ومن الاتفاق الذي ينساق في هذا المساق ما رواه الأستاذ جينس في كتابه المتقدم عن رأي هكسلي في المصادفات وتوارد الخواطر، فهو يعتقد اعتقاده أننا لو أسلمنا الآلات الكاتبة إلى ستة قرود يدقون على حروفها بغير قصد ولا معرفة، ملايين بعد ملايين من السنين لكان لزاما أن يجيء الوقت الذي «تنكتب» فيه بهذه الوسيلة جميع الكتب التي في المتحف البريطاني.
ولا يخفى ما يرده هكسلي بهذه النكتة المنطقية، ولكنه على كل حال قد خرج بالمسألة إلى «ما وراء الطبيعة»، وأبطل حكم العقل والإرادة فيها، فمهما يطل عمر الإنسان فما هو ببالغ أن يفسر لنا على هذا النمط اتفاق الخواطر في صفحة واحدة، بله الألوف من المجلدات التي تحويها دار الكتب البريطانية.
ولا حاجة إلى القرود الستة وملايين السنين والآلات الكاتبة لتعليل توارد الخواطر في الآراء أو في العبارات، فإن علم النفس يغنينا، حيث لا يغني التطوح ملايين السنين وراء المشهود والمحسوس، وقد كان علم النفس كافيا حتى الآن لتعليل حفظ العقول صفحات عديدة في حالة «الغيبوبة»، أو حالة التنويم المغناطيسي أو حالة «التنويم الذاتي»، أو ما يشبه هذه الحالات من عوارض الحمى العصبية، فإذا رأينا حالة كالتي رواها صديقنا الأستاذ المازني يستوعب فيها الإنسان بضع صفحات، لا يخرم منها حرفا ولا نقطة ثم يعيدها، وهو معتقد أنه يمليها من وحي بديهته فلنرجع إلى علم النفس في وصف العوارض، التي تأتي بهذه الغرائب، فإنه لكفيل بتعليلها أو بإبداء مقطع الحق فيها.
وإنما العبرة من جميع ما تقدم أن نسأل: ترى لو صدر كتاب «عظماء الرياضيين» قبل كتابة المقال الذي ناقشت به الأستاذ المازني منذ أربع عشرة سنة، أما كان أقرب الاحتمالات إلى الذهن أنني قرأت ذلك الكتاب، واستوحيت منه التحليل الذي فرقت به بين عقول الطبيعيين وعقول الرياضيين، وعقول الموسيقيين؟ أما كان من المستغرب يومئذ أن يقال: إنني لم أطلع على ذلك الكتاب وإن كان مؤلفه لم يبسط فيه الرأي الذي بسطته، ولم يتجاوز أن جمع أخبار الرياضيين وعجائبهم في سجل واحد؟
فأما وصدور الكتاب بعد كتابة المقال محقق لا شك فيه، فهذا التوافق يبدو سهلا جائزا خلوا من الغرابة، ومن ثم ينبغي أن نقدم الاستقراء العقلي - في تمحيص الخواطر المتواردة - على استقراء التاريخ مع رجاحة هذا وصعوبة الاستغناء عنه؛ لأن استقراء التاريخ وحده لا يكفي للبت في جميع الأمور.
ونعني بالاستقراء العقلي أن نمتحن ذهن الكاتب، وأن نتابع وجهته في تفكيره، فإذا عرفنا أنه قمين أن يقول ما قال، وأن يخوض حيث خاض، ويتوجه حيث توجه، فالاتهام بعد ذلك ضرب من اللغو والتمحل، وإن لم يكن كذلك فهو متهم ولو لم يكشفه استقراء التاريخ.
أما حين يقع الاتفاق في العبارات والحروف صفحات متواليات، فليس من المروءة أن نجزم باستحالة ذلك قبل أن نحتكم إلى الاستقراء العقلي من طريق علم النفس، ودرس الذهن الذي تقع له أمثال هذه الغرائب، فقد يهدينا الحكم الوئيد هنا حيث يضلنا الحكم السريع، ولا ضير علينا إذا تطابق الحكمان في النهاية بعد الموازنة والمقابلة بين جميع الفروض.
الفصل الحادي والأربعون
لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا
لم نخدع أنفسنا حتى خدعنا الأوروبيون عنها فانخدعنا!
نامعلوم صفحہ