لا شك أن التجارب تعلمنا كثيرا أن العناء لا يفيد، ولكن من هذا الذي يعاني باختياره؟ ومن هذا الذي يعاني لفائدة يلتمسها من عنائه؟
إنما يعاني الإنسان على حسب ما عنده من طاقة العناء، لا على حسب ما يستفيده من العناء.
ولهذا يوجد بين الناس آحاد معدودون يطلبون العظائم، ويبلغونها ولا يقنعون بما بلغوه منها، وينظر إليهم ملايين الملايين فلا يتحركون لمثل ما ابتغاه أولئك الآحاد المعدودون؛ لأن المحرك هنا هو الطاقة الموجودة، وليس هو الفائدة التي لم توجد بعد ولا يضمن وجودها.
إن كرة المطاط تنضرب إلى الأرض مائة مرة، ولا تزال تعلو وتسفل في أثر كل ضربة، ثم تنضرب بعد هذا فتقع حيث هي لا علو ولا استفال ... ألأنها علمت أن العلو لا يفيد؟ كلا؛ بل لأنها أضاعت مرونتها التي تعلو بها وتهبط ... فمن الذي يطلب من الكرات الجديدة أن تعتبر بمصير هذه الكرة «المجربة»، فتقع حيث هي وتضيع من مرونتها باختبارها ما ضاع «بالتجربة» على غير اختيار؟
ولست أقول للكرة التي سكنت إلى موضعها: غالطي الحقيقة وعاودي الوثوب، وقد راضتك الحوادث على اجتنابه! ولكني أقول للكرة الجديدة: إياك أن تغالطي الحقيقة وأن تسكني لأن غيرك قد سكن من قبلك، بل اسكني حين يوائمك السكون ولا تقدرين على غيره؛ واطلعي وانزلي ما دامت لك طاقة بالطلوع والنزول.
فقلة المبالاة لا قيمة لها إن لم تأت بعد مبالاة؛ لأنها تكون يومئذ مرضا أو قصورا لا يغبط عليه، ولا بد إذن من مبالاة ولو قصيرة الأمد قبل أن تصبح قلة المبالاة تجربة نفسية ورياضة خلقية، وليس شرطا مع هذا أن تكون تلك التجربة مما يحمد على كل حال ، وأن تكون تلك الرياضة مما يقتدي به كل إنسان.
وغاية ما يرجى من انتفاع بتجارب من مضى أن نعيد تجربتها في وقت أقصر، وعلى ثقة أوضح وأبصر ... ولم؟ ليتسع العمر لتجارب أكثر مما جربه الأولون، لا لينقص نصيبه من التجربة اكتفاء بما جربوه.
فتكرر الأجيال عبث إذا كان معناه أن جيلا واحدا يعالج مشكلات الحياة، ثم تعفى بقية الأجيال من علاجها، وتكرر الأجيال معقول إذا كان لكل جيل نصيبه من عبء الحياة وعليه مزيد جديد.
الفصل العشرون
مسألة الفقر
نامعلوم صفحہ