وقد فتح هؤلاء المترجمون الباب على مصراعيه أمام علماء العرب الأفذاذ من أمثال الفارابي وابن سينا وغيرهم. فالتراكيب والكلمات التي استحدثها المترجمون خلال نقلهم من علماء وفلاسفة الإغريق ساعدت علماء العرب على صياغة اكتشافاتهم ونظرياتهم التي كانت فتحا في كافة المجالات العلمية آنذاك. •••
وعاد المسيحيون إلى القيام بدور إيجابي فعال بعد ذلك بعدة قرون أيضا. وكان دورهم هذه المرة هو استقدام صناعة جديدة على المنطقة، كان لها أبلغ الأثر على اللغة العربية، وهي الطباعة. وقد يتصور البعض أنهم جلبوا مطابع تطبع بالحروف اللاتينية، لكن الواقع أنهم اهتموا بجلب مطابع بالحروف العربية، وهي اللغة التي يحبونها ويعتبرونها لغتهم الأم. وقد يتصور البعض أيضا أن جلب المسيحيين لمطابع عربية في الشرق كان بهدف تجاري بحت، وليس حبا في اللغة العربية، لكن ذلك أيضا بعيد عن الحقيقة، حيث لم تكن المطابع آنذاك مدرة للكسب كما هو الحال منذ الستينيات من القرن الماضي.
والملاحظة الجديرة بالذكر هنا أن الطباعة بالحروف العربية نشأت في أوروبا أولا خلال القرن السادس عشر على يد الإيطاليين بصفة خاصة. لكن ما يهمنا هنا إسهام المسيحيين العرب في إدخال الطباعة وانتشارها في العالم العربي.
ويرجح مؤرخو الطباعة أن أول نص طبع بالعربية كان «كتاب المزامير» وتمت طباعته عام 1610م في دير القديس أنطون قزحيا، وكان من الرهبان الموارنة، وقد طبع باللغتين السريانية والعربية.
أما أول مطبعة عربية صرفة في الشرق فقد أنشئت بحلب سنة 1698م على يد البطريرك أثناسيوس الرابع. ويورد بطرس البستاني في كتاب «أدباء العرب» (ج3) أنه قد تقلب مرارا بين الأرثوذوكسية والكاثوليكية الملكية.
وكانت أول مطبعة عربية في لبنان مطبعة مار يوحنا الصايغ من الروم الملكيين، وقد أنشئت عام 1732م في بلدة الشوير ثم مطبعة القديس جاورجيوس، وهو من الروم الأرثوذكس وأنشأها في بيروت عام 1753م. ومن الواضح أنه كانت هناك منافسة بين الملل المسيحية المختلفة للتأكيد على هويتهم العربية.
وفي عام 1874م ظهرت في بيروت المطبعة الأمريكية ثم المطبعة الكاثوليكية. وبعد ذلك أنشئت مطبعة المعارف سنة 1867م للمعلم بطرس البستاني وخليل سركيس. وأنشأ هذا الأخير بعد ذلك المطبعة الأدبية عام 1874م.
وفي مصر بدأت الطباعة مع الحملة الفرنسية (1798-1801م)، وأنشأ محمد علي مطبعة بولاق التي سميت المطبعة الأميرية. لكن أول مطبعة أهلية في مصر كانت المطبعة القبطية التي أنشأها الأنبا كيرلس الرابع سنة 1860م.
وقد انتشرت المطابع في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، لكن الريادة في هذا المجال كانت للمسيحيين فساهموا بذلك في توفير الأداة اللازمة لنشر فكر النهضة، ولازدهار الصحافة، وما واكب ذلك من تطور حاسم في اللغة العربية.
ثم جاء عصر النهضة فكان للمسيحيين مرة أخرى دور في منتهى الأهمية في بعث اللغة العربية وآدابها، وكانوا ركنا من أهم أركان الانتعاشة الفكرية واللغوية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بل إن بعضهم كانوا من رواد حركة التطور الشعري التي ظهرت على استحياء مع بداية القرن التاسع عشر. وكان من أشهر هؤلاء الرواد نيقولا الترك (1763-1828م) وبطرس كرامة (1774-1851م) وهما من أبرز من سعوا لإحياء الشعر العربي وبعث تراثه العظيم.
نامعلوم صفحہ