وجودیت: ایک مختصر تعارف
الوجودية: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
كان نيتشه بالمثل لا يثق في «القطيع»، وازدراؤه للديمقراطية السياسية لا يقل عن ازدراء كيركجارد لها. نادرا ما هدأت أفكاره أو - حسبما كان يدعي - تشتتت بفعل القيم الإنجيلية، التي كان يغيرها بانتظام في أكثر من مناسبة. فالشفقة، إذا انتقينا مرادفا قريبا من «رحمة» كيركجارد مثلا، اعتبر أنها تحط من قدر المفعول وغير جديرة بالفاعل. في واقع الأمر، يبدو أن نيتشه يشارك كيركجارد قلقه حيال توجهات الأفراد أو أرواحهم، بدلا من القلق حيال الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التي يعملون في ظلها. ومع أن «مثله الأعلى» هو الإغريق أو - مثل جوته - الشخصيات متعمقة الثقافة، في حين كان أبطال كيركجارد من وحي الإنجيل بشكل أساسي، فإن كليهما لم يتناول موضوع المسئولية الاجتماعية أو غيرها من الموضوعات الرئيسية في الفلسفة السياسية إلا بشكل عابر. ومثل كيركجارد، كان نيتشه مهتما بتكوين الأفراد أكثر من اهتمامه بتغيير المجتمع؛ وبناء عليه، تعين على المنهج الوجودي أن يواجه ما عرف بعد ذلك في القرن التاسع عشر بالقضية الاجتماعية؛ كيفية التوزيع العادل للثروة المتنامية وخدمات المجتمعات الصناعية في مواجهة صعود طبقة البروليتاريا. (2) هايدجر وياسبرز: الوجود الاجتماعي وفخ الاشتراكية القومية
لو كان نيتشه منزعجا من سحابة العدمية السوداء التي رآها تغلف المجتمع الأوروبي مع إدراكه «موت الإله»، فقد كان هايدجر وغيره من المفكرين الألمان الذين ينتمون إلى نفس جيله أكثر قلقا حيال نهوض البلشفية والخطر الذي يمثله أنصارها على الحضارة الغربية. ولاح خطر مماثل من جانب المادية الشديدة واليوتوبيا التكنولوجية للرأسمالية الأنجلوأمريكية، وإن كانت إشاراتها أصعب في الملاحظة. لقد كانت الثقافة الألمانية - باعتبارها وريثا واضحا للحضارة اليونانية القديمة (وهي وجهة نظر اقترحها في ألمانيا فقهاء اللغة والأثريون الكلاسيكيون البارزون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) - تتعرض للهجوم من اتجاهين وعلى مستويين فيما وصفه هايدجر في إحدى محاضراته ب «كماشة كبيرة، تضغطها بين روسيا من جانب وأمريكا من الجانب الآخر».
على الرغم من القوة المتفردة النابعة من قبول المرء بثبات لوجوده الذاتي المتجه نحو الموت، فقد تحدث هايدجر عن وجودنا الاجتماعي كبنية أساسية للإنسان؛ فالبشر كائنات اجتماعية بالفطرة؛ فنحن نولد في الأصل (أو بلغة الوقتية الوجدانية، يستخدم هايدجر مصطلح «نلقى») في عالم حضاري يتطابق فيه وجودنا الاجتماعي مع ما يفعله «أي شخص»، ونشكل ما يسميه علماء الاجتماع ب «الذات الاجتماعية»، وما يسميه هايدجر ب «الذات الأخرى» غير الصادقة، كتلك التي تمتع بها إيڤان إيليتش، الذي استعبده الرأي العام. من منظور تاريخي، فإن هذا المجتمع الحضاري هو ما يسميه هايدجر ب «التقاليد»، أو بمنظور لغوي ذلك الذي «نقل» إلينا واستقبلناه كجزء من موروثنا الشعبي. وتساهم هذه التقاليد في تشكيلنا كأفراد. وهو يتحدث أحيانا عن «القدر» في هذا السياق، دون أن يقصد القدر الأعمى وإنما يقصد الحدود الموضوعية والإمكانيات التي تنبثق من ماضينا الجمعي. من المنظور الوجودي، يمكن استغلال هذه الإمكانيات كفرصة للاختيار الصادق أو غير الصادق.
