤذن المسجد وهو في الثانية عشرة من العمر.
كانت غصون ترى تلك البسمة المرسومة على شفتي مروان، هي الأمل الوحيد الذي تراه لشفائه. لم تعد تخاف صوت الانفجارات. لم يعد شجار علي ومعاوية يغضب غصون في البيت الذي نزحوا إليه، كما نزح جميع سكان حي العطان. بقى الحي خاويا على عروشه، حتى المركبات لم تعد تمر في شوارع الحي الذي تحول إلى مدينة أشباح. كانت غصون تجلس ليلا على سجادتها متجهة نحو القبلة، تدعو الله أن يشفي ابنها مروان!
اتصل منير بفاطمة، وقالت له إنها في المستشفى مع أمها، فذهب إلى هناك. انعزلا بنفسيهما في شرفة الغرفة وبقيا ينظران إلى المدينة. كان هناك دخان يتصاعد إثر القصف في منطقة النهدين. قال منير: «أترين ذلك الحريق والدخان؟ إنه يحرق أحلامنا، كنت أنتظر متى ستتوقف الحرب لنتزوج، والآن أنتظر متى سيشفى أبوك. اشتريت الغسالة ماركة ممتازة والفرن، عصارة الفواكه .. ولم أنس لعبا لأطفالك، متى يا فاطمة سنعيش تحت سقف واحد؟!» اقترب منها حتى لامس كتفيها، وهما يسندان مرافقهما على شرفة النافذة. كان ينظر إلى الخلف أحيانا؛ خوفا أن تشاهد أمها تلامس كتفيهما. يود أن يخطف قبلة، لكن الفرصة أتته لضمها إلى صدره بقوة، حين سقطت قذيفة على معسكر التموين العسكري القريب من المستشفى.
5
بينما كانت غصون تصلي لله لشفاء مروان، كان هو تلك الليلة في عالمه الفردوسي، يحس أن حملا ثقيلا انزاح من صدره، كأن هناك أجنحة خفية ترفعه عن الأرض. في منتصف تلك الليلة مرت ممرضتان جميلتان، تحمل إحداهما جهازا صغيرا بحجم قبضة اليد، خلعت ملابسه وراحت تدلك ذكورته بالجهاز حتى نعظ. حدث مروان نفسه: «ماذا تفعل هذه الجميلة ، إنه منتصف الليل! لماذا تصحي ديكي، هل هذا اختبار جديد؟!» ثم مضت الممرضتان بعيدا، ومروان في حيرة من أمره!
حضرت البروفسور صباحا. سألته بماذا كان يفكر حين أخذت الممرضتان قياس عضوه، فقال لها الحقيقة تماما، كما حدث نفسه مسبقا .. ابتهجت البروفسور بما حققه التلقيح، وقالت له: «صدقت فيما قلته ولم تخف شيئا. كان الإنسان فيما مضى لا يظهر الحقيقة كاملة للغير؛ فقد كانت الأنا تمنعه عن قول الحقيقة، كذلك تجعله لا يحب للآخر كما يحب نفسه، يقول: «أنا - أنا»، وليس «أنا - أنت»، وهي التي تدفعنا إلى الكذب والخداع والكره والإجرام، وكلما كانت الأنا أقوى ضعف الحب عند البشر، والعكس صحيح. وقد نجح عالمنا بكبح الأنا والسيطرة عليها. ألا ترى يا مروان؟ إن الغضب والكره متواجدان داخل الإنسان، ولا يأتيان من الخارج.»
نامعلوم صفحہ