وجودیت: ایک مختصر تعارف
الوجودية: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
شكل 1-3: إدموند هوسرل، مؤسس الحركة الفينومينولوجية.
3
حسب مبدأ القصدية، كانت هذه مشكلة زائفة؛ إذ لا يوجد وعي داخلي خارجي. فكل فعل واع «يقصد» شيئا موجودا بالفعل «داخل» العالم (أي مرتبط عن قصد به). أسلوبنا في «قصد» هذه الأشياء سيختلف عندما نفهمها، أو نعيها، أو نتخيلها، أو نتذكرها - مثلا - أو عندما نرتبط بها ارتباطا عاطفيا. لكن في كل حالة، الوعي هو طريقة للوجود في العالم.
فكر مثلا في انطباعاتنا الذهنية. أشار سارتر في دراسة قديمة إلى أن الانطباعات الذهنية ليست منمنمات محفورة «داخل العقل» تنعكس على العالم الخارجي؛ مما يثير مشكلة التوافق بين الداخل والخارج مرة أخرى. بدلا من ذلك، يعتبر الوعي الانطباعي أسلوبا «للاغتراب» عن عالم مدركاتنا الذي يظهر سماته المميزة عند الوصف الفينومينولوجي الدقيق. لو تخيلنا تفاحة سبق أن رأيناها - على سبيل المثال - فإن وصفا دقيقا للتجربة سيكشف كيف يختلف التخيل عن رؤية نفس هذه التفاحة؛ لسبب واحد: أن التفاحة المتخيلة لا تحمل إلا تلك السمات التي نختار أن نعطيها لها، على عكس التفاحة المرئية. والانطباعات الذهنية بهذا الشكل لا تعلمنا شيئا. هكذا هي الحال مع بقية أفعالنا الواعية؛ حيث يكشف كل منها سماته المميزة عند الوصف الفينومينولوجي.
لكن لأن الوعي «يقصد» موضوعاته بطرق مختلفة، يمكننا استخدام منهج الوصف الفينومينولوجي المسمى «الاختزال الاستحضاري» أو «التنويع التخيلي الحر للأمثلة» للوصول إلى الحد أو الجوهر الواضح لأي من هذه التجارب الواعية المتنوعة. وهذه المهمة التخيلية المتعلقة بالوصف الدقيق لما «يعطى» للوعي في حالات «عطائه» المتنوعة هي ما يفضلها الوجوديون عند بناء حججهم المتماسكة. وقد قال هوسرل ذات مرة، هدف المنهج الفينومينولوجي ليس الشرح (بإيجاد الأسباب) وإنما دفعنا إلى الرؤية (بتقديم الجوهر أو رسم الحدود الواضحة).
تأمل هذين المثالين: قد تقوم رسامة جنائية برسم صورة مجرم كي يتعرف عليها شاهد العيان. وحسبما تضيفه أو تلغيه من ملامح في الصورة، سيوافق شاهد العيان أو يعترض على مدى التشابه إلى أن يقول عند الوصول إلى أفضل نتيجة: «نعم، هذا هو الجاني؛ هذا كان شكله.» هذا تشبيه بسيط للوصف الاستحضاري الذي يستعين بالتنويع التخيلي الحر للأمثلة للوصول إلى الرؤية، أي الإدراك الفوري للشيء المقصود.
دعونا نتناول في مثالنا الثاني «حجة» فينومينولوجية شهيرة من مقال سارتر «الوجود والعدم»، التي أعتبرها صورة أقل فنية للاختزال الاستحضاري: يتلصص أحدهم عبر ثقب المفتاح على زوجين، حتى يسمع فجأة ما يعتقد أنها خطوات أقدام خلفه. خلال نفس هذا الفعل، يشعر أن جسمه أصبح «موضوعا» لوعي آخر. إحساسه المتصاعد بالحرج، ووجهه المتقد احمرارا، هما مرادف لحجة مزدوجة عن وجود عقول أخرى (لغز فلسفي قديم) وعن جسمه باعتباره عرضة للتجسيد الموضوعي بصورة لا يتحكم فيها. حتى لو كان المتلصص متوهما (كان مصدر الصوت هو الرياح التي تداعب الستائر أمام النافذة المفتوحة مثلا)، فستظل التجربة تبرر إيماننا بالعقول الأخرى بشكل أسرع وبيقين أكبر مقارنة بأي حجة يطرحها التشبيه، الذي هو الدليل المعياري لمعتنق التجريبية. هذا مصدر قوة «الاختزال الاستحضاري» الناجح؛ فهو يرصد الجوهر أو الحد الواضح في تجربة ذات أخرى باعتبارها ذاتا، وليست موضوعا وحسب.
