فالمفهوم من قول الشاعر أن الأخبار هي المقصودة، وأن الشاعر يورد قوله على سبيل الاستغراب، أو التحدث بالغريب الذي لا ينتظر في الأغلب الأعم أن يكون: تسمع الخبر الذي تنتظره من مسافر لم تودعه، ولم تحفل بسفره ولم تنتظر إيابه، وهذه هي الغرابة! وهذا موقع التنويه والاستشهاد.
أما قولنا: «ويأتيك من لم تزود بالأخبار.» فهو شيء آخر في معناه، أو هو شيء لا يستشهد به في الموقع الذي عناه الشاعر.
فنحن لا نزود التاجر المسافر بزاد، ولكنه يعود إلينا من السفر بالبضائع والتحف ولا نستغرب ذلك، إذ لا وجه للغرابة في أن يسافر المسافر ولا تزوده، ثم يعود إليك بشيء من الأشياء، أما إن عنيت غرابة الأمر، وعنيت الأخبار خاصة فلا بد من التقديم، ومن إظهار ما يفيد هذه الغرابة.
وهذا فضلا عن التباس آخر في قولنا: «ويأتيك من لم تزود بالأخبار.» إذ يحتمل أن يفهم السامع أن المقصود: «من لم تزوده أنت بالأخبار.» ثم ينتظر تتمة الكلام، ولا وجه لهذا الالتباس إذا لم يتبدل موضع الكلام.
فتبدل مواضع الكلمات ممكن إذا نحن لم نحفل بهذا الالتباس، وممكن إذا نحن تركنا المعنى الذي من أجله نظم البيت، واستحق أن يروى في مقام الاستشهاد، وممكن إذا صرفنا النظر عن كل معنى وكل قصد.
ولكنه مستحيل أو كالمستحيل إذا أردنا المحافظة على معناه، وهو فرق واضح لا يغيب عن سيد الفصحاء كما أسلفنا؛ ولهذا رجحنا الرواية الغالبة ولم نكترث لغيرها من الروايات؛ ولهذا كان ينبغي للأديب المعقب أن يتريث طويلا قبل أن يجزم، ويتحقق أن قولنا: «لا يمكن تبديله.» غير صحيح؛ فغير الصحيح هو ما قال وما قالته كل رواية توهم أن محمدا - عليه السلام - قد غاب عنه الفرق الواضح بين الروايتين. •••
وما دمنا بصدد التعقيب على كتاب «عبقرية محمد»، فلنذكر تعقيبا سمعناه من المذياع لطالب نجيب من طلاب الجامعة كان يتحدث عن هذا الكتاب ... فقد أشار إلى كلامنا عن موت إبراهيم ابن النبي - عليه السلام - حيث نقول: «مات ذلك الطفل الصغير ومات ذلك الأمل الكبير: مات كلاهما والأب في الستين ... أي صدمة في ختام العمر؟ أي أمل في الحياة؟ الدين قد تم وهذه الآصرة قد انقطعت، فليس في الحياة ما يستقبل وينتظر، كل ما فيها للإشاحة والإدبار.»
ثم عقب الطالب النجيب بما فحواه أن هذا يأس يتنزه عنه مقام الأنبياء.
وكل ما نجيب به أن هذا ليس بيأس يتنزه عنه مقام الأنبياء، وإنما هو علم بأن الحياة قد أصبحت للإشاحة والإدبار، ومحمد - عليه السلام - كان يقول: «إن معترك المنايا بين الستين والسبعين.» فلا يأس في انتظاره إدبار الحياة بعد الستين.
إنما اليأس الذي يتنزه عنه مقام النبي أن ييأس من أداء الرسالة التي بعث بها إلى الناس، وهذه قد تمت يوم مات إبراهيم، فلا يأس فيها، ولا حرج أن يقبل النبي بعدها على أخراه، وما قلنا عن محمد - عليه السلام - بعض ما قاله بلسانه الشريف حين قال: إن ما به من موت إبراهيم ليهد الجبال، ثم استرجع. وما يكون الاسترجاع إلا أن يذكر الإنسان في كل عمر أنه تارك الحياة وراجع إلى الله!
نامعلوم صفحہ