وجودیت دینیہ
الوجودية الدينية: دراسة في فلسفة باول تيليش
اصناف
كان مصير اللاهوت دائما معلقا بتاريخ المذاهب الفلسفية، يتغير بتغيرها. فعندما نشأت الفلسفات الحسية والتجريبية والطبيعية نشأ اللاهوت الطبيعي عند بالي وهيوم، وبعد نشأة المذاهب العقلانية الكبرى نشأ اللاهوت العقلي عند فولف وليبنتز وكانط.
وعندما ظهر الطريق الثالث في الفلسفة بين هذين التيارين المتعارضين اللذين جعلا الوعي الأوروبي أشبه بالفم المفتوح؛ أي طريق فلسفات الحياة والظاهريات وفلسفة الوجود، ظهر اللاهوت الوجودي عند فروم وتيليش وبارت وبولتمان، يرتبط بالإنسان، وليس بالله، ويحلل الوجود الإنساني في أبعاده المختلفة من هم وقلق وموت ويأس وأمل وزمان وجسم. ومنذ فيورباخ في «جوهر المسيحية» لم يعد اللاهوت «علم الله»، بل تحول إلى «علم الإنسان»، وتحول الموقف الزائف المغترب في الدين إلى موقف شرعي أصيل. فالله هو أعز ما لدى الإنسان، جوهره وماهيته، يقذفها الإنسان خارجا بدلا من أن يبقى فيه فينشأ اللاهوت المزيف المغترب القديم، أو يسترده الإنسان فينشأ اللاهوت الإنساني الوجودي الشرعي الأصيل.
وقد ساهم اللاهوت البروتستانتي في بلورة اللاهوت الوجودي أكثر من اللاهوت الكاثوليكي، وذلك منذ أن ربط لوثر بين الحقيقة الدينية والإيمان الشخصي في اللحظة وليس في التاريخ. فالإيمان علاقة رأسية بين الله والإنسان، وليس علاقة أفقية بين المسيح والكنيسة. فالإيمان شخصي وليس تاريخيا، والوحي في الكتاب وليس في التراث الكنسي. ويتم الخلاص بالإيمان وحده - التقوى الباطنية، وليس بالأعمال - أفعال الشريعة والمظاهر الخارجية.
وهنا تبدو الوجودية عند تيليش وبارت وبولتمان وجوجارتن وياسبرز ومارسيل وبيرديائيف وشستوف وروبنسون فلسفة إيمانية، بالرغم من أنها تركز على الوجود الإنساني، كما هو الحال في «لاهوت الأزمة» و«لاهوت الألم». وكما هو الحال في الوجودية، السؤال أهم من الجواب ووصف الأزمة أهم من حلها. ولا فرق بين وجودية مؤمنة من نوع وجودية تيليش، ووجودية أخرى عند نيتشه وهيدجر وسارتر لا تشير إلى البعد الإيماني صراحة، وإن كانت البدائل المطلقة موجودة، مثل: إرادة القوة والإنسان المتميز والحياة عند نيتشه، والوجود العام والزمان عند هيدجر، والحرية والعدم عند سارتر.
ولأول مرة في اللغة العربية تظهر هذه الدراسة، في فلسفة بول تيليش بعنوان: الوجودية الدينية عن اللاهوت الوجودي، في مجتمع ما زال يعلن أن اللاهوت علم مقدس ثابت لا يتغير، وأن الوجودية كفر وإلحاد وإنكار الدين والإيمان، وما زال يظن أن الحديث عن الوجود الإنساني دون ذكر الله صراحة أو البداية به أقرب إلى العلمانية الغربية منه إلى الإيمان الإسلامي، بالرغم مما قاله الصوفية من المقارنة بين الله والإنسان الكامل، وبالرغم مما ورد في الأثر الفلسفة الوجودية تطرد بصورةمن أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله.
وهي دراسة عامة وشاملة، تبدأ بمدخل إلى عالم بول تيليش، وتبين الالتقاء بين الوجودية والدين، وأن الوحي ليس فقط إجابة على أسئلة نظرية، بل يقدم أيضا حلولا لمشاكل عملية متجاوزا الوجودية الخالصة التي تقوم على التساؤل. ثم تعرض الدراسة لأهم ملامح الفلسفة الوجودية، مثل رفض الأنساق الفلسفية التي تقوم على الماهية، والتركيز على أبعاد الوجود الإنساني، مثل الفردية والذاتية والوجود الأصيل، والحرية الإنسانية، والموقف، والمسئولية والالتزام، مع بعض الاستطراد قبل الدخول في الوجودية الدينية عند تيليش.
كما تؤصل الدراسة اللاهوت الوجودي عند أوغسطين، والمعلم إيكارت، ويعقوب بوهمه، دون ذكر كبار الصوفية في العصر الوسيط، مثل القديسة تيريز من أفيلا، والقديسة كاترين من جنوا، والقديسة كاترين من سين. كما تؤصله عند بعص الفلاسفة المحدثين مثل بسكال ومين دي بيران، أو الذين يعطون الأولوية للتجربة الحية السابقة على التفكير. وقد كان سقراط من قبل إماما للجميع.
وتعرض الدراسة لمصادر فكر تيليش، ابتداء من عرض سيرة حياته وتطوره الفكري، وتأثره بشلنج الذي كانت فلسفته أيضا تحويلا للدين - في «مقدمة في علم الأساطير» - إلى تجارب إنسانية حية تعبر عن نفسها بالأسطورة، وكما فعل شتراوس ورينان في «حياة يسوع». فالأساطير الدينية في بدايتها تجارب حية فردية واجتماعية وتاريخية تتم صياغتها بالخيال من خلال البعد الفني، قبل أن تتحول إلى تصورات تقوم على التنزيه العقلي؛ لذلك ارتبط تيليش بكيركجارد، وشلنج ونيتشه، بفيلسوف الوجود، وفيلسوفي الأسطورة.
ثم تعرض الدراسة لفلسفة تيليش واللاهوت الوجودي لديه، ومدى تعاون اللاهوت والفلسفة في صياغة الفكر. الفلسفة تعطي الفكر، واللاهوت يعطي الأنطولوجيا. الفلسفة تعطي المعرفة، واللاهوت يكشف الوجود؛ وبالتالي، أصبح تيليش فيلسوف وجود وأحد مؤسسي الأنطولوجيا المعاصرة. وكان من الطبيعي بعد حربين عالميتين طاحنتين، كانت ألمانيا فيهما هي الخاسرة، أن يحاول تيليش إعادة بناء الأمة والوطن، على أساس ديني، آخذا في الاعتبار أزمة الواقع ومتطلبات العصر. فأسس «لاهوت الحضارة» كي يمكن إعادة بناء الحضارة الإنسانية على ماهية أو جوهر مستمد من الدين باعتباره حاملا للقيم الإنسانية الثابتة والمطلقة.
ويبدو أن عصر النهضة بعدما تحول من التصور المركزي حول الله
نامعلوم صفحہ