يكمن موطن قوة هذه الحجج ونقاط ضعفها المحتملة - فيما يتعلق بالوصف الفينومينولوجي أو التنويع التخيلي الحر للأمثلة - في تركيزها على تسميته «الحد الواضح». هذا نوع من الرصد الفوري لوجود «الشيء نفسه»، حسب قول هوسرل، وهو شبيه ب «لحظة التجلي» التي نمر بها في نهاية مسألة منطقية أو رياضية (يحمل هوسرل درجة الدكتوراه في الرياضيات). المفترض أنه لو كان الوصف محددا بدقة، فسيرى السائل الشيء بوضوح من تلقاء نفسه. أما نقطة الضعف المحتملة بالطبع فهي أنه - استجابة للادعاء «لا أراه» - لا يستطيع متبني المنهج الفينومينولوجي الرد إلا بأن يقول: «حسنا، انظر عن كثب.» لكننا، في الحقيقة، غالبا ما نفهم المقصود؛ إذ ننجح في رؤية «الجوهر» الثابت عبر الأشكال المتغيرة المتعددة. هذه الحجج القائمة على الأمثلة لا تمد الوجودي فقط بأسلوب التفكير المادي الذي يسعى إليه، بل إنها تكاد تتوسل من أجل التجسد في الأدب التخيلي والأفلام والمسرحيات.
ذكرت أن العديد من معتنقي المنهج الفينومينولوجي لا يؤمنون بالوجودية. والعكس صحيح أيضا؛ فمع أن فلاسفة الوجودية في القرن العشرين تقبلوا مفهوم هوسرل عن القصدية لأنه فتح بابا واسعا لمنهجهم الوصفي، فقد رفضوا سمة أخرى في فكره اللاحق بسبب تعارضها مع معنى الوجودية، وهي مشروعه عن «تعطيل» الوجود. تحدث هوسرل عن السلوك الطبيعي، الذي قد يوصف بأنه دون فلسفي وساذج في تقبله غير النقدي لعالم التجارب اليومية الواقعي. أصر هوسرل، في سعيه إلى تحويل المنهج الفينومينولوجي إلى علم شديد الحسم كالفلسفة نفسها، على أنه يجب على المرء تعطيل الإدراك الساذج للسلوك الطبيعي والتغاضي عن - أو تعطيل - مسألة وجود أو كينونة الأشياء الخاضعة للوصف الفينومينولوجي. أطلق هوسرل على هذا اسم «الاختزال الفينومينولوجي»، أو «التوقف»، وتصور أنه قادر على إعاقة الاعتراضات الشكوكية التي يخضع لها السلوك الطبيعي. وقد اعترف بأن المرء يستطيع القيام ب «اختزال استحضاري» للسلوك الطبيعي والوصول إلى نوع من النفسية «الاستحضارية». لكنه برهن لاحقا أن هذا ترك سؤالا شكوكيا بلا إجابة: «هل ما تصفه حقيقي في العالم الواقعي؟» كان هدف هوسرل أنك إذا قمت بهذا الاختزال الإضافي وعطلت «مسألة وجود» الأشياء محل السؤال (أي التغاضي عن مسألة ما إذا كانت الأشياء موجودة «في الحقيقة» أم أنها «داخل العقل» وحسب)، فإنك تجرد الشاك؛ الذي يشك في قدرتك على بلوغ «الواقع» أبدا، بتوصيفاتك. هدف الاختزال الفينومينولوجي هو ترك كل شيء كما هو «باستثناء» الأشياء التي يجري «اختزالها»، والمسماة الآن «الظواهر». عندما تعطل مسألة الوجود، فإنك تحتفظ بكل التجارب وما يتعلق بها من أشياء كنت تعرفها سابقا (الإدراكات الحسية، والصور، والذكريات، وغيرها)، لكن باعتبارها الآن مرتبطة بالوعي؛ أي كظواهر. بطريقة ما، أنت تتمتع بنفس اللحن الذي تتمتع به خلال السلوك الطبيعي لكن بمقام موسيقي مختلف. فبعد أن صرت محصنا ضد الشك - الذي كان قوة سلبية تحرك الفلسفة منذ زمن الإغريق - يمكنك الآن القيام بتحليلات وصفية دقيقة لأي ظاهرة مهما كانت. ستوضح التوصيفات نفسها الفرق بين التفاحة المرئية - مثلا - والتفاحة المتخيلة. تبدو هذه طريقة مبتكرة لتهميش الشك الفلسفي والتأكيد على معرفتنا اليقينية بالعالم. كان هذا حلم هوسرل.
يقدم الوجوديون سببين لرفض الاختزال الفينومينولوجي الذي طرحه هوسرل؛ أولا: أنه يجعل علاقتنا الأساسية بالعالم نظرية أكثر منها عملية، كما لو أننا ولدنا نظريين ثم تعلمنا العملية. أصر تلميذ هوسرل - مارتن هايدجر - على العكس؛ أي إننا كنا أصلا «في العالم» بفضل اهتماماتنا العملية، وإن الفلسفة يجب أن تحلل هذا الوعي «دون النظري» بهدف الوصول إلى الوجود. بالمثل، أصر سارتر - كما رأينا - على أن كل المعرفة «ملتزمة». كما تحدث ميرلوبونتي عن «قصدية فاعلة» معينة لأجسادنا العائشة كانت تتفاعل مع العالم قبل تصورنا التأملي له. حتى هوسرل، في سنوات حياته اللاحقة، بدا وكأنه يعترف بهذه الادعاءات عن طريق تقديم مفهوم «عالم الحياة» باعتباره الأساس دون النظري لتفكيرنا النظري.
نامعلوم صفحہ