لكن ثمة لحظات تاريخية تؤدي إلى ظهور وجود اجتماعي صادق، وهايدجر اعتبر (أو أخطأ في اعتبار) الثورة الاشتراكية القومية (أي النازية) واحدة من هذه اللحظات. ويلخص أحد كتاب التراجم - وأعتبره شخصا موضوعيا - هذه المسألة الخلافية قائلا:
ما زال هناك قدر كبير من عدم الارتياح حتى يومنا هذا تجاه مشاركة هايدجر السياسية. من المنظور الفلسفي، فقد أصبح لفترة أحد الثائرين المنتمين إلى الاشتراكية القومية، لكن فلسفته ساعدته أيضا على تحرير نفسه من المشهد السياسي. لقد تعلم درسا مما فعله، فركز تفكيره فيما بعد على مشكلة إغواء الروح من جانب إرادة القوة.
على الرغم من أن الوجوديين يميلون إلى عدم الانصياع للمجتمع، وهايدجر - كما رأينا - شدد على القوة المتفردة النابعة من قبول المرء بثبات أن يعيش «وجوده» المتجه نحو الموت، فقد ثبت أن مفهوم الوجود الاجتماعي «الصادق» محفوف بالمخاطر مثلما هو مغر. بدا أن هايدجر قد أغرته القوة الهائلة للحركة النازية والفرصة التي بدت أنها تعرضها لإصلاح التعليم الذي ربما يلعب فيه دورا مهما. وما قاله الفيلسوف جورجين هابرماس (1929- ) عن هايدجر كثيرا ما انطبق على سارتر في هذا الشأن: أنهما بجعل الفرد النقطة المحورية لفلسفاتهما تجاهلا الجانب الاجتماعي الذي تتسم به الحياة الإنسانية. ومع أن هذا النقد يعتبر تقييما غير دقيق لكل من هايدجر وسارتر، فإنه يشدد على حقيقة أن مسئولية إثبات وجود فلسفة اجتماعية ملائمة تقع على أنصار فكرة الفرد الصادق.
على الرغم من انتهاء الحرب العالمية الثانية بالخزي لهايدجر، فقد حاز كارل ياسبرز على الاحترام لثباته على أخلاقياته. فمع أن ياسبرز آمن بدوره بأن المهمة الحضارية لألمانيا هي تقديم خيار ثالث إلى العالم يجمع ما بين «السوط الروسي والاتفاق الأنجلوساكسوني»، فقد عبر عن هذا الرأي عقب الحرب العالمية الأولى، وليس في ظل انتصار النازية، على العكس من هايدجر. لقد صمد في وجه الاحتلال النازي على حساب أستاذيته في الجامعة، وفي نهاية الحرب ألقى عددا من المحاضرات نشرت بعنوان «مسألة الذنب الألماني» (1947). وفيها فرق بين أنواع الذنب والمسئولية ليوضح كيف يجب أن يشرح الألمان موقفهم الحالي في أعقاب هذه الكارثة. وقد ميز بين أربعة أنواع من الذنب: الذنب الإجرامي (انتهاك القوانين غير القابلة للالتباس)، والذنب السياسي (درجة الانصياع السياسي في أفعال النظام النازي)، والذنب الأخلاقي (ضمير شخصي يتشكل بالاتفاق مع مجتمع المرء الأخلاقي)، والذنب الميتافيزيقي (القائم على تضامن جميع البشر باعتبارهم ببساطة بشرا؛ مما يسفر عن حالة من المسئولية المشتركة، خصوصا تجاه الممارسات المجحفة التي يعيها المرء ولا يفعل ما بوسعه لمقاومتها). كان هذا المفهوم من المسئولية الجمعية جديدا على الفكر الوجودي، لكن سرعان ما تناول سارتر الموضوع في مجادلاته مع جماعات ومجتمعات متنوعة تتسم بالاستغلال والقمع. وبعد ذلك بسنوات، ستلهم هذه المحاضرات سارتر فيكتب مسرحية «سجناء ألتونا» (1959)، التي - على الرغم من أنها ظاهريا تصور مسئولية الألمان عن الحرب العالمية الثانية - كانت في الحقيقة حكاية رمزية تعبر عن إحساس الفرنسيين بالذنب تجاه قمعهم الثورة الجزائرية التي كانت دائرة في ذلك الوقت.
