الفصل الأول
قال الراوي:
أطلت خيلاء من نافذة مخدعها في أول الصباح، وكانت الشمس ترسل أول أشعتها تتدسس بها بين جذوع الأشجار، وخلال أوراق الغصون، وعلى رءوس الربى الخضر المحيطة بقصر غمدان. وكانت رءوس جبلي نقم وعيبان ما تزال متسترة وراء غلالة رقيقة من الضباب، ترمق الشمس من وراء نقابها الشفاف، كأنها حسناء منعمة تطل من ثنايا أستار قصرها الشامخ لتجتلي طلعة ملك في موكبه. وكان في الجو عطر لطيف لا تشبهه عطور الزهر، يسري في الكون خفيا لا يدركه الحس، ولكنه يملأ النفس بهجة، ويشيع فيها شجوا هادئا.
وكانت الآفاق تبدو في النور الخافت وسنى ساكنة، وإن كانت تنبض بمثل نبضات الأمواج الهادئة في البحيرة الصافية، وتتردد منها أغنية صامتة لا تقع في الأسماع، ولكنها تبلغ أبعد أغوار القلب. أو هكذا أحست خيلاء وهي تفتح نافذتها المرمرية في مخدعها، وتطل على مروج صنعاء الفسيحة الباسمة. وأخذت تملأ صدرها من النسيم الفاتر الذي يحمل رسالة الخريف الوديع من البساتين المزدهرة الممتدة حول القصر. أهو الخريف؟ أهو الخريف الذي تذبل فيه أوراق الأشجار وتصفر وترف متساقطة مع هبات الهواء؟ أم هو الربيع قد عاد أدراجه مترددا متشبثا بحقل صنعاء اليانع، لا يريد أن يتخلى عن بساتينه ومروجه؟ وأجالت خيلاء بصرها في المنظر الممتد تحت عينيها، وكانت الأحاديث الصامتة تتردد في سرها منسابة في رفق كما ينساب ماء الجدول الصافي في ظلال الخمائل. ورأت هنالك تلك الشجرة الضخمة التي تبسط أغصانها على ممشى البستان، وذلك الطريق الملتوي الذي يخرج من بين الشجيرات كأنه يتفلت منها مداعبا. ما كان أبهج الألوان في ذلك الصباح، كأنما هي باقية على ما كانت عليه في أصائل الربيع ، عندما كانت الأزهار تتفتح ضاحكة متبرجة، لا تداري مرحها ولا تتواضع في المباهاة بحسنها. وهنالك الركن الظليل الذي تعرش فوقه أعواد الياسمين، وتلك الربوة التي تتسلق عليها الأعواد المدادة وتلف خيوطها الدقيقة على ما يعترض سبيلها من فروع النبات، حتى تتوكأ إلى القمة وتدلي بعناقيد زهرها الأحمر، كالعروس إذا جليت ليلة الزفاف. لقد مضى حين طويل منذ تلك الأماسي السعيدة التي كانت خيلاء تمرح فيها هناك مع سيف. ولقد شهدت هذه الأركان الظليلة كل مشاهد السعادة التي مرت بها في حياتها. هناك كانت تلعب مع سيف في أيام الصبا، وهما يسابقان ظلهما ويتفننان في صياغة العقود من الأزهار، ويتسلقان الربوة ليطلعا من فوقها على أعشاش العصافير في أعالي الشجر، ويرقبا يوما بعد يوم هل خرجت أفراخها من بيضها؟ وهل كسا الزغب أجسادها الحمراء المرتعشة؟ وهل استطاعت أن تهز أجنحتها وتطير جافلة وراء أبويها إلى أعالي الغصون، ثم تقف هناك تنظر إليهما وهي لاهثة كأنها تعابثهما. وسألت خيلاء نفسها: أما زال سيف في صنعاء ولم تره منذ أسبوع؟ أيكون في غمدان وهي تترقب كل يوم أن تلمحه في بعض مماشي البستان أو في جانب من البهو، فلا يلوح لها ولا يسعى إلى لقائها؟ لشد ما تغير سيف في تلك الأسابيع الأخيرة. كانت كلما رأته توقعت أن يقبل عليها باسما في خجل يعتذر إليها من انقطاعه عنها، ويحدثها عما عاقه عن لقائها من صيد أو نزهة، ولكنه كان ينظر إليها مرتبكا مضطربا، ثم يستأذن فيمضي سريعا كأنه يهرب من لقائها. أهو سيف الذي نشأ معها وأنس إليها وكان لا يستطيع أن يذوق طعاما ولا أن يطيب له سمر إلا معها؟ أهو سيف الذي جعلها ترى في الربيع ما لم تره عين، وتسمع من أناشيد الحياة ما لم تسمعه أذن؟ أهو سيف؟
أكان يحيي فيها تلك السعادة لكي يذيقها من بعد مرارة الوحشة وقلق الخوف والشك؟ وما الذي اعتراه فجعله يغيب عن القصر أياما قد تمتد إلى أسابيع، فإذا ما عاد من غيبته الطويلة لم يسرع إلى تلك المسارح التي كانا يمرحان فيها معا، ولم يسع إليها معتذرا يداري ذنبه في ابتسامته الوديعة؟ وما ذلك الذي ينزوي به في مخدعه فلا يكاد يبرحه، حتى إذا لقيها عفوا في ساعة لم يزد على تحية قصيرة يعقبها صمت، ثم يمضي عنها كأنه يجمجم في نفسه حديثا خفيا؟ كانت خيلاء إذا رأته وتلاقت نظراتهما بعثت إليه عتابا لا يمكن أن يخفى عليه. كانت نظراتها تكاد تصيح به حانقة، ومع ذلك فقد كان يغضي مسرعا ثم يغلق نفسه دونها. وسألت نفسها: أيكون في موكب اليوم؟ أيذهب إلى الكنيسة في موكب أبيه الملك؟ أم يتخلف عنه كما تخلف من قبل مرارا؟ وذكرت يوم ذهبت في أول موكب إلى الكنيسة العظمى يوم افتتحها الملك أبرهة مع رسول قيصر، كان يوما لا تنساه، كأنه علم في حياتها.
وكان سيف في ذلك اليوم يركب مهره الأبيض الذي أهداه إليه أبوه ويسير وراء هودجها، تراه كلما نظرت من ثنايا الستور الحريرية، وهو ينظر نحوها باسما. ثم جلس في الكنيسة إلى جنبها، وكان يرتل معها بألفاظ رومية، وكلما أخطأ في لفظ وقف حتى يتبع صوتها، وكاد يضحكها إذ كان يبدل كلمات الترتيل بأخرى من عنده عربية لا تتسق مع الصلاة. أيذهب سيف في موكب اليوم؟
وارتدت خيلاء من النافذة وعلى قلبها سحابة، فذهبت إلى ركن مخدعها نحو تمثال فضي بارع الصناعة ليسوع الطفل في مهده، وأمه العذراء إلى جنبه، تمد كفيها نحوه في عطف، وترنو إليه في حنان وخشوع. وكان ذلك التمثال هدية أهداها إليها الملك الطيب أبرهة إظهارا لإعجابه بتقواها وحماستها لديانة المسيح. وكانت العذراء حاميتها، تلجأ إليها في سعادتها كما تلجأ إليها في قلقها واضطرابها، وكان المسيح سيدها وملاذها، تتجه إليه ليزيد قلبها حبا وسلاما. ونظرت إلى الصورة بقلب متلهف وهي تكاد تسمع منها أصداء المحبة والرحمة التي كانت تنبعث من الأم الطاهرة البتول إذ تناغي وليدها.
