53

وضحكت ريحانة ضحكة كادت هي تفزع منها، وعادت تنظر إلى أعماقها لترى ما تخفي بها. أهي أمنية أم هي خشية؟ وماذا يفعل يكسوم لو صح أن أبرهة قد هلك كما تقول الأنباء التي يتهامس بها الناس إذا خلا بعضهم إلى بعض في ستر الظلام؟ كان يكسوم يزداد حنقا وقسوة يوما بعد يوم، ويزيده حنقا ما يرفعه إليه جواسيسه من همسات الناس في خلواتهم. كانت الطباق الرطبة الجاهمة التي في أغوار القصر تستقبل كل ليلة عددا من وجوه صنعاء، الذين يتهمهم الجواسيس بالتآمر على الثورة. بل إن يكسوم لم يتردد في أن يذهب إليها هي ليحدثها عن ولدها سيف وعن خيلاء، وأنهما يقضيان ساعات من الليل أو النهار وحدهما، يتحادثان فيما لا يدري أحد من الأحاديث، ويحضران معا دروس ذلك الشيخ الذي يفسدهما بآرائه التي لا تزيد عن سفاسف العامة. فكيف تسمح لسيف أن يجالس فتاة مثلها؟ وكيف يقيم الشيخ في غمدان عزيزا كأنه لم يكن في يوم من الأيام من أعداء أبرهة؟ أيبقى في القصر ليسمم قلب سيف ويلقي ستارا على اجتماعه بخيلاء؟ وكان يكسوم في ثنايا حديثه يشير إلى أن صبره كاد ينفد، وإلى أن سلامة الدولة لا تعرف قرابة ولا مجاملة. ومع هذا ستذهب معه في الموكب إلى الكنيسة وتصلي معه من أجل الانتصار، حتى لا يجد سبيلا عليها. وسمعت صوت الأبواق ودق الطبول، رأت تحت بصرها صفوف الأحباش تنتظم في صفوف وتستعد للموكب، ولن تستطيع أن تعتذر عنه بعذر من فتور أو مرض، بل إنها توسلت إلى سيف أن يركب معها حتى لا يلهب غضب يكسوم عليه.

وكانت كلما فكرت في ذلك الموكب زادت منه نفورا، وأحست هاجسا يهتف أنه ينطوي على نكبة. أيسير موكب في صنعاء الصامتة الكئيبة التي لم يمر عليها أشقى من الشتاء المنصرم ولا أشد كسادا من ذلك الربيع؟ لم تتوافد القوافل في ذلك العام كعادتها من الشمال والشرق، ولم تتلاحق السفن إلى شواطئ زبيد وعدن تحمل البضائع من أقصى أركان الأرض إلى صنعاء، ولم تنعقد الأسواق في ميادينها الفسيحة ولا في أرباضها الفيحاء، ولم يتزاحم أهل البوادي على الطرق المؤدية إليها صاعدين من كل فج عميق بما عندهم من سلع يعدونها طوال العام انتظارا للموسم الأكبر، ولم تكن صنعاء في ذلك العام ملهى صاخبا، فيه السمر إلى جانب البيع، وفيه المجون إلى جانب الجد، وفيه المسابقات والمباريات والمناضلات والمفاخرات بالأشعار. لم تشهد صنعاء في ذلك الشتاء المنصرم شيئا من كل ذلك؛ لأن الحرب تركتها خامدة مظلمة، وكانت طرقها الخالية وساحاتها العارية تبدو كأنها بقية من عالم مندثر. فهل كانت مثل هذه المدينة لتخرج بقية أهلها إلى الطريق العظمى لتحية الموكب، كما خرجوا لتحية أبرهة؟