كانت تجربة الحرب العالمية الثانية وما أعقبها حاسمة في نظر ياسبرز مثلما كانت في نظر سارتر. يتجلى القلق الأخلاقي المستمر للفكر الوجودي في استعانة ياسبرز بالجانب الأخلاقي لتقييد الجانب السياسي. سيرفض «الواقعية» اللاأخلاقية المكيافيللية الفجة التي تدعي بأن الغاية تبرر الوسيلة. وقد أثبتت تجربة ياسبرز مع النازيين هذه النقطة لو أنه عمل على تحليلها. لكن اختراع القنبلة الذرية ضاعف المخاطر باطراد. يعلق ياسبرز - مثل كيركجارد لكن في ظل قدر من التغيير المؤسسي أيضا - أنه ليس كافيا إيجاد مؤسسات جديدة؛ يجب أن نغير أنفسنا، وشخصياتنا، وإراداتنا السياسية الأخلاقية. فما اتسم به الفرد لمدة طويلة بالفعل - وما كان مؤثرا في الجماعات الصغيرة، لكنه بقي غير مؤثر في المجتمع ككل - أصبح الآن وضع الوجود الإنساني المستمر.
قبل ذلك ببضع سنوات، عبر جابرييل مارسيل عن خوف مشابه عندما لاحظ أننا نواجه موقفا غير مسبوق أصبح الانتحار فيه ممكنا على نطاق إنساني واسع. وهو يصر على أنه من المستحيل التفكير مليا في هذا الموقف دون الوعي بأن كلا منا يصبح في كل لحظة تقريبا في حضرة خيار جوهري، وأنه يساهم بما يفكر فيه، وبما يفعله، وبما يكونه، إما بمضاعفة أو - على العكس - بتقليل احتمالية حالات الانتحار عالمية النطاق. لكنه يؤمن بأنه على المستوى الفلسفي فقط يمكن توضيح الطبيعة الجوهرية لهذا الخيار، وهذا ما شرع في عمله. تتطلب الوجودية ضميرا اجتماعيا. لكن إلحاح هذا المطلب يمثل استجابة لما يعتبره واقعا غير مسبوق في تاريخ العالم؛ ألا وهو قدرتنا على إحداث دمار شامل للحضارة التي نعرفها.
من منظور وجودي، لا يقترح ياسبرز قواعد أخلاقية جديدة، على الرغم من اعترافه بأن «صورة» من العمومية يجب أن تظل باقية، ألا وهي «الوجوب» غير المشروط للالتزام الأخلاقي. وبخصوص محتوى هذا الالتزام، فهو يصر على أن «ما» يجب أن أفعله تحديدا لا يمكن استنباطه من صورة الالتزام غير المشروط بعمل شيء. لا شك أنه يجب عمل الخير وتجنب الشر؛ فأنا «يجب» أن أفعل واجبي. لكن ما واجبي في اللحظة الحالية؟ ما الخير الذي يجب أن أسعى إليه في هذا الموقف؟ مثلما عرف ياسبرز من واقع خبرته، يتطلب هذا الاكتشاف/الابتكار شجاعة التضحية من جانب الفاعل الأخلاقي بالإضافة إلى صورة من المنطق تفوق الذكاء. ويحذرنا ياسبرز من أن روح الشعب تصبح مذهبا أخلاقيا عندما تستنزف نفسها بالأوامر والمحظورات. وهنا يظهر دور التزامه التوحيدي؛ فهو يؤكد لنا أن «ما هو خفي في الجانب الأخلاقي هو أكثر من مجرد جانب أخلاقي». إنه «المتسامي»، بل حتى «المقدس»، لكنه ليس دينيا حسب الاستخدام الشائع للكلمة الذي يشير إلى الدين الموحى والسلطة المؤسسية. ومثلما فعل كيركجارد ونيتشه - كل بطريقته - يتركنا ياسبرز معرضين لخطر الإبداع الأخلاقي، لكنه يفعل ذلك في إطار الجانب المتسامي، أو «المطوق» حسب تسميته، الذي يتحدانا لإدراك حريتنا بأسلوب ينطوي على المسئولية المطلقة عن حرية الآخرين . (3) تحدي المجتمع الجماهيري: مارسيل
نامعلوم صفحہ