وكانت مشكلة القافية في الشعر العربي على أشدها قبل ثلاثين سنة، ولم تكن هذه المشكلة قد عرفت قط في العصر الحديث قبل استفاضة العلم بالآداب الأوروبية، واطلاع الشعراء على القصائد المطولة التي تصعب ترجمتها في قصيدة في قافية واحدة، كما يصعب النظم في معناها مع وحدة البحر والقافية.
وكان زميلنا الأستاذ عبد الرحمن شكري يعالج حلها بإهمال القافية، ونظم القصائد المطولة من بحر واحد وقوافي شتى.
وكنت وزميلي الأستاذ المازني نشايعه بالرأي، ولا نستطيب إهمال القافية بالأذن، فنظمت القصائد الكثار من شتى القوافي، ثم طويتها ولم أنشر بيتا واحدا منها؛ لأنني لم أكن أستسيغها، ولا أطيق تلاوتها بصوت مسموع، وإن قلت النفرة منها وهي تقرأ صامتة على القرطاس.
إلا أننا كنا نفسح الفرصة لهذه التجربة عسى أن تكون النفرة منها عارضة لقلة الألفة، وطول العهد بسماع القافية.
وقد أعربت عن هذا الرأي في مقدمتي للجزء الثاني من ديوان زميلنا المازني، فقلت: ... رأى القراء بالأمس في ديوان شكري مثالا من القوافي المرسلة والمزدوجة والمتقابلة، وهم يقرءون اليوم في ديوان المازني مثالا من القافيتين المزدوجة والمتقابلة، ولا نقول: إن هذا هو غاية المنظور من وراء تعديل الأوزان والقوافي وتنقيحها، ولكنا نعده بمثابة تهيئ المكان لاستقبال المذهب الجديد، إذ ليس بين الشعر العربي وبين التفرع والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول: بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية وشعراء الوصف وشعراء التمثيل، ثم لا تطول نفرة الآذان من هذه القوافي لا سيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان، فتألفها بعد حين وتجتزئ بموسيقية الوزن عن موسيقية القافية الواحدة.
وما كانت العرب تنكر القافية المرسلة كما نتوهم، فقد كان شعراؤهم يتساهلون في التزام القافية، كما في قول الشاعر:
ألا هل ترى إن لم تكن أم مالك
بملك يدي إن الكفاء قليل
رأى من رفيقيه جفاء وغلظة
إذا قام يبتاع القلوص ذميم
نامعلوم صفحہ