وسرى ميكروب القلة إلى الأولاد، فهدءوا وصمتوا، وصارت هدلا تكاد تشمئز حين تنادى: يا شيخة!
ودخل البيت يوما دائن ملحاح، فتجهم وجه فرنسيس؛ كان يغضب لأقل حركة يأتيها بنوه، حتى صفع أصغرهم على هفوة فانطبعت أصابعه الخمس في خده الطري، فاحتجت هدلا على فظاظة ابن عمها بدمعتين قفزتا من وكرهما الفتان وكرجتا على صحن المرمر، أما فرنسيس فما درى بما فعل لأن وجه غريمه سد عليه الأفق، كعراض السماء في الليلة السوداء.
أمسك فرنسيس قلبه بيده، يخاف أن يشق غريمه حديث الدين أمام زوجته والأولاد، فكان يسد الأبواب بلباقة، ولكن الدائن جبار عنيد أن بان له خور في مديونه، وكان واثقا من مناعة الموقف، وحوم الزائر الكريم في آفاق المطالبة، وقبل أن يقع نهض فرنسيس وقال له بنفور: «تفضل إلى الأوضة، هناك نحكي بحرية أكثر.» فأجابه هذا بفتور: هذا سر عن الشيخة والمحروسين؟
فأهوت يد فرنسيس إلى زند غريمه، فأحس هذا كأن كماشة أطبقت على ذراعه، واقشعر فرنسيس وقال: هذا أمر لا يعني غيري. وأشار برأسه صوب الغرفة قائلا: قم، تفضل.
فنهض الدائن متثاقلا، وانشق شدقه عن ربع ابتسامة نفذت إلى صدر فرنسيس كرصاصة مسدسه المشهور في البلاد ... وكان بين الرجلين حديث طويل التقطت منه هدلا بضع عبارات أدركت منها أن القصة قصة دين استدانه زوجها بعد معركة الزواج، واستنتجت أيضا أن أكثر زوارهم الذين كان يذبح لهم فرنسيس مواشيه هم دائنوه، وأن فتور الحب ناتج عن ضيق اليد، وأمعنت في الملاوصة فسمعت كلمة أميركا تتردد، ولكنها لم تفهم ما يعنيان فتركتهما وذهبت تعد الغداء؛ لم يبق في البيت معزى، ولا غنم، ولا ديوك، ولا أرانب، فذبحت الدجاجة البياضة العزيزة ... يقول المثل: «أطعم الفم تستح العين.» فما يسد بوز الدائن - مؤقتا - غير هذا.
وكان الحديث على المائدة طريا ناعما، وكانت الوجوه طلقة، وكان الدائن ينظر هدلا كمن عنده سر يتردد في إذاعته، رأى أدلة النجاح الباهر في المهجر متجمعة في ذلك الوجه الحلو، فحلم بالاستيفاء نقدا وعدا، ليرات إنكليزية تكرج على حروفها ... وكان زوجها جالسا قبالته يبتسم ابتسامة أخرق حتى إذا عاودته الفكرة قطب وعبس، ثم يذكر أنه في موقف لا يجوز فيه التعبيس، فينطلق وجهه كجواد يقف لحظة ثم يجري، فقالت هدلا لزوجها: في وجهكم حكي. فمغمغ الدائن كلامه وقال: لا، الأمر بسيط.
فأجابت هدلا: بلى، قولوا ما عندكم بسيطا كان أو مركبا. فأجاب الدائن كالمتلعثم: «أنت ... عارفة أنت ... زوجك ...» وسكت، فاتسعت حدقتا هدلا منتظرة الحكم فقال الرجل: مغلوب. ومغطها، فأطرقت هدلا، فقال: أبديت له رأيا لا أعرف إذا كنت توافقيننا عليه.
انتفضت هدلا انتفاضة مستغرب، وكيف لا تستغرب كلمة «مغلوب» فهي معتقدة أنها تزوجت ابن روكفلر، وازدحمت في رأسها خواطر أعجز عن تحليلها، ودق قلبها دقات أخافتها، فالتفتت إلى الرجل تسأله بسكوتها الإفصاح عما يريد، فقال لها: لا يخلصكم غير أميركا.
فأطرقت المرأة وقالت بصوت ضعيف: أميركا! إذن صرنا مثل غيرنا.
فقال الدائن: نعم أميركا، فلان كان مثلكم وخلصته أميركا، وفلان عمر القصور من مال أميركا، وفلان اشترى الضياع، وفلان لولا مال أميركا ما صار مدير ناحية وتغدى عنده الباشا ...
نامعلوم صفحہ