وكأنها كانت تنتظر منه تلك الكلمة، فرفعت رأسها تنظر إليه نظرة ملؤها الشكر، وقالت: أنت هذا إلى جانبي يا سيف؟
فقال لها: أنا فداؤك أيتها الأم النبيلة، هوني عليك فإن هذه الأحزان تزيدك نبلا. إن قلبك الذي تحمل كل هذه الصدمات يجعلني أفخر بأنك أمي. كوني كما كنت دائما، أستمد منك قوتي وآوي إليك في لحظات كربي، وأستوحي منك سبيل الهدى. أماه، لست أجد من الألفاظ ما أبين به رحمتي وحبي وإجلالي سوى أن أقول أماه! وسأمضي عنك حتى تعودي كما كنت، فلا أراك من بعد إلا ظلا لي ونبعا وسندا.
وخرج من الحجرة كأنه يسير في حلم على رأس جبل، يرى من حوله فضاء ومن تحته فضاء، أنى رمى ببصره لم ير قرارا. رأى أن حياته كانت قائمة على هوة انكشفت فجأة بعد أن زال عنها غطاؤها، فرآها تفغر فاها مظلمة، ليس يدري ما ينطوي في جوفها. وبدت له الحقائق التي كان يطمئن إليها زائفة، والمعاني التي كان يستقر عليها ولا يخطر بباله أن يجادل فيها، مسارب ظنون يحيط بها الشك، وليس فيها موضع ليقين. عرف آخر الأمر أنه ليس ابن أبرهة، أليس هذا ما كان يود أن يعرفه؟ ولكنه عندما عرف الحقيقة أدرك أنه كان يهيم في الخيال، بل أدرك أنه كان يخدع نفسه بغير أن يحس، وأنه كان في قرارة قلبه يود لو بقي على نسبته. فعندما خرج من عند أمه أول مرة وقد سخرت من وساوسه عاد إليه هدوءه ورضي عن نفسه، شاعرا كأنه نجا من مأزق مخطر. ألم يكن ذلك لأنه كان يضمر أمنية خفية أن يبقى ولد أبرهة؟ وها هو ذا قد عرف الحقيقة، فماذا يجني منها؟ كيف يكون موضعه من يكسوم من بعد؟ وكيف يكون موضعه من خيلاء؟ أهي الأخرى لا تعبأ إلا بابن أبرهة؟ ونزل بغير أن يقصد إلى البستان، وسار في المماشي التي كان يسير في ظلالها مع خيلاء، وعادت إليه نبرات صوتها وهي تحدثه عن المساكين الذين كانت تراهم في ضوء القمر، يساقون إلى ناحية الجب العميق. كانت تهيم معه في الخيال مع أمانيها تقول له: «سنذهب يا سيف إلى أبيك إذا عاد، لتخرج هؤلاء إلى ضوء الشمس.» وسار يدفعه دافع نحو بناء كالح في زاوية القصر مما يلي مرابط الخيل. هناك كان يتسلل مع خيلاء إذا هما طفلان، فيتعلقان بالقضبان الحديدية التي تعترض النوافذ الضيقة القريبة من الأرض، ويتدسسان بنظرهما في ظلمة الفراغ الذي وراء النافذة، ويخيل إليهما أن أصوات الجن تنبعث خافتة من أعماق الجب العميق، تشبه صيحات بومة مخنوقة أو عويل قطة حبيسة، فيصيحان فزعا ويجريان مبتعدين عن البناء الغامض، حتى إذا ما صارا منه على مسافة مأمونة وقفا يضجان ضحكا ويصفقان ويقفزان. هذا هو الجب الذي حدثته عنه خيلاء منذ أسابيع قليلة، وكانت تحدثه بحزن عميق عن المساكين من أهل صنعاء الذين كان الأحباش يسوقونهم إليه في غلظة تحت الظلام. كان عند ذلك يحسب أن هؤلاء المساكين من رعاياه ورعايا أبيه، وأنه سيشفع لهم من أجل خيلاء. ووقف عند النافذة القريبة من الأرض، وخيل إليه أنه كان يسمع من وراء قضبانها الحديدية الصدئة أنينا بعيدا؛ إذن فهؤلاء هم قومه الذين يتعذبون ويفقدون أبصارهم؛ إذ يقضون أيامهم ولياليهم في غيابة الظلام، هم هناك يقضون أيامهم أنة بعد أنة، أو لحظة معذبة بعد لحظة. وثار قلبه غيظا من أجلهم ومن أجل نفسه؛ لأنه قد صار منذ ساعة أحدهم بعد أن كانوا رعاياه.
