وجودیت دینیہ
الوجودية الدينية: دراسة في فلسفة باول تيليش
اصناف
ذلك أن الوجودية قد ظلت كائنة في مستويات البحث العميق والثقافة الرفيعة، يعبر عنها فلاسفة راموا أن يكونوا إنسانيين بمعنى ما، وتلقي بظلالها على أعمال أدباء وشعراء عظام أمثال دستويفسكي وهولدرلين وإليوت، ثم جيمس جويس وكافكا وبيكيت وغيرهم ... حتى كانت الأربعينيات من هذا القرن، وكان جيلها في أوروبا ليشهد أهوال حربين عالميتين، فرأى أن الدول والحكومات النظامية تتخذ قرارات من المفروض أنها عقلانية مدروسة، فتؤدي إلى الخراب والدمار والفزع واليتم والترمل والثكل. ساد هذا الجيل القلق والمعاناة والرفض لكل ما هو موضوعي جمعي عقلاني، وآمن بأنه لا أمل إلا في الخلاص الفردي؛ فكان المرتع الخصيب للوجودية، تفجرت في بلدان القارة الأوروبية، وأصبحت زاد الثقافة، بل الحياة اليومية. على أن وطأة أثقال الحرب أشاعت التشاؤم والسوداوية وفقدان المعنى والأمل والثقة في كل كيان أكبر من الفرد، مما جعل الأجواء، مهيأة أكثر للسير في مقولة الفردانية حتى الوصول إلى أن الإنسان مهجور في هذا الكون - أي إنكار وجود إله يلوذ برحمته الواسعة وقدرته الشاملة، وكتيار فرعي للوجودية التي رأيناها أصلا وأساسا مؤمنة - اشتدت الوجودية الملحدة التي يعد فردريك نيتشه
F. Nietzche (1844-1900م) رائدها، وهيدجر أعظم منظريها، وهو في الواقع أعظم منظري الوجودية على إطلاقها. أما الوجوديون الملاحدة في فرنسا بزعامة قطب الوجودية الأشهر جان بول سارتر
J. P. Sartre (1905-1980م) - ورفقة سيمون دي بوفوار وألبير كامي - فقد تميزوا بموهبة أدبية دافقة، فصاغوا وجوديتهم العبثية التشاؤمية في قوالب فنية جذابة؛ مقالات ومسرحيات وروايات وقصص رائعة، أكسبتهم - دونا عن سائر الوجوديين - شهرة واسعة وجمهور قراء غفيرا، ما كان أحد منهم ليقرأ حرفا واحدا في البحوث الفلسفية المتخصصة. لقد كانت كتاباتهم إنجيل جيل الأربعينيات والخمسينيات.
ووصل هذا المد إلى المكتبة العربية في الستينيات، وامتلأت بأعمال جمة تعرض للفلسفة الوجودية، بحثا ودراسة ونقدا وترجمة ومقارنة وتأصيلا وأحيانا إضافة، ولكن أيضا كان الذيوع من نصيب الوجودية الملحدة؛ سارتر ثم نيتشه ثم هيدجر. حتى وإن كانت قد ظهرت بعد ذلك بعض الدراسات القيمة والترجمات الرصينة لآثار الوجودية المؤمنة، وعروض شمولية للوجودية تستوعبها، فإنه لا تزال الوجودية الملحدة، خصوصا عند سارتر بالنسبة للمثقفين، وعند هيدجر بالنسبة للمتخصصين، هي التي تقفز إلى الأذهان كلما ورد المصطلح في الأوساط العربية. وقد تذكر أو لا تذكر الوجودية المؤمنة، ودع عنك الوجودية اللاهوتية والدينية.
وبلغ هذا الخلل الفلسفي حدا، جعل مصطلح الوجودية يرتبط عندنا في أذهان أنصاف المثقفين بالإلحاد، وقد يطابقه!
والواقع أن هذا الخلل لا يعود فقط إلى قدرات الوجوديين الملاحدة الفلسفية ومواهبهم الأدبية أو إلى ظروف حضارية لهم موئسة، فساعدت على رواج أعمالهم؛ بقدر ما يعود إلى غموض والتباس شديدين يحيقان بمفهوم الوجودية، وليس فقط في أوساط المثقفين أو حتى المتخصصين، بل وأيضا في أوساط الفلاسفة، والفلاسفة الوجوديين أنفسهم! فمن ينطبق عليهم هذا الاسم جمع غفير من الفلاسفة «ليس يجمعهم شيء بقدر بغضهم وتقاذفهم لبعضهم، وتبرؤ معظمهم من هويته الوجودية.»
19
حتى شك سارتر نفسه في أن لقب الوجودية قد أصبح خاليا من المعنى. وهيدجر وياسبرز ومارسيل الذين لا بد أن يشملهم أي نقاش للوجودية، رفضوا جميعا هذا اللقب حتى انتهى «روجرشن» إلى أن الوجودي الذي يحترم نفسه لا بد أن يرفض أن يطلق عليه لقب وجودي، وهو يقصد أن الوجودي الحقيقي يرفض التقولب في قالب معين بحيث يصبح فردا في فئة تعرف بالوجوديين.
20
ويبدو أن هذا هو السبيل الوحيد الذي تراءى لشن «كي يخرج من متاهات الوجودية» ساعد على تفاقم أحابيلها الهرج والمرج والضجيج والجلبة التي لحقت بالوجودية في أعقاب الحرب العالمية، ولكن مع أفول الستينيات شب عن الطوق جيل لم يشهد أوزار الحرب العالمية، واستعاد الثقة بالعقل، وإلى حد ما بالهيئات النظامية، فلم يلق هواه مع الوجودية. لقد انحسرت موجتها بعد طول مد، وتقلصت، بل تلاشت كبدعة شعبية، يتشدق بها عن وعي وعن غير وعي المثقفون وأنصاف المثقفين وأشباه المثقفين، وتبقى الأسس النظرية إثراء للإنسانية، وموضوعا للبحث الأكاديمي، الهادئ الرصين والمثمر، فتوضع نقاط على الحروف.
نامعلوم صفحہ