وكان يجلس ناصر الدولة على سرير، ويجلس سيف الدولة دونه. ولما دخل دار سيف الدولة وجلس على السرير جاءه سيف الدولة لينزع خفه من رجليه، فمدهما إليه، فنزعهما بيده، وصعب على سيف الدولة لأنه قدر أنه إذا خفض له نفسه إلى ذلك رفعه عنه، فلم يفعل ذلك إظهارًا لمن حضر أنه وإن ارتفعت حاله، فهو كالولد والتبع وكان يعامله بأشياء نحو ذلك قبيحة كثيرة فيتحملها على دخن، وتحمل عنه سيف الدولة لمعز الدولة مائتي ألفًا من الدراهم حتى انصرف عنه.
وفي هذه السنة مات قسطنطين بن لاوي ملك الروم، وصبر نقفور بن الفقاس دمستقًا على حرب المغرب، وأخاه ليون بن الفقاس دمستقًا على حرب المشرق، فتجهز ليون إلى نواحي طرسوس، وسبى، وقتل، وفتح الهارونيّة وسار إلى ديار بكر.
وتوجه إليه سيف الدولة فرحل الدمستق راجعًا، إلى الشام، وقتل من أهله عددًا متوافرًا، وأخرب حصونًا كثيرة من حصون المسلمين، وأسر محمد ابن ناصر الدولة.
ومنها: غزاة مغارة الكحل: غزا سيف الدولة في سنة ٣٤٨. وقيل: ٣٤٩ بلاد الروم، فقتل، وسبى، وعاد غانمًا يريد درب مغارة الكحل، فوجد ليون بن الفقاس الدّمستق قد سقه إليه، فتحاربوا، فغلب سيف الدولة. وارتجع الروم ما كان أخذه المسلمون، وأخذوا خزانة سيف الدولة وكراعه وقتل فيها خلق كثير.
وأسر أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وترك بخرشنة، وأسر علي بن منقذ ابن نصر الكناني فلم يؤخذ له خبر. وأسر مطر بن البلدي، وقاضي حلب أبو حصين الرقي، وقتلا. وقيل أن أبا حصين قتل في المعركة فداسه سيف الدولة بحصانه وقال: لا رضي الله عنك، كنت تفتح لي أبواب الظلم.
وقيل إنهم لما أخذوا الطرق على سيف الدولة وثب به حصانه عشرين ذراعًا وقيل: أربعين، فنجا في نفر قليل.
وولي سيف الدولة بعد قتل أبي حصين أحمد بن محمد بن ماثل قضاء حلب، وكان قد عزله بأبي حصين حين ملك. وذلك أنه لما قدم حلب خرج للقائه أبو طاهر ابن ماثل فترجل له أهل البلد، ولم يترجل القاضي، فأغاظ سيف الدولة وعزله.
وقدم سيف الدولة من بعض غزواته فترجل له ابن ماثل مع الناس. فقال له: ما الذي منعك أولًا، وحملك ثانيًا؟، وقال له: تلك المرة لقيتك وأنا قاضي المسلمين، وهذه الدفعة لقيتك وأنا أحد رعاياك. فاستحسن منه ذلك.
فلما قتل أبو الحصين أعاده إلى القضاء. وولي سيف الدولة أيضًا قضاء حلب أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن محمد بن يزيد الحلبي المعروف بالجرد، وكان حنفي المذهب.
ونقل الملك رومانوس إلىحرب المشرق نقفور بن الفقاس الدمستق، فسار إليه رشيق النسيمي أمير طرسوس وخمسة عشر ألف من المسلمين، فبرز إليه نقفور فقاتله وانهزم رشيق وقتل من المسلمين زهاء تسعة آلاف رجل.
وعاد نقفور وضايق عين زربة، وفتحها بالأمان، في ذي القعدة سنة ٣٥٠، وهدم سورها، فانهزم أهلها، إلى طرطوس، وفتح حصن دلوك ومرعش ورعبان في سنة ٣٥١.
ثم إن نقفور بن الفقاس الدمستق ويانس بن شمشقيق قصدا مدينة حلب في هذه السنة، وسيف الدولة بها، وكانت موافاتهما كالكبسة، وقيل إن عدة رجاله مائتا ألف فارس وثلاثون ألف راجل بالجواشن، وثلاثون ألف صانع للهدم وتطريق الثلج، وأربعة آلاف بغل عليها حسك حديد يطرحه عسكره ليلًا.
ولم يشعر سيف الدولة بخبرهم حتى قربوا منه، فأنفذ إليهم سيف الدولة غلامه نجا في جمهور عسكره. بعد أن أشار عليه ثقاته ونصحاؤه بألا يفارق عسكره.
فأبى عليهم ومضى نجا بالعسكر إلى الأثارب. ثم توجه منها داخلًا إلى أنطاكية فخالفه عسكر الروم ووصل إلى دلوك، ورحل منها إلى تل حامد. ثم إلى تبّل.
واتصل خبره بسيف الدولة فعلم أنه لا يطيقه مع بعد جمهور العسكر عنه، فخرج إلى ظاهر حلب وجمع الحلبيين وقال لهم عسكر الروم تصل اليوم، وعسكري قد خالفها، والصواب: أن تغلقوا أبواب المدينة، وتحفظوها، وأمضي أنا ألتقي عسكري، وأعود إليكم وأكون من ظاهر البلد، وأنتم من باطنه، فلا يكون دون الظفر بالروم شيء.
فأبى عامة الحلبيين وغوغاؤهم، فقالوا: لا ترحمنا أيها الأمير الجهاد، وقد كان فينا من يعجز عن المسير إلى بلاد الروم للغزو، وقد قربت علينا المسافة. فلما رأى امتناعهم، قال لهم: اثبتوا فإني معكم.
1 / 22