وانصرف مسرعا يحس كراهة تتزايد في قلبه، فلما بعد عن البناء الكالح التفت وراءه كأنه ينظر إلى الأنين الخافت يلحق به. وحمد الأقدار التي مهدت لأبيه سبيل الخلاص ليضرب في الأرض شريدا. ذو يزن! أو مرة ذو يزن! اسم له رنين، ولا غرو أن يكون صاحبه فارسا يستطيع أن يتحامل على نفسه في الليل وهو مثخن بالجراح ليهرب من العبودية. ولكنه لم يره يوما يبتسم له كما يبتسم الآباء إلى أبنائهم، ولم يشعر يوما بحمايته له ولا بمشاركته في عاطفة. لم يكن ذو يزن عنده سوى اسم، لا شخص له ولا صورة، ولو كان ابنا لأحد المساكين من الرعاة الذين يتواثبون على صخور الجبال وراء قطعان الماعز، لكان أحب إليه من أن يكون ابنا لخيال، فإنه كان يعرف ذلك الأب ويعيش كما يعيش ويشقى كما يشقى، لا يعرف وراء حياته أمنية جوفاء تقلق نفسه.
ومر بمرابط الخيل، فلمح من بعيد أحد السواس من الأحباش يركب مهره الأبيض، وهو يصهل في غضب ويقفز من تحته يريد أن يقذف به عن ظهره، ورفع السائس سوطه فأهوى به على رأسه، فصاح سيف صيحة مكتومة وأسرع يجري نحوه، حتى أدركه وقد رمى به المهر عن ظهره، وعرف المهر صاحبه فوقف حياله رافعا رأسه فاتحا خياشيمه وفي عينيه ذعر وغضب. وأقبل الحبشي بسوطه يريد أن يهوي به على رأس المهر، فبادر سيف إليه ونزع السوط من يده فأهوى به على وجهه بضربة حانقة، ولم يفهم شيئا مما صرخ به الحبشي وهو ينظر إليه نظرة وحشية، ثم ينصرف عنه مزمجرا. وأقبل سيف على مهره يمسح وجهه ورقبته، حتى هدأ وذهبت عنه رجفته، وأخذ يشم كتفيه ويصهل صهيلا خافتا، ثم قاده إلى مربطه وأوصى به كبير السواس. وقال في نفسه وهو ذاهب نحو القصر: «ماذا يكون من هذا الرجل لو عرف أنني لا أزيد على ابن ذي يزن؟» ولما دخل من باب القصر كان يتخيل في نفسه أن ذلك السوط الذي أهوى به على السائس قد نزل على وجه يكسوم. أيستطيع يوما أن يرد عليه إهانته؟
وزاد به الضيق عندما آوى إلى حجرته وأسلم نفسه للأمواج الصاخبة التي تدافعت إليه من شتى الآفاق، كيف يلقى الذين كان يلقاهم وهو ابن أبرهة؟ كيف يكون خطابه لهم؟ وكيف يكون خطابهم له؟ أيذهب إلى أمه آسفا يقول لها إنه يود أن يبقى أمام الناس كما كان، ولا يكشف لهم عن حقيقة نسبه؟ كم من صلات قديمة تنقطع عنه بعد يومه ذاك، وكم من صلات جديدة لا يعرفها سوف تصله بأقوام لم يلقهم من قبل؟ سوف تكون صلته الوثقى بهؤلاء الأشقياء الذين تلقى إليهم الفضلات ويسخر الأحباش من شقائهم، سوف يغضب لهم ويتلبس بمشاعرهم وينظر إلى الأشياء من ناحيتهم. وسوف يلقاه هؤلاء السادة الأذلاء الذين يحتشدون بباب القصر يتزلفون آل أبرهة، فينظرون إليه شزرا ويتبرءون منه علانية، كما كان يسمعهم من قبل يتبرءون من أبيه وهو لا يعرفه، وسوف تقع أقوالهم على أذن أخرى تحس في كل لفظ من ألفاظهم وخزة، ثم خيلاء، أكانت حقا ... لا! لم تكن خيلاء لتنظر نظرة أحد غيرها من الناس.
وسار في حجرته يحدث نفسه بألفاظ متقطعة تتخللها ضحكات تشبه أن تكون مأفونة: «إلى أين؟ من أين؟ ظلام فوق ظلام. أهذه هي الحقيقة؟ اسم جديد لخيال جديد؟ أهذه قصارى الحقيقة التي كنت أنشدها وأعذب نفسي من أجلها؟ أم هو حلم من الأحلام المفزعة التي طالما اعتادتني؟ أم هي صحوة من حلم طويل؟ أحقا رأيت الشمس طالعة في هذا الصباح ترسل أول شعاعها من وراء الأفق كأنه موكب قدسي؟ وهل كنت في الصباح حقا في موكب يكسوم، وذهبت إلى القليس واستمعت إلى ترانيم القسوس؟ وهل دفعني يكسوم قائلا: «ابن أبرهة أولى؟» أهاتان هما عيناه أم هما العينان اللتان أفزعتا أحلامي؟»
وضحك ضحكة أخرى جوفاء أفزعته، فأسرع خارجا من الغرفة إلى حيث لا يدري، وكأنه يهرب من نفسه.
وسمع صوتا في البهو يناديه: إلى أين يا سيف؟
فالتفت إلى خيلاء، وكانت تنتظر الشيخ أبا عاصم كعادتها ساعة الدرس، وقالت في لهجة الاعتذار: أراك مسرعا.
نامعلوم صفحہ