صرت في غيره بكيت عليه
فيا إخواني في المدرسة، وددت لو تمنحني الطبيعة قوة أسمعكم بها كلمات وبيني وبينكم أقطار شاسعة وبحار واسعة، فإذا سمحت الأيام واطلعتم على أقوالي فاحمدوا الله على وجودكم في هذه المدرسة، وليحمد الله الوطن على وجودكم فيها، فأنتم خير أبنائه وذخيرته على ممر السنين الآتية.
عزمت على أن لا أطيل الكلام في زمن المدرسة؛ فإن ذلك يحتاج لأوقات طويلة، ولعمري يمكن التلميذ أن يكتب مجلدا ضخما عن سنة واحدة فكيف بمن أقام ثلاث سنين متوالية؟! وبما أني خصصت هذا الفصل للكتابة عن أيام المدرسة فسأذكر المهم على وجه الإجمال.
أقمت في هذه المدرسة ثلاث سنوات متوالية، وما أخرجني منها قبل تتميم الدراسة سوى القدر المحتوم والحظ المنكود، ويعلم الله أني كنت متمتعا بجميع صنوف الراحة كأني كنت في منزلي، لا ينقصني إلا بعد سكينة ووالدي، وكنا في الصباح نفطر بالجبن والخبز والعسل، وكان أغلبنا لا يفطر في المدرسة بل من أكل الباعة الذين يوجدون أمام باب المدرسة، وأما الغداء فكان مع التلامذة الخارجية، وعند الساعة أربعة ونصف مساء تخرج التلامذة الخارجية ويبقى الداخلية في المدرسة يتنزهون ذهابا وإيابا في الحوش وأمام المدرسة، وكان ضباطنا رجالا كراما يصرحون لنا بالفسحة في الحقول والحدائق المجاورة، على شرط أن نعود إلى المدرسة قبل دق الجرس. ولا تسل عن أول ليلة بتها في المدرسة، حيث كنت حزين البال لا أعرف أحدا من التلامذة، ولكنني بالصدفة تعرفت بتلميذ جاء معي في حين واحد، وقد تأكدت بيننا روابط المودة بالنسبة لتوافق مشاربنا وأمزجتنا، وكان هذا الشاب يعادلني سنا، نبيها، ذكيا، محبا للمطالعة والمباحثة خصوصا في آداب اللغة العربية، ولذلك كنت أمضي أغلب أوقاتي معه لحسن أخلاقه وطيب معاشرته وآدابه. أما بقية التلامذة الداخلية فعلى العموم كانوا من خيرة الشبان، وبينهم مودة كأعضاء عائلة واحدة، وكنا مع سرورنا الزائد وراحة بالنا نظن أنفسنا تعساء، لا سيما حينما نرى إخواننا الخارجية يخرجون مساء ونحن دائمون مسجونون في المدرسة، حتى في يوم الجمعة لا نخرج إلا بعد الظهر ونعود في المساء، ولكن كل هذه أفكار صبيانية؛ لأننا لو تأملنا إلى الخارجية لوجدنا أغلبهم، إن لم نقل جميعهم، فاسدي الأخلاق؛ وذلك من عدم اشتغالهم بالدروس والتفاتهم لأشياء أخرى، وخصوصا الذين يأتون من البلاد فإنهم لعدم وجود من يقوم بأمرهم لا يهنأ لهم عيش من المطعم والملبس، وربما يسكنون في بيوت مضرة بالصحة، وربما لا يذهبون إلى الحمامات إلا كل شهرين أو ثلاثة، ثم لعدم وجود من يراعي سيرهم تراهم يسيرون حسب أهوائهم، والشباب مطية الجهل يقود المرء إلى ارتكاب كل منكر وفاسد. هذا فضلا عن أن التعليم في المدارس لعدم مزجه بأصول الدين الذي هو أس الفضائل؛ يجعل الشباب لا يعبئون بالآداب، ويرتكبون المحرمات، ولعمري إن مصر في احتياج إلى شبان يعرفون واجب بلادهم وأنفسهم وإخوانهم؛ ليكونوا مجموعا يدعى بالأمة المصرية، وهذا لا يكون إلا إذا مزج التعليم بالآداب والفضائل.
أقول ذلك لأني كنت متعودا على القيام بالفرائض الدينية حينما كنت بالإسكندرية، فلما أتيت إلى هذه المدرسة وجدت كل شيء بخلاف ما كنت أنتظر، فإنني لما كنت أصلي كانت التلامذة تسخر بي كأنني أنا أعمل عملا غير واجب علي وعليهم، ولكن التعود على شيء يجعل الإنسان يسخر بمن يخالفه، ومع ذلك لم يؤثروا على فكري؛ لأن والدي علمني وثبت أفكاري على مبدأ سرت عليه طول حياتي. وفي اعتقادي أن ذهاب الأطفال من الصغر بدون تهذيب عائلي إلى المدرسة يضر بالولد كثيرا؛ لأن المعلم إنما يعتني بمواد العلم، وهيهات أن يلتفت إلى الأخلاق إلا بما يهمه من جلوس التلميذ متأدبا، وإن شئت قل خائفا خاشعا مدة الدرس مهما كان شقيا فاسد الأخلاق خارجه، ذلك فضلا عن الاختلاط مع التلامذة سيئي الخلق والتربية. ومن هنا تعرف فائدة تعليم البنات، لا لكي يقرأن ويحررن أو يطالبن بحقوقهن ويعرفن ما لهن وما عليهن فقط، بل ليفدن أبناءهن ويهذبن أخلاقهم ليعيشوا عيشة هنية في الدنيا والآخرة.
أما صديقي الوحيد فكانت أخلاقه توافق أخلاقي في جميع الأمور، وكنا نذهب يوم الجمعة بعد الظهر لزيارة الأهرامات والمقابر والمساجد العتيقة والنزهة البسيطة في بعض الجهات الخلوية وما شابه ذلك، وفي تلك المدة كانت تأتيني رسائل من والدي يحثني على الاجتهاد والسير الحسن، حتى جاء شهر رمضان المعظم وبعد عشرين يوما صرحت لنا المدرسة بالإجازة، ولا تسل عن سروري حين ركبت القطار، وأرسلت تلغرافا إلى والدي، وكان معي صديقي الذي كان مسافرا إلى دمنهور، ولما وصلنا إلى تلك البلدة ودعته، وسار القطار حتى وقف في محطة سيدي جابر، فوافرحتاه! حيث وجدت سكينة تنتظرني هناك مع خادمي، وقد رأيتها تغيرت قليلا وازدادت جمالا على جمال وبهاء على بهاء، وحين أبصرتني أقبلت علي وسلمنا سلام المحبين، ثم صرنا نتمشى ذهابا وإيابا على الرصيف، وهي تسألني عن القاهرة والمدرسة وإخواني وأنا أجاوبها، فما أسعد تلك الأوقات!
ما كان أصفى العيش لو دام كما
قد كان في ماضي الزمان الأول
ليت الكواكب والطبيعة كلها
وقفت وذاك الوقت لم يتحول
نامعلوم صفحہ