الينبوع
الينبوع
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
تصدير
يستقبل هذا الديوان عام 1934م بمجموعة شعري غير الدرامي منذ صدور ديواني «أطياف الربيع» حتى نهاية سنة 1933م، التي أودعها وأنا أحبر هذه السطور بين أطيافها الأخيرة.
ولي كلمة أوجهها إلى مريدي هذا الشعر وإلى غير مريديه على السواء: تلك هي أنه لا سلطان لي على قرضه، بل أنا مرغم إرغاما عليه بدوافع نفسية لا أملكها تزجيني إلى هذه التعابير النظمية، فليس محتوما على غير مريديها أن يطلعوا عليها حتى أكون معرضا لمؤاخذتهم إياي، وليس محتوما على مريديها أن يدافعوا عنها إلا في مجال النقاش الفني، فللناس أذواق تتباين، ولا بد لتذوق الآداب والفنون من وجود تجاوب بينها وبين ناقديها، ومن الخير الأدبي وجود هذا التباين في مبلغ هذا التجاوب، واحتكاك المذاهب الأدبية بعضها ببعض، لا أن نستاء من ذلك الخلاف البريء، ونعمل عى القضاء عليه؛ فإن هذا الاستياء في ذاته ينافي الروح الفنية، ومحاربة الجهود البريئة المنوعة التي هي عوامل النهضة الفنية وقوامها - حتى ولو كان بعضها مصطبغا بالصبغة التقليدية المحافظة - إنما تعد وصمة للفن والفنانين.
وما كان ثمة داع لنشر هذه الأشعار ولا ما سبقها من دواويني لولا نوازع صوفية وجدانية تحبب ذلك إلي كأنما أنا مكلف برسالة أؤديها، فإن عهدي بشعري ينتهي حينما أنتهي منه، وقلما أحفظ منه شيئا، ولولا ذلك لما ضاع ما ضاع من شعري الكثير من عواصف السياسة أثناء اغترابي الطويل عن وطني، فضاع بضياعها سجل طويل لحياتي العاطفية. وعذر آخر - إن كنت مطالبا بعذر - لوفرة دواويني: ذلك أني على كثرة إنتاجي الشعري لا أنشر إلا النزر اليسير منه في الصحف، ولا أستثني حتى مجلة «أبولو» الشعرية التي أوثر وقف معظم صفحاتها على الكثيرين من شعراء الشباب، وعلى الشعراء المجيدين المغمورين؛ مما أتاح لهؤلاء المعاصرين أن يذيعوا آثارهم، خلافا لمثلي الذي لم يبق له منبر حر غير صفحات دواوينه.
إن الشاعر الفنان تستهويه روح الجمال، وتحفزه إلى إبداع المثل الجميلة التي يرتضيها ذوقه، وهو لا يعنيه أصلا أن يخدم النزعات الخلقية ولا غير الخلقية بشعره، فهذه وظيفة إضافية قد يؤديها الفنان، ولكنها ليست مهمته الأولى ولا الأخيرة، وإذا أصبحت مثل هذه العوامل دوافع فيه صريحة عنده فسد فنه حتما؛ فإن الفنان يجلو لنا فنه، ولكنه لا يصيح ولا يعلن عن دوافعه الخلقية والوطنية وأمثالها، بل هي تعلن عن نفسها إعلانا هادئا يلمح من خلال العمل الفني ولا يغطيه. ولا يغرب عن البال أن مقاييس الفضيلة والرذيلة المعهودة ليست في معظهما بالمقاييس المستقرة التي تحتم الإيمان بها، وحتى إيمان الفنون.
وليست هذه هي النقطة الفريدة التي يشعر مثلي بالحاجة إلى معالجتها في هذا التصدير تعليقا على نقد بعض الأدباء على الشعر الحديث، وعلى شعر صاحب هذا الديوان خاصة، فهناك من يرون أن من الواجب حصر الشعر في موضوعات معينة كأنما الشاعر المفتن يعجز عن التعبير الجميل إذا ما تجاوبت عواطفه وأخيلته مع أي عامل من عوامل هذا الكون الفسيح المدهش، كيفما دقت أو عظمت.
نامعلوم صفحہ