وجاءت الوصيفة الحبشية لتؤذن الملكة بأمر سيدها أن الموكب في انتظارها، فسوت حلتها وحليها وقامت بطيئة بقلب ثقيل تسير في البهو نحو السلم الرخامي، ولما بلغت باب القصر كان يكسوم هناك بوجهه الجاهم، ومد إليها يده ليساعدها على الصعود إلى هودجها. وسارت الخيول بعد أن استوى الموكب. وكانت أصداء حوافرها تقعقع على الأرض الصلبة في الطريق الخالية. وكانت البيوت العالية مغلقة الأبواب والنوافذ عن اليمين والشمال. ونظرت ريحانة خلفها فزادت قبضة صدرها، كان سيف يركب جواده الأبيض عن يسار يكسوم، وكان ولدها مسروق يسير عن يمينه، وكان يكسوم على جواده الأدهم وعبدان يمسكان بزمامه، وفي يمناه حربة طويلة وهو يسمو بقامته وهامته الضخمة فوق الركب، ونظراته العابسة تبرق كما يبرق سنان حربته. إنه موكب يكسوم! ولاحت قبة الكنيسة مشرفة من بعيد من بين أشجار الجوز والليمون والسمر والسلم. ثم بلغ الموكب الباب المزخرف ذا الياقوتة الحمراء. وكان القسوس وقوفا تحت الدرج الواسع في استقبال الركب الملكي، يلبسون مسوحا سوداء واسعة، وعلى رءوسهم قلانس عالية، وتقدم القس الأكبر من الملكة، وفي يده صولجان من الأبنوس يعلوه صليب من الفضة.

ونزل يكسوم عن فرسه مسرعا، فقبل يد القس منحنيا، ونزلت الملكة في ثيابها البيض وعباءتها الحريرية الزرقاء، وكانت حليها تتوهج بالجوهر. وتقدم القس نحوها رافعا يده بالصولجان، ونطق لها بكلمات رومية فهمت منها أنها تحية مقدسة، فانحنت له في صمت، وسارت رافعة الرأس نحو الباب بين صفي القسوس حتى شقت الصحن. وكانت نوافذه العالية تصفي شمس الضحى في صفائحها المرمرية وزجاجها الملون، فيغمر الضوء الخافت الفسيفساء الأنيقة التي كانت تزخرف الممشى، ويخلع على جو الكنيسة غموضا وجلالا.

وأقام القس الصلاة، وكان ترتيله عميق الصوت يرن في جنبات الصحن، والصفوف المتراصة على المقاعد تنصت خاشعة. ولما فرغ من ترتيله أتى إلى الملكة والأمراء، فأشار إليهم ليذهبوا إلى قدس الأقداس. وكانت الشموع هناك تضيء الحجرة الضيقة بنور ضئيل، يغشى الجدران بظلال المذبح والتماثيل القائمة حولها، وكانت روائح الند والعود تفوح من مجامر النحاس ممتزجة بعطر المسك الذي طليت به الجدران.

وعادت الترانيم ترن جليلة عذبة، وأقبل القس الأكبر نحو الملكة رافعا صولجانه مرتلا بصوت هادئ، وتلقت الملكة بركته راكعة تميل برأسها نحوه، فلوح بالصليب فوق صدرها ورأسها، ولمس به تاجها الذهبي عند اللؤلؤة التي تتوسطه.

ولما فرغ من مباركته ذهب يكسوم إليه، فتناول طرف الصولجان وقبل الصليب وخشع يتلقى البركة، حتى إذا فرغ القس منه أقبل نحو سيف يباركه، وعلقت الملكة نظرها في وجه ولدها والقس يقترب منه، فإذا يكسوم يسرع ويدفعه في عنف، ويقدم أخاه (مسروق) نحو القس قائلا: «ابن أبرهة أولى.»

وكانت الحركة أسرع من أن تتنبه ريحانة إلى بدئها ونهايتها، فما كادت تفطن إليها حتى رأت وجه سيف يشتعل، ثم يتجه إلى يكسوم متحديا في حنق، وأحس القس حرج الموقف، فأسرع يبارك الفتى الذي تقدم إليه، وذهبت ريحانة إلى ولدها الذي أذهلته المفاجأة، ولكنه بادر قبل أن تدركه فانفلت من الحجرة قائلا: «لا حاجة بي إلى بركة.» وظهرت في عيني الأم دمعة، فحولت بصرها إلى الباب الذي خرج منه سيف، ودارت بها الأرض فلم تتمالك نفسها، حتى اقترب القس منها وعلى وجهه أثر من الارتباك وتمتم بكلمات، فقالت ريحانة: «عفوا أيها الأب المبارك»، ثم انصرفت خارجة.

وعاد الموكب في الطريق الخالية حتى بلغ القصر، وذهبت الملكة إلى جناحها مسرعة، حتى إذا بلغت مخدعها ألقت بنفسها على أريكة وغلبتها دموعها.

وجاء إليها سيف بعد قليل، فوقف عند رأسها ينظر نحوها صامتا، ثم ناداها بصوت خافت: مولاتي!

نامعلوم صفحہ