وجثت في صمت وضمت كفيها وأمالت رأسها تصلي، وقلبها يسبح شجيا يمتزج فيه القلق والأمل، وكانت صلاتها الصامتة حارة تتجه فيها إلى منبع الحب الفياض؛ ليزيد قلبها حبا. وأحست بعد قليل أن السلام يغمرها، فقامت كأنها ألقت عن صدرها ما فيه من هم وملأته أملا. وذهبت خفيفة إلى خزانة الملابس لتختار الثوب الذي تلبسه لموكب اليوم، فسوف تذهب مرة أخرى إلى الكنيسة العظمى التي جعلها أبرهة آية من آيات الإبداع؛ ليظهر فيها ديانة المسيح على الوثنية البلهاء. وحانت منها نظرة إلى المرآة المعلقة على جدار المخدع، فتعلقت بالصورة التي بدت لعينيها، ولمست بأطراف بنانها جانب شعرها الأسود الغزير، وتبسمت عندما تذكرت سؤال سيف لها عن ذلك الخال الأسود الذي يتوسط خدها. أحقا سميت خيلاء من أجل تلك النقطة السوداء التي كان سيف يحدثها عنها كلما لقيها؟ كان يقول لها إن ذلك الخال الأسود بقية من جلدها القديم أيام كانت من قوم أبرهة. وكانت هي تفاخره بأنها عربية مثل الملكة ريحانة. وصرفت بصرها عن المرأة في شيء من التردد، وقد أحست بما يشبه الخجل من شعور الغرور الذي خامرها.
واختارت ثوبا حريريا أبيض تزينه خيوط من الذهب والفضة، وقطع من الجواهر المؤتلقة في مواضع أزراره. وكان الثوب من صنع القسطنطينية العظمى، وهو من هدايا قيصر إلى صديقه أبرهة اعترافا بفضله في خدمة المسيح. ولطالما حدثها سيف عن أمنيته في زيارة عاصمة قيصر، تلك العاصمة الكبرى التي تبعث مثل هذا الثوب الرائع، وما يكون أروعها من رحلة لو تحققت، فذهبت مع سيف يريان معا من عجائب الأرض ما لا يخطر على قلبها. وحملت الثوب إلى النافذة فرفعته بين يديها ليستقبل من ورائها نور الصباح متلألئا، ولكن الشمس لم تشرق بعد. ألا ما أبطأ الشمس في طلوعها من وراء الأفق! ألا يكون سيف قد خرج إلى البستان ليملأ صدره من نسيم هذا الصباح؟ وعادت تسأل نفسها: أيذهب اليوم إلى الكنيسة ويجلس بجانبها؟ وعادت إليها صورته يوم ذهبا إلى هناك معا وجلس إلى جانبها، وكانت أصوات الترتيل ترن بين الجدران جليلة عميقة كأنها تسبيح الملائكة. أيجلس إلى يسارها كما جلس من قبل ويهمس في أذنها همسات خافتة في أثناء الصلاة؟ كان يحدثها مرحا عما سمع عن القسطنطينية وعن قصر خليفة المسيح فيها، وكان متدفق الهمسات ظريف الفكاهة، حتى إنه لم يصمت في أثناء الصلاة. كان الكهنة يرتلون صلوات لا يفهم منها حرفا، والناس من ورائهم ينشدون جماعة. وكانت هي تحفظ ذلك الترتيل كما تحفظ أغنية عذبة، وهمس سيف عندما تعثر في ترتيله الرومي قائلا: ألا يفهم الله الصلاة إلا بالرومية؟ عفا الله عنه فإنها سوف توصيه إذا رأته ألا يعود إلى مثلها. ولكن أيحضر موكب اليوم؟ أم يتسلل من مخدعه كما تسلل في أيام أخرى، فيغيب أياما يقضيها حيث لا تدري؟
وأتمت زينتها في احتفال وعناية، وتلك الأحاديث تتردد في ضميرها، ثم عادت إلى النافذة تقلب بصرها في الأفق، وكانت الشمس قد زحفت بطيئة في طرف القبة اللازوردية، وأخذت تمسح بأشعتها على خصل الأغصان الخضر. ودبت الحركة في جوانب القصر فاترة، كأنها تتمطى في أول يقظتها.
نامعلوم صفحہ